تجربة الصين فى مكافحة الفساد
صحيفة الشروق المصرية:
فاروق حلمي:
لا شك أن الرئيس القادم وحكومته سيجاهدان من أجل النهوض بمصر من كبوتها، إلا أنهما سيحتاجان لتعاون من جانب الشعب بانصرافه للإنتاج وتحمل المزيد من التضحيات حتى تبدأ جهود رفع مستوى المعيشة تؤتى ثمارها.
وكلنا نعلم أن التراكمات الطويلة لسوء الحكم والإدارة وانتشار الفساد والمظالم قد خلقوا هوة سحيقة بين الدولة والجماهير، وأدوا لإنعدام الثقة بالحكومة وإشاعة اليأس، فضلا عن شيوع الفردية والانتهازية واللا مبالاة بالمصلحة العامة وإضعاف الانتماء للوطن.
وعندما ثار الشعب عام 2011 فإنه رفع شعارات أربعة لم يتحقق تقدما فى أى منها حتى الآن. فالمشكلات التى تنغص حياة الناس ما زالت قائمة، ورموز العهد السابق لم يعاقب أى منهم مما يغذى الشكوك بأنهم محميون وراء الأسوار، والأموال المهربة للخارج لم يسترد أى جزء منها، كما ما زالت مظاهر الفساد منتشرة دون خطوات واضحة لمنعها.
ومهما فعل الرئيس والحكومة فإنهما لن يمكنهما أن يقنعا الشعب بالتعاون وتحمل معاناة أطول، إلا إذا رأى الأخير أمامه عملا ملموسا يشجعه على الصبر ويجعله يثق فى مصداقية النظام الجديد خلافا لسابقه. ومن هنا تثور الحاجة لخطوات جذرية لبناء الثقة المفقودة وإقامة تحالف بين الطرفين، يمكن من خلاله تعبئة طاقات المواطنين وراء أهداف التنمية وجعلهم عنصرا فاعلا فيها.
***
وأمامنا تجربة حية فى الصين يمكننا أن نتعلم منها. فلقد أدرك الحزب الشيوعى والحكومة هناك أن سياسات الانفتاح وإطلاق حرية القطاع الخاص والنمو المتسارع للاقتصاد والثروات قد أدوا إلى خلق فجوة هائلة فى الدخل والثروة ولتزايد التسيب والفساد، وهو ما أضعف سلطة الحزب وما رآه فى ذلك من إضرار بالأمة.
فقام الحزب والحكومة بتضمين الخطة الخمسية الحالية للدولة (للسنوات 2013 ــ 2017) منظومة لمحاربة الفساد بصرامة أكبر ومعاقبة الضالعين فيه، وأطلق الزعماء الجدد منذ بداية 2013 حملة قومية شاملة لمحاربة الفساد.
وتعكف هيئات رقابة الانضباط بالحزب على تنظيم جولات تفتيش على المسئولين، لتتبع السلوكيات غير المشروعة مثل المتاجرة بالنفوذ من أجل الأموال وإساءة استغلال السلطة والرشاوى، بالإضافة لأساليب العمل الضارة كالبيروقراطية والشكلية والرفاهية والبذخ وحتى التراخى فى القيام بالواجبات.
وكلفت اللجنة المركزية للحزب قيادات الحزب والدولة بدءا بالرئيس ورئيس الوزراء ونوابه بتولى مسئولية أنحاء مختلفة من البلاد، والإشراف على تطبيق معايير عالية للحملة فيها، بهدف رفع المستوى الفكرى لدى المسئولين وإحداث تغييرات فى أنظمة عملهم.
وأصدر المكتب السياسى للجنة المركزية قواعد تقضى بمنع استخدام لافتات الترحيب أو السجادة الحمراء أو أكاليل الزهور أو حفلات الاستقبال لزيارات المسئولين، ونبه لوجوب خفض الإنفاق على الجولات التفقدية لأدنى مستوى.
***
وأمرت السلطات بالتطبيق الحازم للقواعد التى تحتم على المسئولين الإبلاغ عن الأصول المالية والدخول الخاصة بهم وبأسرهم وأى أنشطة استثمارية لهم، وأنشأت خطوطا ساخنة ومواقع مضادة للفساد على الإنترنت، وعززت النيابة العامة أعمالها فى جمع الأدلة وحماية المبلغين والشهود.
