بكين.. المدينة التي لم تعد محرّمة (الحلقة الثانية)
محمود ريّا
بكين، كما نكتبها نحن العرب، هي بيجينغ بكتابة أهل الصين (Beijing) ويلفظونها بيتينج، وتعني بلغتهم عاصمة الشمال.
تقع المدينة الكبرى على بعد مئة وستين كيلومتراً عن شاطئ المحيط الهادئ، على ارتفاع عن سطح البحر، لا يفصلها عن المحيط حاجز طبيعي، بينما تحيط بها الجبال من الجهات الثلاث الأخرى.
حاجز آخر يرتفع فوق الجبال، هو سور الصين العظيم (Cheng Chang)، وهو يحكي جزءاً هاماً من تاريخ المدينة، ومن تاريخ الصين.
في التاريخ، لا تملك بكين، كعاصمة للصين، سجلاً طويلاً جداً، فهي ـ وإن شهدت في عصور الصين الأولى مرحلة قصيرة كانت فيها عاصمة لقسم كبير من الصين ـ لم تصبح الحاضرة الأولى في هذه البلاد الشاسعة إلا قرابة العام 1000 بعد الميلاد عندما اختارتها إحدى الأُسر الحاكمة عاصمةً للامبراطورية الموحدة. ولكنها من ذلك الحين صارت المركز الذي اجتمعت حوله ملايين الليّات (اللي وحدة صينية تعادل نصف كيلومتر) المربعة، ومئات الملايين من البشر على مدى التاريخ.
وإذا كانت بكين ليست موغلة في التاريخ كعاصمة، فإنها كانت مدينة مهمة وبارزة على مدى الأيام، كما أنها حصلت على نصيبها من المجد والعز على مدى السنوات الألف (ويزيد) التي احتلت فيها مركز القلب في “الامبراطورية الوسطى”.
وتلعب بكين دوراً محورياً في حياة جمهورية الصين الشعبية، فهي ليست مدينة التاريخ فقط، ولكنها حاضرة الحاضر، ويبدو أنها ستبقى عاصمة المستقبل إلى أمد بعيد.
ويمكن ملاحظة أهمية المدينة من خلال نبض الشارع الذي لا يهدأ ليلَ نهار، ففي المدينة ثلاثة عشر مليون نسمة، ما عدا من يدخلونها خلال النهار من أجل تأمين احتياجاتهم أو قضاء حاجاتهم، ما يسلب من المدينة أي إشارة إلى أنها كانت تحوي في قلبها ما كان يُعرف بـ “المدينة المحرّمة”.
وفي الواقع فإن المدينة تشهد نهضة كبيرة على مختلف المستويات، فهي مدينة صناعية، ومدينة خدمات، فضلاً عن كونها القلب الذي يضخ دماء السياسة إلى مختلف المقاطعات الصينية، والعقل الذي تصدر عنه القرارات الكبرى التي تصنع مستقبل البلاد.
وهي كانت كذلك دائماً، فبالرغم من التغيير الكبير الذي شهدته البلاد بعد الانتقال من الحكم الإمبراطوري إلى الحكم الجمهوري ـ بشقّيه الليبرالي والشعبي ـ فإن آلية تحكّم العاصمة بالأطراف لم تتغيّر كثيراً، وإن كانت التطورات الكبرى التي شهدها العالم قد فرضت نفسها على طريقة التصرف التي أصبحت أكثر نعومة، وسمحت بنوع من المشاركة في اتخاذ القرارات.
ويكفي التجوّل في الجادات الكبرى لمدينة بكين كي يتضح للزائر ماذا يعني أن تكون مدينة ما عاصمة لدولة كبرى، إذ تطالعك المباني العالية واحدة تلو أخرى، وكل مبنى يعرّف عن نفسه من خلال الكلمات المكتوبة عليه، وبمساعدة من مرافقك الصيني الذي يتكلّم العربية بطلاقة تتعرّف إلى وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووزارة الاتصالات، وغيرها من الوزارات، إضافة إلى المصرف المركزي ذي المبنى المميز.
ولا ينسى مرافقك أن ينبّهك إلى ساحة تيان أن مين، فهنا رُسم تاريخ الصين الحديث، وهنا تقام العروض العسكرية الكبرى بمناسبة الثورة الصينية الكبرى، وهنا.. تاريخ يريد الغرب أن يبقيه ندبةً لا تندمل في التاريخ الصيني، حيث تجعل “الميديا الغربية” من أحداث تيان أن مين عام 1989 “دليلاً” على قسوة السلطة الصينية في التعامل مع شعبها، حيث تم التعامل بحزم مع اضطرابات أرادت استلهام “الثورات” التي شهدها الاتحاد لسوفياتي ودول أوروبا الشرقية من أجل إسقاط الحكم الشيوعي في الصين.
وبالعودة إلى التاريخ ففي بكين من الآثار ما يكفي لجعلها قبلة للمهتمين بالعصور الماضية، ومن السواح من داخل الصين ومن خارجها، ولعل رقم العشرة ملايين سائح الذين زاروا الصين خلال 2010 له ما يبرّره في ظل وجود هذا الكمّ ـ وهذا النوع ايضاً ـ من الآثار المنتشرة في بكين وفي غيرها من المدن على امتداد البلاد.
ولا يمكن الحديث عن الآثار في الصين دون أن تكون “المدينة المحرمة” هي المبتدأ، ففيها استغرقت عصور من الأحداث، وعظماء من الرجال، ومصير العشرات من الأجيال.