الشمس لن تغيب في بلد الأرز
مجلة النداء اللبنانية ـ
قوه شوجبن (بسمة)*:
تسعة أشهر تسلّلت خلسة في ليلة واحدة وأنا غارقة في أمنياتي. عند إقلاع طائرة العودة إلى الصين، خفق قلبي وسرح نظري من خلال النافذة إلى المباني المصطفة حيث تشع أضواء الشارع. قبل تسعة أشهر، كنت في لبنان أتطلّع إلى العودة لوطني الأم، لكن بعد عودتي، أنا الآن أشتاق إلى لبنان. فقد استوطنت في ذهني ذكرياتي الجميلة هناك إلى الأبد.
لطالما تلذّذت بمشاهدة الليل وهو يرخي سدوله ليكسو أرض لبنان. أمّا المغيب فهو بالنسبة لي مثل صندوق ساحر يربط ذكرياتي بلبنان، يحملها ويصونها. وفي معظم أوقاتي كنت أتمتع بمشهد المغيب عبر شرفة شقتنا. كنت كلّما انتهيت من صفوفي المُتعِبة في الجامعة، أودّع وزملائي صاحبَ مقهى الجامعة، ذاك الذي يلقي السلام عليّ كل صباح ويعد لنا ألذّ “منؤوشة”، لأذهب بعدها إلى “موعدي” مع المغيب.
أطعمة ذلك المقهى، بجانب مركز اللغات والترجمة للجامعة اللبنانية، تجمع الطعم اللذيذ والثمن الرخيص. كلما أتذكر طعم “منؤوشة نصف جبنة نصف لحمة”، شعرت بالشره. كم أتمنى السفر مجدّداً إلى لبنان لأتلذذ بأطعمته الشهية تلك! أمّا عن الأطعمة الصينية التقليدية، فكان لا بدّ لي، كفتاة ذات “معدة صينية”، أن أتعلم كيفية إعدادها. إلّا أنني، صراحةً، لم أستطع ذلك في البداية، فالأطعمة التي قمت بإعدادها لم تكن لذيذة. ولكن مع مرور الوقت وبفعل المحاولات المتكررة، تقدّمت بشكلٍ ملحوظ. وعندما تعلّمت الكثير من مهارات الطبخ الصيني الشمالي (أنا من جنوب الصين، وتختلف أساليب الطبخ الصينية باختلاف المناطق)، دعيت أصدقائي اللبنانيين إلى شقتنا للتمتع بالأطعمة الصينية التي أعددتها لهم، لأعرّفهم على وجه من أوجه ثقافتنا الصينية.
أمّا شقتنا فتقع في منطقة نيو روضة ببيروت، وعلوّها يفوق علوّ المباني الأخرى الواقعة في المدينة. وبالرغم أنّ أفق السماء محدودٌ من شرفة شقتنا ولا يمكنني رؤية البحر من هناك، إلّا أنّ ذاك المشهد طالما أبهرني وأزال همومي. أعشق كيف تباعد الرياح بين السحب الوردية، وتشكّلها مع المباني والأرض كلوحة باسم “هدية الطبيعة”. كنت أحب أن أجلس على أريكة الشرفة، بغية المطالعة أو الدردشة أو لشم الرائحة الشهية المنبعثة من شرفة جيراننا الذين كانوا يقومون بشواء اللحم. وكان المغيب يزيد كل هذه الأمور جمالاً ومتعة.
ومنذ يومي الأول في لبنان، ولأنه لم يكن بإمكاني أن أرى إلا جزء محدود من السماء في الشرفة، ذهبت للتمتع بمشهد المغيب على شاطئ البحر بجانب الميناء. لن أنسى شعوري آنذاك حين ظهر البحر الأزرق الواسع أمام عيني. كانت المرة الأولى التي أرى فيها البحر، لأنني أعيش في المنطقة القارية بالصين. ترسي سفن عديدة قرب الميناء ويعود بعضها إليه تباعاً عند الأصيل. يجلس الكثير من الناس هناك، يطعمون السمك. حاولت التقرّب من الناس حولي والدردشة معهم. كانوا لبنانيّين وسيّاحاً وآخرين أتوا من مختلف الدول للعمل في لبنان. ومنذ ذاك اليوم أحببت التجول على الشاطئ وبالأخص في كورنيش الروشة، لتغمر أشعة الشمس الساطعة وجهي، وأبتسم فيما تعلو البسمات وجوه الناس حولي، حيث يسبح المراهقون في البحر بلا هموم، ويغرق هواة صيد السمك في الصيد، متناسين ضجيج المدينة. هذا المغيب منحني فرصة التعرف على أصدقاء جدد والتعرف على ثقافاتهم.