كما تتضمن المعايير قواعد تحكم مزايا المسئولين ورفاهيتهم، وفقا لحزم متباينة على أساس مستوى المسئول تتضمن المنازل والسيارات والحفلات والاجازات والسكرتارية والحراسة الأمنية، بهدف ضمان تمتعهم بالمميزات التى تتوافق مع مستوياتهم أثناء شغلهم للوظيفة فقط.
وقد تمت إدانة 31،555 مسئولا بجرائم لها صلة بالعمل خلال العام الماضى، وتلقى 23 % منهم عقوبة السجن لأكثر من 5 سنوات، وكان 680 منهم يتقلدون مناصب رفيعة فوق مستوى المحافظة. وتضمنت تلك الجرائم الاختلاس والرشوة والتقصير فى العمل وانتهاك المصالح الشخصية والحقوق الديمقراطية للمواطنين.
كما تمت أيضا معاقبة 38،135 شخص بتهمة انتهاك لوائح مكافحة البيروقراطية حتى نهاية فبراير الماضى، وشملت الانتهاكات مخالفة انضباط العمل واستخدام الأموال العامة فى الأنشطة الترفيهية والكسل والبطء فى العمل.
كذلك قامت السلطات بالتحقيق مع ومعاقبة 829 من القضاة وموظفى المحاكم خلال 2013، وتم تحويل 157 منهم للمحاكمة لتلقيهم مكاسب غير مشروعة بينما فرضت عقوبات ضد الآخرين لارتكابهم لمخالفات انضباطية حزبية أو حكومية.
***
وامتدت الحملة إلى المجال الإعلامى، للتصدى للأخبار المختلقة ومنع الصحفيين والصحف من ابتزاز الأموال مقابل القصص الخبرية التى يكتبونها، مع الاستعانة بمنابر إلكترونية للإبلاغ عن الممارسات الخاطئة.
ووسعت السلطات حملتها مؤخرا لتشمل محاربة آفات أخرى فى المجتمع، بهدف مكافحة جرائم تجارة الجنس والدعارة والقمار والمخدرات ومعاقبة القائمين عليها.
وكان من بين النتائج الإيجابية للحملة أنه لم يعد المسئولون أحرارا فى اكتساب مميزات من مناصبهم، وانخفض نسبيا عدد المقدمين للمحاكمات والمعاقبين. كما أعاد مسئولون كبار سيارات وشققا تملكوها بطريقة مخالفة للوائح، وأوقف بناء مشروعات غير متمشية مع القواعد، وألغيت الرحلات غير الضرورية للخارج، وتقلص الإنفاق من الأموال العامة على الشكليات والسيارات والرحلات وخلافه.
***
والأهم من ذلك كله، هو العمل على إعادة بناء الثقة بين المواطنين الصينيين وبين الحزب والحكومة من خلال إثبات أنهما يعملان من أجل مصلحتهم وتحسين مستوى معيشتهم.
وأثق بأن الرئيس المنتظر وحكومته سيركزان جل اهتمامهما على تعبئة الشعب وراء عملية إعادة البناء وما ستتطلبه من تواصل المعاناة والتضحية لفترة لا شك أنها ستطول. وستكون جهودهما أكثر فعالية فى تحقيق أهدافها إذا ما تم إطلاق حملة مماثلة لهذه الحملة الصينية المضادة للفساد والبيروقراطية، وذلك بالإضافة لإظهار مزيد من الجدية فى محاسبة رءوس النظام السابق والمستفيدين من استغلال النفوذ والسعى لاسترداد الأموال المنهوبة من الخارج، وكذا دفع رجال الأعمال الذين استفادوا من صلاتهم بهذا النظام بشكل أو آخر للتبرع بجانب من ثرواتهم للأمة، مع إنشاء صناديق خاصة تحشد فيها هذه الأموال والتبرعات للصرف منها على المشروعات الملحة والكفيلة برفع سريع للأحوال المعيشية مثل مخاطبة مشاكل العشوائيات والرعاية الصحية وخلق فرص للعمل وغيرها.
والأمل معقود على أن يظهر الرئيس والحكومة نتائج ملموسة فى هذه الميادين لاكتساب ثقة الناس وحشد طاقاتهم لمساندة جهود الدولة، وإلا فإن ثورة الجياع قادمة لا ريب فيها وسيظل عدم الاستقرار يقوض أى جهود مخلصة لإعادة البناء ويهدد بالمزيد من التدهور.