الذكرى 58 لتأسيس القسم العربي للإذاعة الصينية: غَلبةُ الشرف وعُلوٌ مُحققٌ ومَكانةٌ رفيعة (2)
موقع الصين بعيون عربية ـ
مروان سوداح*:
يَحتفل أصدقاء القسم العربي لإذاعة جمهورية الصين الشعبية وأنصار وحُلفاء الصين بالذكرى الثامنة والخمسين لتأسيس القسم، المناسبة العزيزة التي صادفت في الثالث من نوفمبر الحالي.
ذكرى تأسيس القسم العربي المجيد تتحدث عن نفسها بالكثير من النجاحات، على صُعد صينية وعربية وعالمية. فقد تمكّن القسم من تثبيت إسمه بسرعة في فضاءات العالم العربي الكبير، وبين ألوف المستمعين الناطقين بالضاد، وصار جماهيرياً في أوساطهم، وطغت شعبيته في أثير الكون الفسيح، وعلا على إذاعات اخرى ليستمسك بالثريا دوماً، ما يُشير ويؤشّر على نجاعة اختيار الكادر الصحفي والاعلامي الصيني الناطق بإحترافية بالعربية في القسم العربي، والعمل مع عدد من المتخصّصن العرب، حاملي اللغة وأبنائها، بحيث صار النجاح يُترجم في النشر عن القسم في صحف البلدان العربية، ومواقعها الاعلامية الشبكية، في السماء الالكتروني، لينتشر إسم القسم العربي للاذاعة الصينية في كامل الجغرافيا العربية، ويدخل الى كل بيت ويدلف الى كل مؤسسة، وبدعم وحدب من لدن الحكومة الصينية، بمدِّه بكل ما يلزمه من أسباب التقدّم ونجاعة العمل بين شعوب عربية منتشرة على مساحات أقطار كثيرة، تتنازعها تباينات لغوية وثقافية ورغبات متعددة، بحيث ثبت صوت الصين بين تلك كلها، وغدا سريعاً، عاملاً وسطاً بينها، يُنادي بالتناغم والانسجام والمصالح المتبادلة على قدم المساواة.
الحديث عن القسم العربي لإذاعة الصين الدولية طويل، يُميط اللثام عن قصص الكتابة والمتابعة لبرامجها ورسائلها، أضف الى ذلك حكايا تبادل الصداقة مع كادرها القديم والحالي برئاسة مديرة القسم، الاستاذة النابهة سميرة – تساى جينغ لي، والإنغماس التام في شأنه السياسي والإعلامي والدبلوماسي والثقافي والحضاري، إذ أن مراسلة قسم إذاعي بمستوى وحَجم وأهمية القسم العربي للاذاعة الصينية التي تمثل الصين، وتُعتبر أقدم سفير لها في عالم العرب، يرتدي أهمية خاصة ومتقدّمة في سجل التاريخ الصيني والعلاقات الاردنية والعربية الصينية، التي شهدت تحقيق القسم العربي للاذاعة خطوة متقدمة وفِعلاً سبّاقاً لجَسر متين للعلاقات الاردنية والعربية الصينية، برغم ان جمهورية الصين الشعبية لم تكن قد أقامت أنذاك علاقات دبلوماسية أو سياسية مع عدد من البلدان العربية، بجريرة تلك البلدان بالذات، وليس لسبب صيني ما، إلا أن تلك الدول العربية جَسَّرت الهوّة الدبلوماسية مع الصين تدريجياً، بعد طرد ممثلية تايوان من مجلس الأمن الدولي للامم المتحدة، وَوَقف تمثيل “فرموزا” عنوة للأمة الصينية بدعم أمريكي وغربي مباشر، سياسي ودبلوماسي.
الكتابة عن ذكرياتي مع القسم العربي للاذاعة لا يتسع لها كتاباً، ولا مجلدات أو مؤلفات، ذلك ان علاقتي مع الاذاعة ليست وليدة صدفة ونزوة، رغبة أو سعياً وراء تحصيل جائزة ما ومكسب وقتي، بل كانت العلاقة وماتزال خياراً مبدئياً وأيديولوجياً ونضالياً، عندما كنت مُعبّئاً بحب الزعيم ماوتسي تونغ ووطنه، الذي غدا وطني الشخصي والاعلامي والسياسي كذلك، إذ كنت واستمر متمسكاً بالتاريخ الكفاحي الصيني والمعنى والهدف العالمي الاممي للألف ميل الاولى للتحرير الوطني للصين من ربقة الاستعمار الدولي وأغلاله، ورغبة بتحالف حقيقي مع الصين، يكون أرفع وأعمق من صداقة وعلاقات عابرة أو مروراً على نطق بالعربية في دولة أسيوية قصيّة، دعا الحديث الشريف المسلمين وكل المتحضرين والمثقفين والمهتمين بالأنسنة للحصول على العلوم فيها بالذات، وليغرفوا من أرث شعبها الطيّب.
