جنود على استعداد.. منذ ألفي سنة! (الحلقة الثانية عشرة)
بقلم: محمود ريا
التاريخ في مدينة سي آن لا ينتهي دون المرور على رمز من أهم رموزه، وعلى معلم من أبرز معالمه. معلم له مكانته، ليس في تاريخ الصين وحدها، وإنما في خارطة التراث العالمي ككل.
الصدفة كانت الطريق إلى اكتشاف هذا الكنز، وما تزال الاكتشافات متوالية حتى الآن، ومع كل جديد تزداد الدهشة إزاء هذا العمل الفني والتراثي والتاريخي الرائع.
إنه الجيش المتكامل، بجنوده وأحصنته وكل احتياجاته، الجيش المصنوع من الطين.
في سبعينيات القرن الماضي، كان مزارع من سي آن يحفر أرضه ، فوقع على هذا الاكتشاف، ليحوّل ما عُثر عليه بعد سنوات من الحفر والبحث والترميم إلى واحد من أجمل ما تركه لنا الأقدمون من آثار.
آلاف الجنود، في وقفة واحدة، وفي صفوف متلاصقة، مع جيادهم، متأهبين للحرب لا يعوقهم عنها إلا إشارة إمبراطور، وأمر قائد.
الجنود المتقاربو الطول، هم مختلفون في الشكل، بحيث لا تجد جندياً يشبه الآخر، وكان هذا ما أراده الإمبراطور الذي أعطى التوجيهات بـ “بناء” هذا الجيش، فيما تقول بعض التفسيرات أن كل جندي طيني صُنع من قبل جندي حقيقي على مثاله، بحيث يجسّد هذا العمل الفني حقيقة وجود جيش كامل على أرض الواقع.
كل هذا الانجاز حصل بأمر من الامبراطور، ومن كان يخالف الأمر ويعجز عن بناء جندي مماثل له، كان يتعرض للعقاب الشديد.
الجولة على الحفر الثلاث التي تحتوي هؤلاء الجنود مثيرة فعلاً، حيث تبدو هذه المجسّمات وكأنها تنبت كالزرع من قعر الحفر، في حين أن الكثير من التماثيل المصنوعة تخضع للترميم على أيدي محترفين يعملون بدقة متناهية، وفي عرض حي أمام الجمهور، ما يجعل مهمتهم أكثر صعوبة.
جيش الطين، أو التيراكوتا كما هو معروف في تلك المنطقة، يتألف من حوالي 8000 تمثال تقريباً، تتنوع بين تماثيل الجنود والضباط والخيول والموسيقيين والإداريين، في تآلف مدهش ومعبّر عن حجم الجهد الذي بُذل قبل ألفين ومئتي عام تقريباً للخروج بهذا الإنجاز العظيم.
والجميل أن هذا الاكتشاف المدهش يحظى بعناية كبرى من السلطات الصينية التي تحرص بشدة على الحفاظ على هذا الكنز القومي من خلال إجراءات السلامة التي تتخذها، ومن خلال الاستمرار في عمليات التنقيب بحثاً عن المزيد من المكتشفات، مع الحرص على عدم تخريب ما هو موجود في باطن الأرض، الأمر الذي يجعل عملية التنقيب بطيئة وطويلة.. ومستمرة.
ولا يقتصر الاهتمام على التنقيب، بل يتجاوز ذلك إلى إقامة بنية تحتية ممتازة تحيط بالحفر المكتشفة، تتمثل في بناء متحف ضخم يحتوي نماذج من الآثار المكتشفة، ومحلات لبيع التحف التي تتخذ من التمائيل المكتشفة نماذج لها. يضاف إلى ذلك وجود الفلاح الذي اكتشف كل هذه الآثار في أرضه، حيث يقوم بالتوقيع على كتاب بعدة لغات يحكي تجربته، أما الصورة معه فهي ليست مجانية، وإنما تكلّف مبلغاً محترماً.. يوازي العشرة دولارات أميركية لكل صورة!
إنه التاريخ بذاته يتجسّد أمامك، تستطيع من خلاله سبر أغوار القرون الغابرة، والتعرف على طبيعة الحياة في أعوام ما قبل الميلاد في تلك البقعة القصيّة من العالم، التي تقع في أقصى الشرق، والتي يصرّ أهلها على تسميتها بوسط العالم، أو الإمبراطورية الوسطى، (جونغ غوا).