ملامح من أدب السيرة والرحلة وتوظيف الصورة في (عشق الصين)
بقلم الدكتور نادرعبدالخالق:
فى كتاب “عشق الصين” للأديبة والمدونة همت لاشين تواجهك ملامح عديدة من التكوين والمعارف التى تجمع بين أدب السيرة والرحلة فى صراع مع الصورة التعبيرية الفوتغرافية، حيث تتشكل مادة الكتاب من الصورة والمواقف التعبيرية الحكائية السردية ذات الوصف التصويرى فى مجموعة من المحاور الدلالية تتعين فى (الإهداء والدعوة والمقدمة وعدد من الفصول بلغت ثمانية) والمتأمل يجد أن مادة الكتاب السيرة والرحلة والصورة فى معظمها تشكلت من مواقف خارج الوطن، ومن تأثيرات نفسية ووجدانية كان لها الأثر المباشر على الشخصية صاحبة السيرة والوصف والتعليق .
وقبل الخوض فى مادة الكتاب والتعرف على حضارة الصين العريقة وسمات الشخصية الصينية وملامح الحياة المعاصرة وتطور الفكر فى هذه البلاد مع الاحتفاظ بثوابت التاريخ والعادات والتقاليد يجب أن نتعرف على الشخصية صاحبة السيرة ودوافع العشق الصينى لديها عبر رحلتها الطويلة فى بلاد الشرق الأقصى”الصين”:
همت لاشين:
مصرية ولدت فى محافظة الشرقية، تلقت تعليمها فى عدة أماكن متفرقة – الهند والقاهرة وبكين – نظرا لعمل والدها السفير عبداللطيف لاشين، وهى تعمل الأن فى مؤسسة دبى العالمية، ولها العديد من المشاركات والفعاليات التطوعية فى المجالات الإنسانية وفى التقريب بين الحضارات، وحصلت على العديد من الشهادات والجوائز التقديرية .
وكتاب “عشق الصين” يتكون من عدة محاور تحكى وتسرد وقائع حقيقية ومواقف حدثت كانت دافعا لتطور العلاقة الوجدانية بين همت لاشين الفتاة المصرية صاحبة الثمانى عشرة ربيعا وبين اللغة الصينية ودوافع البحث والتعلم، والانتقال من مرحلة التعليم والنبوغ إلى مرحلة الاندماج والانصهار فى حضارة عريقة بعيدا عن التأثر بالسمات التى لاتتفق مع الطبيعة الشرقية للفتاة والشخصية المصرية العربية المسلمة عامة.
وقد افتتحت الكتاب بالآية القرآنية الكريمة “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” هذا المفتتح الكريم الذى جاء فى مقدمة الكتاب يؤكد حقيقة التواصل النفسى والمعرفى والوجدانى والحضارى بين الأمم والشعوب، ويفرض هذا التواصل ويجعل منه سمة تتناغم من خلالها الشعوب وتنفتح على الثقافات حتى لا يصبح الإنسان فى هذا الكون وحيدا غريبا، وحتى تزول الوحشة ويعم السلام والوئام، وتصبح المعارف روابط وحقائق تنعم بها الإنسانية .
المحور الأول:
“طريق الألف ميل يبدأ بخطوة ” هذا المثل يختزل كثيرا من ملامح البداية مع اللغة الصينية فى كلية الألسن بالقاهرة، وبداية التحدى تقول همت عن ذلك : وبدأت الرحلة وكانت البداية ممتعة ومرهقة فى آن واحد مع هذه اللغة الغريبة العجيبة التى لاتعرف أولها من أخرها، والتى لاحروف أبجدية تحكمها، والتى لم أكن أعلم أنذاك هل هى تكتب من اليمين أم من الشمال أم من الأعلى إلى الأسفل..” ثم تنتقل إلى الحديث عن أول شخصية صينية التقت بها وهو الأستاذ ” جوا لاوشيه تقول همت : كان أول شخص أقابله واتعامل معه مباشرة، وكنت أتعجب من شدة هدوئه والتزامه! ومن الأمور الطريفة التى كانت تميزه أنه كان يرتدى طوال العام الدراسى بدلة واحدة زرقاء نظيفة ومرتبة، والاستاذ جوا كان أول من اختار لى اسما باللغة الصينية هو ” سى منت”، والأسماء فى اللغة الصينية غالبا ما تتكون من مقطعين أو ثلاثة مقاطع”.
