عروض صينية في دمشق…. إدهاش يليق ببلد التنين
صحيفة الثورة السورية ـ
ادريس مراد:
مفعمة بالطموحات
فلنستمتع بكل شبر من أشعة الشمس
في كل لحظة
وللحياة قيمتها دائماً
حتى الشجرة الجريحة
ترخي الظلال
وزهرة مكسورة
ما تزال تبعث بالأريج..
بهذه المقاطع الشعرية المفعمة بالحياة والتحدي بدأت الحفلة الكبيرة التي قدمتها فرقة المعوقين الصينية لفنون الأداء في دار الأسد للثقافة والفنون قبل أيام في عرض مدهش يليق حقاً ببلد ذي أسوار دخلت قائمة البرمودا وغيرها من عجائب الدنيا، وبلد يغزو أطفاله اقتصاد العالم، والأدبُ الصيني من أشهر وأعرق الآداب في العالم. وقد قدَّمَ الكُتّاب الصينيون أعمالاً هامة على مدى ثلاثة آلاف عام تقريباً، لم يعد الصِّينيونَ الأدبَ شكلاً فنياً منفصلاً خلال معظم التاريخ الصيني، فقد كانوا يتوقعون من كل المثقفين أن يكتبوا بأسلوب رشيق منمّق بغض النظر عن الموضوع، فتناول كثيرٌ من روائع الأدب الصيني موضوعاتٍ يعدُّها بعض الكُتّاب الأوروبيين موضوعات غير أدبية.
وتشتمل هذه الموضوعات التاريخ والفلسفة والسياسة والدين والعلوم، ويتميز الأدب بتنوعه وعمقه وموسيقاه وسعة معانيه وأساليبه، إضافة إلى أنه يعكس الحياة الاجتماعية الواقعية في الصين، وما يلاحظ في قصائد الشعر الصيني القديم غزارة مناهلها، فيظهر من خلالها الحنين إلى ملاعب الطفولة وذكريات الشباب، ويبدو الشاعر الصيني فيها شجاعاً طموحاً ملتزماً، يتحلى بالشفافية والنظرة البعيدة إلى غدٍ مشرق، كما تظهر فيها أغراض الشعر الصيني العامة كالمديح والرثاء والغزل.
لم تكن الحفلة للشعر فحسب بل تعدى جمال الشعر في عروض راقصة قدمها أشخاص فاقدو البصر إضافة لذوي إعاقة سمعية بتقنية كبيرة يعجز عنها الإنسان الكامل جسدياً، وأيضاً فرقة موسيقية قوامها فنانون فاقدو البصر، ولكنهم يدركون التوزيع الموسيقي والهارموني أكثر من كل الفرق الموجودة عندنا التي تعمل في الموسيقا الشعبية.
آلهة بألف يد
اللوحة الراقصة الأولى جاءت بعنوان «بوذيستافا بألف يد» أداؤها كان ساحراً سواء في تقنية الراقصين أو في الجمال البصري الذي نثره هؤلاء الفنانون في خشبة المسرح قدمها ذوو الاحتياجات خاصة «إعاقة سمعية»، ليوجهوا إلى البشرية رسالة إنسانية مفادها: ما دام الحب والحنان والخير في قلوبكم، فلا تبخلوا لمد يد المساعدة للآخرين ولو ألف مرة، وبالمقابل ستتلقون ألف يد للمساعدة من الآخرين.
غناء لا يخلو من الحزن والجمال
والفنان كان جيانغ من فاقدي البصر أيضاً، فنان كبير يدرك تماماً مقياس صوته مع الآلة التي يعزف عليها وهي البيانو فأدى كعازف ومغن أغنية لا تخلو من الرومانسية وفي الوقت نفسه كلماتها في غاية الشاعرية، نقتطف منها:
عندما انخفضت معنوياتي
تعبت وتعكرت روحي
عندما هجم القلق والصعوبة عليّ
أصبح قلبي مثقلاً بالضيق
ولكني أقف صامتاً
وأنتظر هادئاً
حتى تأتي إليّ
وتبقى معي قليلاً
أنت من شجعتني
لهذا أقف على قمة الجبال المتلاحقة
أنت الذي شجعتني
لهذا أواجه العواصف المطرية في البحر.
وتضمن البرنامج رقصات أخرى لفاقدي البصر ورقصة بعنوان «عشاق الفراشات» ولوحة أخرى بعنوان «رقصة الطاووس»، كما استمعنا إلى العديد من الألحان الشعبية الصينية أدتها فرقة فاقدي البصر بتوزيع موسيقي أكاديمي.
رسول الجمال وطبيعة الإنسان
زارت فرقة المعوقين الصينية لفنون الأداء أكثر من 60 دولة في آسيا وأوروبا وأمريكا وإفريقيا وأوقيانوسيا متجاوزة حاجز اللغات والثقافات والقوميات، حيث تقدم للمشاهدين المتعة الفنية والإيحاء الروحي وتواصل المشاعر.