أمّا حريصا، حيث مزار السيدة مريم، أسميتها “أم لبنان” لأنها تشهد المغيب في خليج جونية الذي تطلّ عليه شامخة، تنظر إلى البحر والمدينة كلها من عليائها، وهي تلمع بشموعها المضاءة خارج الكنيسة وتلمع جرّاء ضوء المغيب الذي ينعكس عليها من بعيد. إنّ المغيب يحمل أمنياتنا البهيجة مثل تلك الشموع تماماً.
أما المغيب في مدينة جبيل، فهو رومانسي. تجمع جبيل عراقة الحضارة وحداثة التطور، وتمتاز بطبيعة جميلة على امتداد سواحلها، وهو ما يجذب السياح القادمين من أنحاء العالم إليها، وبخاصة الفئة الشبابية. يتعانق العشاق على شاطئ البحر هناك، حيث ترتطم الأمواج بالصخور ويندفع رذاذها كنافورات لتتناثر على الأرض ويهرب العشاق عنها مع ضحكات فرح.
ويختلف مغيب بلدة أنفة عن جبيل، فهو أكثر هدوءاً وسكوناً مقارنة مع المدن الكبيرة حيث يعيش سكانها بسكون وطمأنينة بعيداً عن الضجة والضوضاء. وتشتهر هذه البلدة الساحرة بمبانيها المطلية باللونين الأبيض والأزرق، اللذين يرمزان للبحر والسماء. وهواة الصيد فيها كثيرون، يقومون بالاصطياد والتمتع بالبحر حتى يعودوا إلى بيوتهم عند الأصيل مع سمكهم الطازج. أيوجد شيء أجمل من أن تمارس هواياتك وتتمتع بمشهد المغيب الباهر في الوقت نفسه؟!
ولا يقلّ مغيب المناطق الجبلية عن تلك البحرية جمالاً وجاذبيةً. فيمكنك التمتع بالمغيب والثلوج في الوقت عينه خلال شهر أيّار/مايو في بلدة بشري، لا سيّما في غابة الأرز. ذهبت في أحد الأيّام إلى هناك مرتدية تنّورتي المفضلة وتجوّلت في الممر المتعرّج داخل الغابة، حيث غطّت الثلوج الأتربة. لاحظت أن سكّان بشرّي يحبون الورود كثيراً، يزرعونها في حدائق بيوتهم وفي الشوارع العامة. يمكنك أن ترى الزهور المتعددة الألوان والأشكال في كل مكان تقريباً في بشرّي. ومع أنني زرت بشرّي ثلاث مرات، لم أزُر متحف جبران بعد، للأسف الشديد. كم أتمنى أن أتمتع بمشهد المغيب هناك، أتخايل نفسي جالسة على المقعد الطويل خارج المتحف، الذي رأيته في صورة للمتحف، سارحة بنظري إلى البيوت المُتوّجة بالقرميد الأحمر، إلى الشمس وهي تسقط خلف جبال الثلوج.
في البداية شعرت بالوحدة والغربة والحزن بعد وصولي إلى لبنان بسبب البيئة الغريبة عني والمسافة البعيدة عن أهلي. لكن كلّما نظرت إلى المغيب، تلاشت كل هذه المشاعر السلبية وانزاحت همومي. رافقني المغيب طيلة وجودي في لبنان، وكان شاهداً على اللحظات التي تمتّعت بها، وكان شاهداً على نموي وكيف بدأت أعتمد على نفسي عندما واجهتني الصعوبات، وكيف تعلمت أن أجد وأخلق التفاصيل الجميلة في الحياة العادية وأقدّر الحياة الراهنة.
في لبنان، يجتمع اللبنانيون وغيرهم ممّن يعيشون في هذا البلد، سيّاحاً أو عاملين أو لاجئين، بعضهم من دول غنيّة وآخرون من دول فقيرة، وبعضهم من الطبقة الغنيّة أو المتوسّطة وأكثرهم من طبقة الفقراء والمسحوقين، هؤلاء تجمعهم الشمس العادلة الواحدة، تضيء بأشعتها على وجوههم ليشعروا بالراحة والسعادة من صميم قلبهم… العالم عادلٌ من هذه الجهة.
أنا الآن في الصين، أستحضر ذكرياتي في لبنان مع شعبه ومناظره الخلّابة ومغيبه، وحتى في أحلامي، هذه الذكريات حاضرة. وأتحدّث عن لبنان لأهلي وأصدقائي بسعادة كبيرة، واعدة إيّاهم باصطحابهم إليه في زيارة.
*طالبة صينية تدرس اللغة العربية.
تصوير ميلاد لمع