ويضم هذا المحور ملامح من حياة الفيلسوف كونفوشيوس ومبادئه وآرائه التى منها ” سلح عقلك بالعلم خير من أن تزين جسدك بالجواهر” وكذلك الزعيم الروحى للأمة الصينية الحديثة “ماو تسى تونغ” ومقولته الشهيرة: سوف نخلق حضارة تهتز لها الأمم من حولنا” تقول همت عن تأثير هذه الفلسفة على وعيها وعقلها : ما بين كونفوشيوس قديما وماو حديثا قامت حضارة الصين التى يشهد لها التاريخ .. وعندما بدأت أنهل من معين الحكم والأمثال الصينية على أيدى أحفاد هذين العلمين شعرت حقا بأن شخصيتى بدأت منذ ذلك الوقت تستكمل مداركها وتوسع آفاق حكمتها .. ولاتغيب عن ذاكرتى المقولة التى كان كثير من أساتذتى وأصدقائى يرددونها أمامى فى الثمانينات وبكل ثقة ” تذكرى أننا نمشى على خطى ثابتة للتنمية فى الصين وسنغزو العالم اقتصاديا خلال 20 عاما وقد صدقوا ” .
المحور الثانى:
رحلة دراسية إلى الصين: وهنا تسرد وقائع الرحلة الدراسية والمواقف والصعوبات التى واجهتها بداية من رحلة السفر من القاهرة وكراتشي وبكين وصولا إلى معهد اللغات ومدرجاته وفصوله وغرف الإقامة والمعيشة والغربة فى ذلك الوقت المبكر جدا، وأول مشهد صادفها الخاص بالدراجات الكثيرة فى الشوارع مع وجود الدقة والنظام، ويضم هذا المحور العديد من المواقف التى تمثل بداية السرد الذاتى والحكى الاسترجاعى الذى يعتمد على الصورة الفوتغرافية وعلى طرافة الموقف وغناء المشهد المستمد من الطبيعة ومن الواقع الحياتى من ذلك:
1- أسلوب المعيشة: وكان داخل الغرف الصغيرة الخاصة بطلاب المعهد وقد صاحب ذلك العديد من المواقف مثل الحمامات المشتركة، وعينات الدم التى تؤخذ من الأذن تقول همت عن ذلك : أتذكر جيدا معهد اللغات بمدرجاته وفصوله الكثيرة وحدائقه الجميلة وأتذكر الصينين هناك بابتسامتهم الرقيقة وعيونهم الصغيرة وقد أحسست بأننى عصفور هاجر إلى أرض بعيدة لاأعرف كيف أبدا فيها وإلى أى وجهة أتحرك ولكن بقيت حاضرة فى ذهنى نصائح والدى قبل مغادرتى مصر بأن أهتم بصلاتى ودراستى واعود إلى بلدى حاملة شهادتى الجامعية بتفوق واستحقاق..”
2- زيارة سور الصين العظيم وأثر ذلك فى نفسها فرحا وانبهارا ودهشة كبيرة بوجودها فى هذا المكان الذى يعد أثرا رمزيا كبيرا فى نفوس الصينين وقدرة هائلة فى تحدى الصعاب تقول همت : “إذا كان سور الصين العظيم رمزا للأمة الصينية وقوة حضارتها القديمة، وأعجوبة من عجائب الدنيا السبع فإن الصينين مازالوا حتى اليوم يبدعون فى بناء أسوار جديدة من العزة والنهضة والتقدم حتى سبقوا كثيرا من الأمم فى العديد من مجالات الحياة .”
3- زيارة بيت أستاذى فى بكين وهنا تبدو ملامح الحياة فى الصين حيث البساطة والقناعة والرضا فالمسكن يتكون من غرفة واحدة وصالة صغيرة، وان جميع الطوائف على اختلاف منزلتهم يتسمون بهذه السمات تقول همت : علمت أن جميع الناس فى الصين سواسية وتكتنفهم جميعا صفة التعايش والتكيف والقناعة والبساطة فجميعهم يسكن الأماكن نفسها ويلبس الملابس ذاتها ويأكل الطعام ذاته ويقود الدراجة نفسها سواء مديرا أم خفيرا…” ويمتد هذا التوحد فى االمساواة بين الرجل والمرأ وقد عبرت عن ذلك بقولها مستعيرة هذا المثل الصينى “المرأة هى نصف السماء”
4- عيد ميلادى العشرون . 5- عملية الزائدة الدودية.
6- سرقة المعطف . 7- شهر رمضان فى الصين.
8- رحلة شتوية فى انحاء الصين بالقطار 9- مقابلة مع الصحفى أحمد عمار
10- نهاية السنة الدراسة.