يضم الرقص الذي تؤديه مختلف الأنواع مثل الرقص القومي والباليه والرقص اللاتيني والرقص المعاصر، كما أبدعت أوبرا بكين المختصرة ومسرحيات راقصة ومسرحيات موسيقية، وقصائد بلغة الإشارات ورقص العمي والرقص بلغة الأشكال الفنية الجديدة. إضافة إلى هذا صوّر أعضاء الفرقة الفيلم الفني الوثائقي الضخم «حُلمي» إظهاراً للفن الخاص والحياة الجميلة للممثلين المعاقين. وقد فازت الفرقة بلقب «رسول الجمال وطبيعة الإنسان» من قبل المجتمع الدولي، تنقل هذه الفرقة الحب إلى صفوف المشاهدين، وتقوم بالأنشطة والعروض الخيرية الكثيرة، كما تضاف العوائد من العروض إلى صندوق جمعية حلمي للأعمال الإنسانية. وقد تبرعت ما يقارب ثمانية ملايين يوان «العملة الصينية» ومثلها بالدولار الأمريكي خلال عامين لمساعدة الخدمات العامة والمشاريع الخيرية داخل الصين وخارجها مكونة الانسجام والخير حقاً بين شعوب العالم.
الموسيقا والرقص متلازمان تاريخياً
الموسيقا والرقص ليسا وليدي اليوم في الصين بل لهما تاريخ عريق مثل حضارة ذلك البلد، فكانت الموسيقا مع الرقص والشعر تنتمي إلى نوع واحد من الفنون الصينية، ثم انفصل الشعر عنهما بينما لم تنفصل الموسيقا والرقص عن بعضهما.
وكان الرقص الذي ترافقه الموسيقا، ويستخدم في المناسبات العظيمة مثل تقديم القرابين للأسلاف أو للسماء عظيماً ومهيباً، فسمت بـ»الموسيقا المهذبة»، وعندما يتم الجمع بين الموسيقا المهذبة والمراسم التي يحترمها الصينيون، تصبح ذات وظيفة تهذيب للناس، فتستخدم لمدح فضائل الإمبراطور وللتعبير عن التراتب الاجتماعي، لذلك حدد أباطرة أسرة تشو وأمراؤها موضوع الرقص المقترن بالموسيقا وحجم فرقها وأنواع آلاتها الموسيقية بشكل صارم، ومع تدهور أسرة تشو، دخلت الموسيقا والرقص الشعبي البلاط الإمبراطوري تدريجياً، وظلت الموسيقا والرقص في البلاط الإمبراطوري تياراً رئيسياً للموسيقا والرقص الصيني القديم لمدة طويلة، في فترتي أسرتي هان وتانغ كان هناك جهاز حكومي لإدارة الموسيقا والرقص مسؤول عن جمع الموسيقا وتدريب الفنانين وتنظيم وترتيب أنظمة الموسيقا والرقص، مما دفع تطور وازدهار هذا الفن.
وكان الإمبراطور تانغ شيوان تسونغ الذي جلس على العرش بين عامي «712-756» متقناً للموسيقا والتلحين، ودرّب بنفسه مئات الموسيقيين في حديقة «لييوان»، فأصبحت هذه الحديقة أول معهد إمبراطوري للموسيقا والرقص في الصين.
تركت موسيقا أسرة تانغ أثراً كبيراً في الأجيال اللاحقة، وكان الأثر الأهم هو الأغاني التي تشمل الكلمات والألحان والتي أصبحت أسلوباً أدبياً هاماً في فترة أسرة سونغ، بعد القرن الثالث عشر، احتلت المسرحية الموسيقية والراقصة مكانة مركزية في حياة المدنيين الثقافية والترفيهية، ولم يعد فن الموسيقا والرقص، كأسلوب فني مستقل، نشيطاً كما كان.
الآلات الموسيقية الثماني
ظهرت أنواع مختلفة من الآلات الموسيقية في الصين منذ زمان مبكر. حسب التسجيلات، كان هناك أكثر من سبعين نوعاً من الآلات الموسيقية في فترة تشو الغربية، تنقسم إلى ثمانية أنواع حسب مواد صناعتها، لذلك تسمى «الآلات الموسيقية الثماني» في التاريخ،.
