تعليق: المنظومة الصناعية…حصن الصين المنيع أمام الضربات القوية
في الاحتكاكات الاقتصادية والتجارية الصينية – الأمريكية التي استمرت لأكثر من عام، غالبا ما كان هناك مشهد مثير للاهتمام، فقد كانت جلسات الاستماع التي تدعو اليها الحكومة الأمريكية حول الضرائب عادة ما تتحول إلى اجتماعات للثناء على الصناعة الصينية. والى جانب زيادة تكاليف المستهلك وإجبار الشركات على تسريح الموظفين، هناك سبب مهم آخر لدى اصحاب الاعمال الامريكيين يدفعهم لمعارضة التعريفات: قدرات التكامل الصناعي الفريدة في الصين، وصعوبة العثور على موردين بديلين مناسبين على المدى القصير.
فما مدى قوة قدرات التكامل الصناعي للصين؟ وفقًا لتصنيف الأمم المتحدة للصناعة، تعد الصين الدولة الوحيدة في العالم التي تضم جميع الفئات الصناعية البالغ عددها 41 فئة كبرى، و191 فئة صناعية متوسطة الحجم، و525 فئة صناعية صغيرة، ويمكنها إنتاج كل السلع من الملابس والأحذية إلى الفضاء والمواد الخام. وباختصار، نجحت الصين في انشاء النظام الصناعي الحديث الأكثر اكتمالا في العالم.
في هذا الصدد، عقد يوم 26 أغسطس الاجتماع الخامس للجنة المالية والاقتصادية المركزية. حيث ألقى الأمين العام شي جين بينغ خطابًا مهمًا في الاجتماع، شدّد فيه على ضرورة تفعيل المزايا النظامية المتمثلة في تجميع القدرات من أجل انجاز المشاريع الكبرى ومزايا السوق الكبرى، إلى جانب وضع أساس متين للقاعدة الصناعية وتحديث السلسلة الصناعية.
لماذا لايمكن تصنيع الايفون في امريكا؟
في وقت سابق من هذا العام، أثار مقال نُشر في صحيفة نيويورك تايمز نقاشا ساخنا، وورد المقال تحت عنوان “برغي صغير يخبرك: لماذا لايمكن تصنيع الايفون في امريكا؟ ”
وتعود قصة المقال إلى عام 2012، حينما أعلن كوك، الرئيس التنفيذي لشركة أبل عن بناء مصنع لتجميع أجهزة حواسيب ماك في أوستن بتكساس. لكن أثناء افتتاح المصنع، اكتشف الجميع نقصا في التزود بأحد البراغي اللازمة لتجميع الحاسوب.
وأشار المقال إلى أن ابل اذا كانت تفتقر إلى أجزاء أو تغييرات في التصميم الجزئي ، يمكن للموردين الصينيين في كثير من الأحيان إنتاج عدد كافٍ من الأجزاء في فترة زمنية قصيرة جدًا والوصول بسرعة باستخدام نظام لوجستي فعال. ولكن في ولاية تكساس، لا تستطيع ورشة انتاج متعاونة مع ابل تشغل 20 عاملا سوى إنتاج قرابة 1000 من هذه البراغي يوميًا.
وذكر المقال أن النقص في التزويد بالبراغي أدى إلى تأخر دخول “ماك برو” شهورا إلى السوق. ومن ثم لجأت ابل مرة أخرى إلى الصين لشراء البراغي.
وطرحت صحيفة نيويورك تايمز قضية تكساس في اطار تسليطها الضوء على المشكلات التي ستواجهها ابل عند نقل عمليات الإنتاج الضخم خارج الصين. حيث رأت بأن الشركة قد أدركت أنه لا يوجد بلد، بما في ذلك الولايات المتحدة، يمكنه التنافس مع الصين على نطاق التصنيع والتكنولوجيا والبنية التحتية والتكاليف.
أين تكمن مميزات السلسلة الصناعية الصينية
تمتلك الصين القدرة على إنشاء النظام الصناعي الأكثر اكتمالا في العالم، ويعود ذلك إلى مساحة الصين الشاسعة وتعدادها السكاني الهائل، الذي يوازي اجمالي سكان الدول المتقدمة مجتمعة، وهو مايعكس المميزات الصناعية الكبيرة التي تتمتع بها الصين.
لكن المميزات الديمغرافية وحدها لا تكفي، فالهند هي أيضا ذات تعداد ديمغرافي ضخم، لكن مع ذلك لا تمتلك نظاما صناعيا متكاملا مثل الصين. وهناك العديد من البلدان ذات تكاليف العمالة المنخفضة، فلماذا أصبحت الصين فقط مصنع العالم؟
بالمقارنة مع الدول الأخرى، تمتلك الصين مميزات اسثنائية. وفي عام 1980، بعد أن زار فريق التحقيق الاقتصادي التابع للبنك الدولي الصين لأول مرة، رأى أن الصين قد بنت نظاما صناعيا حديثا شبه متكامل يركز على تصنيع منشآت رأس المال. كما تفوق الصين غالبية الدول من حيث الأصناف الصناعية وتعد أقل اعتمادا على المنشآت الصناعية المستوردة.