في قضية علاقاتي مع إذاعة الصين الدولية، ولا أقول هنا “مسألة” علاقاتي التي تربطني بها، بل قضية علاقاتي معها، لكون العلاقات التي تربطني بالاذاعة هي مبدأ حياة وانعكاس لعقيدة ثبات على الأصل، وإعمالٌ لتحقيق تطلعاتي في مجالها السياسي السنائي، الذي جُلّه الاستمساك بصلادة بأرقى ما توصّلت إليه الامم الحليفة، ومنها الامة الصينية وقيادتَها المُجرّبة، لخدمة الانسان وخيره ومستقبل الكرة الارضية، ولنشر العدالة بين البشر، وتفعيل أنجع السُبل الى تحقيقها، وبألوان صينية جاذبة وجذّابة، ثبت نجاحها وتطويرها في دولة مئات ومليارات البشر الصينيين، في القارة الصينية التي تقع في مركز القلب الحضاري والثقافي من قارة أسيا، والمركز السيكولوجي والسوسيولوجي و.. السياسي فيها.
كانت علاقاتي مع الاذاعة الصينية – التي تستمر للآن بكل أجنحتها الوثـّابة نحو الصين و الإذاعة الصينية الشريفة -، دفعاً بفعِلٍ عقائدي، والتزاماً بصِلات سياسية عميقة مع دولة الصين الشعبية القوية، والعاملة من أجل سعادة الانسان، وجهاداً في سبيل تحريره من الماضي الظلامي والهيمنة على العقل والمُقدّرات الطبيعية للشعوب.
وفي قضية تلك العلاقات استحضر ذكريات كثيرة ولطيفة، رسخت في حقولها العقلية شجوناً تتصل الى العام 1968، حين بدأتُ بمراسلة القسم العربي للاذاعة، وكان عمري أنذاك نحو عشر سنوات فقط، وكانت تلك السنة الثانية في عمري الكتابي، حيث باشرت أنذاك النشر السياسي في صحيفة “الدستور” الاردنية، التي تُعتبر بحق أقدم الصحف الاردنية التي ما تزال تصدر حتى اللحظة يومياً.
في تلكم السنين “الغابرة” المطوية في التاريخ، والغير الغابرة والغير المطوية في ذاكرتي الحيّة وعقلي الذي مايزال يرويها بمزيد من مياه الحياة مع الاذاعة، كنت وبرغم صِغر سني مهتماً بعلاقات متقدمة وعُليا مع المرحوم فؤاد نصار، أبو خالد العظيم، الأمين العام للحزب الشيوعي الاردني، – الذي سكن سوياً مع السيدة ليلى وهي عقيلته وكانت بلغارية القومية و الجنسية – في إحدى شقق والدي المرحوم موسى سالم سوداح، والذي أبقى على إسم “فؤاد نصار” في فواتير الكهرباء والماء منذ ذلك التاريخ، وهي ماتزال تصلنا للآن من الدولة الاردنية، من شركتي الماء والكهرباء المحليتين، على إسم “فؤاد نصار” بالذات، ليبقى إسمه وشخصه ومبادئه الوضّاءة جميعها حاضرة في عقلي وماثلة في قلبي، فقد كان إسمه العَلَم ساكناً كذلك في عقل وقلب والدي المرحوم موسى، الذي بقي يَحمل أطيب الذكريات عن “أبو خالد”، كما أحملها أنا الأن وللمستقبل وللناس عنه.
وبرغم أن “أبو خالد” لم يزر الصين، ولم يُشاهد التجربة الصيني بعيونه، إلا أنه حمل في قلبه حباً عظيماً للصين والصينيين، إذ كان الرجل الخالد مُنشغلاً بلا انقطاع بالنضال الداخلي في الاردن وفلسطين، وبقضية دَحر العدوان الاجنبي الاستعماري على الوطن الكبير، وهزيمة الإحلالية الإحتلالية الاسرائيلية وأربابها الخارجيين. وفي تلكم الصورة النضالية اليومية الناصعة، كنت أرى كيف كان فؤاد نصار يُقيّم ويحلل سياسياً تجربة الصين السياسية والفكرية بصورة إيجابية ومن زاوية تحالفية، وينشغل بدروس تحريرها من الاحتلال الياباني والاجنبي، وبضمنه الاوروبي الغربي، ويَغرف منها ما وسعه الى ذلك جُهداً ووقتاً، ويتعلّم من تعاليم الرئيس الكبير ماوتسي تونغ وأصدقاء “ماو” في النضال الصيني، برغم انهماك أبو خالد بقضايا الوطن العربي الكبير والرفاق، وتثقيفهم سياسياً، وقيادة الحزب والقضايا الوطنية.
