المدينة المحرّمة.. أو قصر الإمبراطور (الحلقة الثالثة)
محمود ريّا
لا يمكن الحديث عن الآثار في الصين من دون أن تكون “المدينة المحرمة ” هي المبتدأ، ففيها استغرقت عصور من الأحداث، وعظماء من الرجال، ومصير العشرات من الأجيال.
في المدينة المحرمة تتحقق تلك المقولة التى يطلقها كل صيني بفخر، حتى ولو كان من الذين لا يعترفون بدين، أو يؤمنون بعقيدة غيبية.
إنها مجموعة من القصور التي تضم تسعمئة وتسعاً وتسعين غرفة ونصف الغرفة.
أما لماذا ليست ألف غرفة بالتمام والكمال، فهنا تمكن المقولة:
يقول التراث الصيني إن “امبراطور السماء” لديه ألف غرفة، بينما لا يمكن لامبراطور الأرض أن يكون مساوياً له، لذلك هو يكتفي بالعدد المذكور، أي ألف غرفة ناقصة نصف غرفة، كي لا يتحدى امبراطور الأرض… امبراطور السماء.
أما غير ذلك، فليس هناك ما ينتقص من عظمة وجلال هذه القصور المهيبة التي تتجمع كلها في مساحة واسعة من أرض بكين، وفي قلبها بالضبط.
هذه العظمة يتحدث عنها “الصيني الحديث” بفخر… وبحذر في الوقت نفسه.
هو لا يملّ من ترديد الكلمات عن مظاهر الفخامة والنبل، وعن الإرث الكبير الذي تركه الأجداد لأبناء الشعب الصيني كي يتمتعوا به ـ وللعالم كله أيضاً ـ ولكنه لا يسمّي هذه المدينة باسمها، وإنما يصرّ على تكرار القول إن هذا المكان يسمّى “قصر الامبراطور” ولا يتردد في التعبير عن انتقاده لاستخدام “الامبراطور” آلاف العمّال على مدى عشرات السنوات لبناء هذا المكان المخصّص لرفاهيته هو و”عائلته” على حساب حياة الناس البسطاء الذين قضوا من أجل تحقيق هذه الغاية.
إنها نزعة تنطلق من النَّفَس الاشتراكي الذي يبقى له تأثيره في كل زاوية من زوايا الصين، أو لنقل إنه الحزب الشيوعي الصيني الحاضر دائماً في خلفية الأحداث، يوجّه الأفكار باتجاه الافتخار بالجماد، ورفض مَن بَنَوه.
وفي المدينة المحرّمة ما يستحق أن يُفتخر به فعلاً.
جمال يفوق الوصف، هندسة وتصاميم تقارب الخيال، قصر وراء قصر وراء قصر.
هنا كان الامبراطور يستقبل الرعية والضيوف، وهناك كان يرتدي الملابس الامبراطورية للاستقبالات، وهناك قصر الامبراطورة وفيه من التحف والأواني والأدوات ما يسلب اللبّ، وعلى اليمين واليسار المباني المخصصة للإدارات الحكومية، ففي الصين كان هناك حكومة مركزية قادرة على إبقاء الخيوط الرابطة لعشرات الأقاليم في يد واحدة، هي يد الإمبراطور.
ولا يخلو المكان من الساحات الواسعة، وفيها كان يجتمع الجند قبل الانطلاق الى مهماتهم في إخضاع عاصٍ أو السيطرة على إقليم متمرد، ولكن لم يسجّل التاريخ أنّ جيشاً انطلق من هذا المكان لغزو دولة أخرى مجاورة، هذا إذا اعتبرنا ـ كما يعتبر صينيو اليوم ـ أن كل ما في الصين الآن من أقاليم هو ملك للصين.
الصور التي تراها في المدينة المحرمة تحرّض لديك الخيال كي تستعيد اللحظات التاريخية الكبرى التي ولدت هنا، كما تعيدك إلى تلك التفاصيل البسيطة والجميلة، حول الحياة اليومية للامبراطور والامبراطورة والأمراء والوزراء والحاشية والدولة، أي الحياة اليومية لآلاف البشر الذين استوطنوا هذا المكان في وقت واحد، على مدى قرون.
ولكن، في المدينة المحرّمة هناك محرّمات:
أبواب وراء أبواب، وأسوار داخل أسوار، وأذونات وبطاقات دخول، فهذه المدينة محرّمة على من هم في الخارج، وهي محرّمة كذلك ـ في بعض أقسامها ـ على من هم في الداخل أيضاً.
ولمن لا يصدّق ذلك عليه أن يرى “الحدود” التي تفصل “أحياء” المدينة عن بعضها البعض، وأن يرى أيضاً الأسوار العالية التي تحيط بالمدينة المحرمة من الخارج، ومن بعدها الخندق الذي يزنّر المدينة من جوانبها الأربع، وهو ممتلئ بالماء، وعرضه ستون متراً بالتمام والكمال، ما يجعل إمكانية الاقتراب من المدينة المحرّمة في مصاف الخيال.
إنها المدينة ذات الأسوار التي بناها عشرات الامبراطورات على مدى القرون، تماماً كتلك الأسوار الشاهقة التي بُنيت أيضاً على مدى القرون هناك، فوق، على قمم الجبال المحيطة ببكين، والتي تمتد على آلاف الكيلومترات بعد ذلك، لتجتمع في ما يسمى الآن بسور الصين العظيم”.