“امتلاك نظام صناعي حديث شبه متكامل عشية الإصلاح والانفتاح مثّل ميزة هيكلية ميزت الصين عن جميع البلدان النامية الأخرى. فهذا يمنح الصين ميزة تنافسية تجمع بين انخفاض تكاليف العمالة والمهارات العليا.” وفي هذا السياق يعتقد لو فنغ، الأستاذ في كلية الإدارة الحكومية بجامعة بكين، أن هذه الميزة الهيكلية هي التي تمنح الصين قدرة تنافسية دولية كبيرة وتجعل الصين هي الخيار الأفضل لتدفقات رأس المال الأجنبي وانتقال التصنيع.
وهذا بالضبط هو السبب وراء عدم حدوث ظاهرة “انتقال السلسلة الصناعية” التي أقلقت الرأي العام في سياق ارتفاع تكاليف العمالة في الصين والاحتكاكات التجارية بين الصين والولايات المتحدة. وحول هذا الموضوع، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” مؤخرا مقالاً حديثا، قالت فيه: “مقارنة بسلسلة التزويد المتخصصة في الصين، فإن سلسلة التزويد في فيتنام تعد أقل تطورا. وليس من السهل العثور على مصانع في فيتنام تتمتع بمستوى شهادة السلامة المطلوبة من أمريكا ومصانع الآلات المتمركزة حول رأس المال.”
وأضاف التقرير، “لا يمكنك نقل أعمالك إلى فيتنام ، وتتصور أنك ستجد كل شيء، فليس هناك بلد مثل الصين يمكن أن يقدم حزمة من الحلول المتكاملة “.
المنظومة الصناعية هي قلعة الاقتصاد الصيني
يرى ليه شاوهوا، الباحث في كلية العلاقات الدولية بجامعة بكين، أن الحرب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية هي بأحد المعاني تعد صراعا على سلسلة الانتاج.
“الدولة التي لا تمتلك صناعة متطورة، ستبقى في الطرف الأدنى من السلسلة الصناعية العالمية، وتتحول إلى مصنع الاقتصادات المتقدمة للسلع ووجهة اغراق بالسلع. وإذا لم يكن هناك دعم للصناعات المتدنية والمتوسطة سيكون الاقتصاد شبيه بعملاق بأرجل من طين.” يقول ليه شاو هوا، ويضيف بأن أمريكا تواجه تحديا مزدوجا متمثلا في ضعف الصناعات المتوسطة والمتدنية ومرور التقنيات العالية بعنق الزجاجة، وهوما يفقدها الدعم القوي لسوق الصناعات الراقية، وهذا ماجعل دعم عودة الصناعة واحتواء الصناعات الاجنبية الاستراتيجية الوحيدة المنقذة لها.
أما بالنسبة للصين، فبفضل نظامها الصناعي المتكامل، أصبحت بالفعل دولة ذات سلسلة صناعية كاملة تتمتع بمزايا الصناعة المتدنية والصناعات المتطورة. وهذا النظام المتكامل لا يسمح للصين بالتطور من خلال الانضمام للعولمة فحسب ، بل يحصّن الصين في مواجهة الوضع الدولي الحالي. ممايعني بأنه حتى لو “توقف” التزويد عن الصين بشكل مفاجئ في يوم ما، فإن الصين لن تصدم على الفور. لأنها تمتلك بدائل محلية لمختلف القطع والتقنيات اللازمة للنسيج الصناعي. وعلى الرغم من بعض الفوارق في الجودة، لكن الصناعة المحلية يمكن أن تحافظ على استمرار دوران عجلة الانتاج.
وحتى في مجال تصميم وصناعة وتعبئة الرقائق الالكترونية الذي يعد نقطة ضعف بالنسبة للصين، فإن الصين تمتلك علامات على مستوى “السوفت وير” و”الهارد وير”، ورغم أنها ليست مشهورة مثل إنتر وكوالكوم وغيرها من العلامات الأجنبية ولا يمكن التساوي بينها من حيث القوة التكنولوجية وحصة السوق، لكن، نظرا لمثابرة رجال الأعمال والفنيين على التطوير المستقل، فإن الحصار التكنولوجي للتقنية الحاسمة لن يعرقل الصين على تحقيق النهضة العظمى.
إن النظام الصناعي الكامل هو ماجعل الاقتصاد الصيني واسعا مثل البحر، ومكنه من تحمل العالم المضطرب. بغض النظر عن الدولة التي ترغب في تهديد الصين، يبقى من المستحيل هزيمة النظام الاقتصادي الصيني بسهولة من خلال الحظر التجاري.