كنت أرى كل انهماكات أبو خالد وأتفكّر بها، وأُتابع الأدبيات السياسية التي يَقرأها بشغف، والصحف الحزبية التي يُوزِّعها سراً، وأجد فيها زاداً لي وسبيلاً، فقد كنت الشخص الذي تعاون مع والدتين بطلب من أبو خالد شخصياً، لحرق بعض مقتنياته الكتابية ومكتبته بعد مغادرته الاردن طوعاً، قاصداً اوروبا الشرقية الاشتراكية أنذاك لتكون عواصمها مَقراً مؤقتاً له، بعد أحداث مؤلمة شهدها الوطن الصغير، ليعود إليه زائراً في سبعينات القرن الماضي، ومُستذكِراً شقّته بزيارةٍ وذكريات طيبة، وباعثاً الحميّة النضالية في قلوب وعقول رفاقه، قبل انتقاله النهائي للرفيق الأعلى.
وهكذا، كنت شخصياً قريباً من الاذاعة الصينية بفؤادي وقلبي ورغباتي السياسية ويومياتي، وكان حبّي عميقاً نحوها وتجاه الصين التي تعمّق وتجذّر حبي لها بمراسلة قسمها العربي باللغة العربية، حيث كانت رسائلها المرسلة إلي بالبريد العادي، تنهال على بريدي بلا توقف، وكانت مطبوعة بالآلة الكاتبة، جميلة الحروف وجاذبة بنصّها، وترتيبه فلم يكن أنذاك من حواسيب وألات الكترونية ومطابع متقدمة، كما يوجد الآن في الصين والعالم.
كانت رسائل الاذاعة تتناول مختلف أوجه الحياة الصينية، ومنها القضايا السياسية، ويوميات الصين، وغالباً ما كنت أتسلّم من الاذاعة مؤلفات القائد ماوتسي تونغ وكتب كثيرة تتحدث عن أوجه الحياة والسياسة الصينية بالعربية، بالاضافة الى مجلات “الصين اليوم” و “الصين المصورة”، التي كانت تباع بالاردن، برغم من ان العلاقات الدبلوماسية بين العاصمتين عمّان وبيجين، كانت أُقيمت في السابع من ابريل / نيسان سنة 1977.
في الحقيقة وللتاريخ، فقد كان والدي المرحوم موسى، يُشجّعني لمتابعة القسم العربي والكتابة عن الصين، وبرغم من أنه لم يكن حزبيا ًولا سياسياً، إلا أنه أحب الصين وشعبها، وكان يُحرّر رسائلي الموجهة للصين ويُصحّحها لغوياً، ويُوجّهني لمزيد من علاقات نافعة مع القسم العربي. ومن خلال ذلك كله، تمكنت من إحراز نجاحات متواصلة في لغتي العربية، بحيث برعت فيما بعد في مباحث اللغات في المدرسة البطريركية الوطنية بعمّان، حيث كنت أًحدّث زملائي بالمدرسة عن الصين وأعرض عليهم مطبوعاتها التي تصلني، و كنت أبتاعها في مكتبات الاردن بقروشي القليلة المخصصة لي كمصروف يومي. وكان سروري كبيراً لمراسلتي النشطة للاذاعة ومحبتي للصين والاطلاع عليها، ومعرفتها، وقد دفع بي ذلك الى مَحبة مباحث مدرسية اخرى أدبية على شاكلة “التاريخ” و “القضية الفلسطينية”، وغيرها على مِثال “الجغرافيا” و “العلوم”، وغيرها. وكنت في حصص “الإنشاء العربي” في الصف المدرسي، اكتب عن الصين ومعارفي عنها، وعن القسم العربي للاذاعة الصينية، مالفت إنتباه الاساتذة والطلبة لتوجّهاتي السياسية والثقافية، وكان هذا مظهراً جديداً بالنسبة إليهم، لا يهتم بأمره ولا ينشغل به سوى الندرة مِن الطلبة والاساتذة.
وهكذا، فقد كان القسم العربي لاذاعة الصين الدولية عاملاً مهماً وحاسماً للغاية في تطوير مهاراتي الكتابية وتطلعاتي الثقافية، وتقبّلي لمبَاحث العلوم المدرسية، ودفعي لمعرفة الصين والعالم بإنشغالات ثقافية لم تنقطع للحظة وللآن، فتفتحتُ على كل الآفاق ولمعرفة كل شيئ.. فشكراً للقسم العربي العلي لكل ما مارسه من عمل نافع لإرساء قاعدة ثابتة لمستقبل مهني صحفي لي، درجتُ عليه بتعاوني مع القسم الذي حقّق منزلة عالية وعَليّة، وثبت على كلمة شريفة، وتبوأ مكانة رفيعة لا تضاهيها مكانة، ولخدمة شعبينا وأَمتينا الصديقتين والحقيقة عن الصين وواقع الاذاعة، التي هي لسان الصين القويم والشريف، وللحديث بقية تأتي.
* كاتب وصحفي ومُحَاضِر جامعي ومراقب على الانتخابات الدولية، ورئيس الاتحاد الدولي للصحفيين والاعلاميين والكتّاب العرب حلفاء الصين.