وظهرت في تلك الفترة الأجراس الموسيقية، واكتشفت من هذه الأجراس في مقبرة قديمة يعود تاريخها إلى 2300 سنة في محافظة سويشيان بهوبي، وحملت لقب «قصر الموسيقى تحت الأرض بالصين»، وعددها خمس وستون آلة، تنقسم إلى ثماني مجموعات وفقا لحجمها وصوتها، تعلق على حاملة للأجراس من ثلاثة طوابق. يمكن عرض الألحان المختلفة بها، كما اكتشفت فيها سبع وعشرون آلة موسيقية أخرى، تشمل الآلات الموسيقية التقليدية الآلات الوترية والخيزرانية والآلات الموسيقية النفخية والنقرية، الآلات الوترية والخيزرانية أقدم من الآلات الوترية والمزامير، استخدمت لمرافقة الغناء والرقص، ثم تطورت إلى أسلوب مستقل للعرض، تنتشر في الجنوب بصورة رئيسية، عدد أعضاء فرقها قليل، أصغرها يتكون من المزمار و»أرهو» فقط، أما عدد أفراد فرقة الآلات النفخية والنقرية فكبير، وتعرض في الهواء الطلق دائماً لأنها تعبر عن الحماسة والفرح بأسلوب طليق وشجاع دائماً، بصورة عامة الشمال يهتم بالآلات النفخية بينما يهتم الجنوب بالآلات النقرية، وتاريخياً كان عرض الآلات الموسيقية التقليدية الصينية يصاحب دائما حفلات الزفاف أو مراسم الجنازة لعموم الناس، أو مناسبات استقبال الآلهة أو المسابقات أو الاحتفالات في البلاط الإمبراطوري أو الطقوس الدينية، قليلاً ما كانت تعرض دون مناسبة.
انتشار واسع للرقص والموسيقا
لم يتقيد الغناء والرقص الشعبي بقيود كثيرة، لذلك تميزا منذ البداية بالحرية والنشاط فلقيا ترحيب الناس، وحققا انتشاراً أوسع من الموسيقا والرقص في البلاط الإمبراطوري، وفي الريف خاصة، كلما حلت الأعياد كانت التنظيمات المهنية تقيم عروضاً للغناء والرقص في المدينة. وأعظم ميزة للرقص الصيني التقليدي هو الجمع بين المهارة الفنية ومهارة الحركات، مثل رقصة الأسد التي تجمع فن الرقص وفن الووشو البهلواني. يبدو أن أبناء قومية هان، وهي أكبر قومية صينية، لم يتعودوا على التعبير عن مشاعرهم بالرقص، بينما كانت معظم الأقليات القومية ماهرة في الغناء والرقص، وكانت نشاطات الغناء والرقص نشاطات للقومية أو القرية كلها. ولكل قومية خصائص في الرقص، والطوب الذي اكتشف في مقابر أسرة هان للفترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي وجدت عليه صورة للعروض المائة، التي هي الموسيقا والغناء والرقص والأكروبات والسحر والتمثيليات الفكاهية الخ.
كما أن السحر في الرقص الصيني التقليدي يختلف عن ذلك الجمال في الرقص الغربي، لأن الغرب يهتم بالموسيقا والضوء والأدوات التمثيلية، وفي الصيني يرتدي الممثل جلباباً طويلاً أو يحمل قطعة من القماش، ثم يلعب بالسحر حتى يظهر للمشاهد أشياء كثيرة.
ونجد ذلك من خلال صور حمل العصي بالرأس وصعود الساري والمشي على الحبل المنقوشة على الطوب ونضج فن الأكروبات في تلك الفترة وتطور إلى حركات صعبة، ويمكننا أن نجد أيضاً من صور الطوب المكتشف اهتمام لاعب الأكروبات الصيني بمهارة وسط الجسم والساقين والحمل بالرأس، وفي فترة الممالك الثلاث، اخترعت مجموعة «تدوير المائة لعبة بالماء»، فيها دولاب بارز وعمود التواء ومسننات، تحرك بالماء، من ثم تحرك تماثيل خشبية للراقصات والعازفين ورامي السيوف الخ، مما يعكس انتشار فن الأكروبات ومستوى صناعة الماكينات الخشبية، في عروض الأكروبات الصينية بعض الأدوات التمثيلية المتميزة. قيل إن العالم الفرنسي مخترع المظلة «1740-1810» استلهم من لاعبي الأكروبات في شرق آسيا الذين يستخدمون المظلة كأداة تمثيلية إسعافية في عرض المشي على الحبل، في اختراعه مظلة الهبوط، وكان ذلك الأسلوب من اختراعات لاعبي الأكروبات الصينيين.
أنشودة تتدفق من العروق
تقول إحدى الفنانات كمدربة وإدارية في فرقة المعوقين الصينية: الحياة هي خبرة وتجربة، فلنواجه كل التحديات في الحياة بقلب مليئ بالسعادة والامتنان، كل مقطوعة موسيقية تسمعونها هي أنشودة تتدفق من عروقنا، نرجو منكم الانضمام إلينا والاستماع إلى أحلامنا.
فاقدو البصر يصفون العالم ويتخيلونه بالموسيقا العذبة والرقصات المرحة والحركات الحرة، المعاقون جسدياً يشرحون الحياة الملونة بالتشكيل الجميل. وتتابع قائلة: الحياة لها كمال ونقصان، بعضنا لا يرى شيئاً، وبعضنا لا يسمع شيئاً، والآخر لا يسير بسهولة، الحياة حلم، نشعر بالنور في بحر من الظلام، ونحس بالإيقاع الموسيقي من الصمت، ونبحث عن الكمال من النقصان والعاهة.
وتنهي حديثها: هكذا ستجدون هذه الفرقة التي تتكون من مئة وعشرة فنانين، وسبعة وثلاثين عاملاً جميعهم بمن فيهم رئيسة الفرقة من المعاقين.