فى هذه المحاور تبدو تأثيرات الغربة، وتتعين ملامح الجرأة فى الشخصية حيث تبدو متماسكة رغم العقبات النفسية والصحية والاجتماعية التى واجهتها، وهنا تبدو الملامح التعبيرية الحقيقية للسيرة الشخصية والمقاومة والجد والاجتهاد والمثابرة، وجاءت اللغة وصفية حكائية، بعيدة عن التقرير والمتابعة الجافة.
المحور الثالث:
عشق الصين الذى يحمل العنوان الرئيسى للكتاب وفى هذا المحور تبدو الملامح الحقيقية للشخصية الصينية وسماتها وماتنطوى عليه من الخوف والغموض والخجل، ثم بداية الرحلة العلمية مع الصينين فى ذلك تقول همت : أنا مدينة لهم بأشياء كثيرة تعلمتها منهم فى حياتى المهنية، منها الالتزام والنظام وحب العمل والإخلاص فيه، والجرأة فى القيام بالأعمال، حيث لافرق بين عمل المرأة والرجل فى أى مجال، حتى أننى أتذكر أنى كنت أقود شاحنة صغيرة فى بعض الأوقات…”، وفى هذا المحور تبدو عملية التطور والنضوج الشخصى للكاتبة، حيث تنتقل من مرحلة إلى أخرى فى تطور مستمر يتعين فى الحياة العملية بشكل عام، ويمكن تسمية هذه المرحلة بحصد الثمار واستثمار الخبرات، يتضح ذلك من خلال المواقف التى ذكرتها مثل موقفها مع المخرج أحمد بدرالدين والتلاقى الأسرى بين الصينين وأسرتها .
المحور الرابع:
وهنا تبدو السمة الصينية المتعلقة بالتفاؤل والتشاؤم والخاصة بالأرقام والتيمن برقم دون رقم، والطريف أن الكاتبة فرت سريعا من من الفصل الرابع تشاؤما من دلالته الرمزية فى الموروث الصينى الذى يعنى الموت .
المحور الخامس:
الإمارات ومرحلة جديدة بينى وبين الصينيين وفى هذا المحور تبدو ملامح الكاتبة كسيدة أعمال تجنى ثمار تعاونها الحضارى الصينى مع الوجه العربى، ويبدو ذلك فى دولة الإمارات من خلال عدة مناسبات منها مهرجان دبى للتسوق، وسوق التنين فى دبى، ومطعم بحر الصين فى دبى، ومهرجان الكتاب المستعمل فى الشارقة 2007-2009)، والأولمبياد الخاص الإماراتى ودورة الألعاب الأولمبية العالمية الصيفية – شنغهاى 2007.
المحور السادس:
وفيه يتجلى الوجه الأدبى الكامل للكاتبة والرحالة همت لاشين وذلك من خلال الوصف الدقيق لمجموعة من المدن الصينية وما تتميز به كل مدينة وقرية، وقد اتضح هنا الجانب الأخر من الوصف الذى انتقل من السيرة الذاتية إلى أدب الرحلة، واتسم الأسلوب بالدقة فى الوصف والبساطة فى التعبير، والرغبة فى نقل الصورة والمشهد كما هو بطرافته ودهشته، وذلك من خلال الرسم والتشخيص للمكان وأثره فى نفسها بواسطة الكلمات والجمل القصيرة ذات التكوين الإنشائى الجمالى، من ذلك وصفها لمدينة ” سوجو” و” أنهوى” تقول همت فى وصف مدينة القلب والعين : سوجو: أسميها مدينة القلب والعين لأن القلب والعين يعشقان كل شىء فى هذه المدينة الجميلة، ومهما وصفت فلن أستطيع وصف جمالك يا “سوجو” أشعر بأن جميلات الصين أيام الأمبراطوريات الصينية تسكن فى حدائقك الجميلة وبين أشجارك وتقطف من زهورك وتتغنى على ضفاف بحيراتك الرائعة.. ”
وتقول فى وصف ” أنهوى”: بعيدا عن المدن الكبيرة والأبراج العالية والفنادق الفاخرة، يرفرف قلبى فى كل زيارة للصين إلى مقاطعة ” أنهوى” بمدنها وقراها الصغيرة وأنا سها البسطاء تأخذنى هذه المقاطعة التى أنجبت عظماء ومشاهير الصين بكل ما فيها من عبق تاريخ الصين القديمة، فمازالت هذه المقاطعة التى تقع فى شرق الصين محتفظة تماما بنمط الحياة التقليدى هناك، حتى إنه من النادر أن تجد فيها سائحا أو أجنبيا، ولكننى حظيت بشرف أن أكون أول سيدة عربية تزور مدنا وقرى وأماكن متعددة فى هذه المقاطعة الجميلة ..”
المحور السابع:
الصين عادات ومناسبات وتخصص هذا المحور فى الوقوف على عادات وتقاليد الصينيين من ذلك العيد الوطنى، وعيد منتصف الخريف، وعيد قوارب التنين، والعلاقات الروحية فى الصين، والزواج عند الصينين، والموائد الصينية والمطبخ الصينى، وعيدان الطعام الصينية، والشاى الصينى، والمروحة الصينية، والمظلة أو الشمسية، والأختام، والألة الحاسبة الصينية، وفى هذا المحور تتعدد المعلومات والمعارف عن الشعب الصينى كيف يحتفل وكيف يتزوج وكيف تبداأ السنة، وكيف تتم العلاقات النفسية والروحية وبعض السمات التى يتسم بها الشعب الصينى فى عاداته وتقاليده، فضلا عن ثقافته وطباعه وميوله ورغباته.
المحور الثامن:
وهو المحور الذى ختم به الكتاب وجاء تحت مسمى “متفرقات” وافتتح بمقالة بعنوان ماذا تعرف عن الصين؟ وهى مقالة ضافية نشرت فى مجلة ” كل الأسرة ” وفيها حشد للعديد من المعلومات عن الكاتبة وثقافتها ورحلتها إلى الصين، وانطباعها عن شعبها من خلال بعض الإحصائيات عن الصين وملامحها وتكوينها والقوميات والديانات وأهم الأماكن الإسلامية فيها.
المحور الأخير:
وجه عربى وقلب صينى
وفى النهاية فإن كتاب عشق الصين للكاتبة همت لاشين، يجمع بين أدب السيرة الذاتية والرحلة والوصف لبلاد بعيدة، يعكس فيها الوجه المشرق ويتناول العادات والتقاليد والأوصاف الحسية والمعنوية لتلك البقعة ذات الخمسة آلاف عام من الحضارة والرقى، ويقدم أشخاصا وأماكنا ذات سحر خاص وطبع دقيق، وقد جعل من الوصف الجغرافى سمة تعكس كثيرا من صفات هذا المكان، وامتاز هذا الكتاب بأن جعل من الصورة الفوتغرافية فى جميع فصوله وسيلة حكائية مساعدة اختزلت العديد من المواقف والتعبيرات وأغنت عن الوصف والإسهاب، وقد بلغت الصور فيه ما يزيد على أربعمائة صورة ما بين خاصة وعامة وما بين وصف لمعلم تاريخى ومشهد طبيعى، وما بين موقف طريف ونادرة، وجاء الأسلوب فى معظمه حكائيا سرديا يعتمد على التشويق والقص المتتابع الذى يقدم المعلومة ويصف الشعور الداخلى الوجدانى، وهنا تجاوز الأسلوب الجانب التقليدى الإنشائى فى أدب السيرة الذاتية الذى يقص معتمدا على الذاكرة، وعلى وصف المواقف التى تتناسب مع الشخصية، حيث انتقل من خلال الصورة إلى وصف مراحل تطور الشخصية منذ بداية تعلقها باللغة الصينية، مرورا بالخبرات والثقافات التى تناولتها واكتسبتها فى مشوارها الطويل .
والجدير بالذكر أن العملية الإخراجية للكتاب جمعت بين الأناقة والتوظيف الفنى الدقيق لمعنى التركيب الفوتغرافى فى استخدامه كوسيلة حكائية ومن ثم الاستفادة من دلالات الفكرة التصويرية، والألوان وتناسق الخطوط والأشكال .
كتاب عشق الصين للكاتبة والمدونة الأستاذة همت لاشين مساهمة فعالة جديرة بالبحث والدرس من منطلق أدب الرحلة وتطوره على مستوى التوظيف والمفهوم وعلى مستوى التعبير بالصورة الفوتغرافية حيث انطلق التوظيف والتعبير معتمدا على جدلية الثقافة الذاتية الخاصة التى تجعل من الصورة وسيلة تعبيرية بجانب المعلومة والفكرة التاريخية .. تحية للكاتبة الكبيرة همت لاشين ومحاولاتها الجمع بين متخيلين فى إطار وجدانى ونفسى تناغمت فيه الدلالات والأفكار تناغما عكس رحلة طويلة من الاغتراب النفسى والمكانى واستوعب حقبة زمنية ليست بالقصيرة من حياة الكاتبة وجمع بين حضارات مختلفة ومتباعدة لكنها متحدة إنسانيا وأدبيا