حكمة الشعوب القديمة وحماقة الغرب
صحيفة الاتحاد الإماراتية ـ
محمد عارف:
“حلت لحظة الصين في أفغانستان”، عنوان تقرير أندرو سمول، الباحث في “مؤسسة مارشال الألمانية” في واشنطن. ويلاحظ سمول أن سياسة الصين في أفغانستان كان يمكن وصفها حتى وقت قريب بالسكون الحاذق. كانت تجلس على الخطوط الجانبية لحرب ترغب في أن لا يربحها أيّ طرف. لكن زيارة زو يونكانج، رئيس الاستخبارات الصينية، في الشهر الماضي إلى أفغانستان، وهي الأولى من نوعها خلال نصف قرن، سجلت أوضح إشارة إلى أن موعد الانسحاب الأميركي في 2014 يضع نهاية لوضع المتفرج. وبينما أغلقت الأبواب أمام واشنطن في لعب أي دور مؤثر، أصبحت الصين أهم وسيط لأفغانستان ومستثمر فيها. ولن تبدأ الصين من الصفر، فعلاقاتها في أفغانستان تمتد من زعيم “طالبان” الملا عمر، وحتى الرئيس الحالي حميد كارزاي. في التسعينيات كان زعماء الصين الوحيدين من غير المسلمين الذين يلتقي بهم الملا عمر، وفي شهر يونيو هذا العام عقد كارزاي اتفاقية شراكة استراتيجية مع بكين.
و”الشخص الحكيم لا يفكر بأن يكون إمّا مع أيّ شيء أو ضد أيّ شيء، بل يتبع ما هو حق”. حكمة كونفشيوس هذه مفتاح نجاح الصين في إقامة العلاقة الثلاثية الصعبة التي تجمعها والشقيقين اللدودين أفغانستان وباكستان. ويقارن الكاتب الفلسطيني الأميركي رمزي بارود بين سياسة الصين الخارجية المحترسة، لكن الواضحة التي لا لبس في أهدافها بعيدة المدى، ومغامرات واشنطن العسكرية الأممية، واقتحاماتها وتراجعاتها الجيوسياسية. ويذكر بارود، الذي صدر له أخيراً كتاب بالإنجليزية عنوانه “أبي كان مقاتلاً من أجل الحرية: قصة غزة التي لا تُحكى”، أن هبوب إعصار “الربيع العربي” الذي أطلق الثورات والحروب الأهلية والصراعات من كل نوع، دفع الإمبراطوريات الغاربة والصاعدة إلى مراجعة حساباتها. وتحددت بسرعة الفوالق الزلزالية وبدأ الطامحون لاستغلالها واللاعبون فيها بتغيير مواقفهم، وانطلق غداة “اللعبة الكبرى” التسابق لاحتلال مواقع أمامية حول الموارد الثرية للمنطقة وموقعها الاستراتيجي. “الصين القلقة على استثماراتها في المنطقة تحركت باحتراس متوقع: اهتزت بعض الوقت كما في ليبيا، وبدت أكثر ثباتاً في سوريا، وغير مكترثة تماماً بالبحرين”.
وتلخص حكمة كونفشيوس التالية الفارق بين وضع بكين وواشنطن في مواجهة الربيع العربي: “الشخص الحكيم راضٍ، ورابط الجأش، والطمّاع ملؤه الكَدَر”. ساحة حركة الصين لا حدود لها، حسب بارود الذي يلاحظ “أن الشرق الأوسط الجديد لن يغير حقيقة أن الصين، على خلاف الولايات المتحدة، لم تتورط بتاريخ فظاعات الغزو العسكري والاستغلال الاقتصادي، الذي ارتبط باسم القوى الغربية”. ويتوقع أن “تُصاب مصالح أميركا وموقعها كقوة أجنبية مسيطرة على المنطقة بضرر لا يمكن إصلاحه”.
ولا أجد تشخيصاً لعلاقة واشنطن مع العالم العربي والإسلامي أفضل من حكمة صينية عمرها نحو ثلاثة آلاف عام. “الأعمى لا يستطيع أن يرى لأنه لا يملك عينين، والأطرش لا يستطيع أن يسمع لأنه لا يملك أذنين، وأنت لا تفهم لأنك لا تملك روحاً”. وليس سوى فاقد الروح يشن حرباً عالمية لغزو بلدين معزولين مستضعفين كالعراق وأفغانستان. “بانتظار طالبان في أفغانستان”، عنوان بحث جيل درنسورو، أستاذ علم السياسة في جامعة السوربون. وفي البحوث الأكاديمية من الهزل قدر ما في مسرحية العبث المشهورة “بانتظار جودو”. فالباحث يطرح في فصل عنوانه “في البحث عن الهدف”، السؤال التالي: “وهكذا، كيف على الولايات المتحدة أن تذهب من هنا؟”. ويرى أن “أول ما ينبغي على واشنطن عمله هو تحديد الأولويات”. فمنذ عام 2001 كان للتحالف هدفان نهائيان، وفق المناسبة وأحياناً بشكل متزامن: تحييد الجماعات الجهادية عابرة الحدود، والحفاظ على موقع التأثير الإقليمي. وفي السنوات اللاحقة تمحور الحضور العسكري الأميركي بشكل أساسي حول القتال ضد القاعدة”. ويشير الباحث في جملة اعتراضية إلى أن القاعدة “تملك حضوراً في باكستان أكبر مما في أفغانستان – وكذلك جماعات طالبان” ويستدرك “أو جماعات يُعتقدُ بأنها من طالبان، فقد وقعت أخطاء كثيرة”! وينتهي البحث، كما في مسرحية “بانتظار جودو”، بإعلان أحد بطلي المسرحية “لكن ليس هذا هو السؤال. السؤال هو لماذا نحن هنا؟ وقد حدث أننا ننعم بمعرفة الجواب. أجل، في هذا الارتباك العظيم أمر واحد وحيد واضح. نحن بانتظار جودو”. والنكتة، بمعناها المأساوي، في الحرب وفي المسرحية أن لا أحد يستطيع التعرف على “جودو” حتى إذا جاء. “أنا شخصياً لا أستطيع التعرف عليه إذا رأيته”. ويجيب رفيقه في المسرحية الحوارية التي تجري بين شخصين: “نحن بالكاد نعرفه”. وكيف سنعرف أفغانستان عام 2014 عندما تغادرها قوات التحالف بحال أسوأ مما كانت عليه قبل غزوها عام 2001، بل أسوأ من ذلك بعواقبه الزلزالية، حسب بحث “بانتظار طالبان في أفغانستان”. فليس هناك خطة واضحة للمستقبل، وستفقد واشنطن بصورة متزايدة نفوذها على كابول، والطائرات بدون طيار ليست وسيلة موثوقة للقتال ضد الجماعات الجهادية على الحدود الأفغانية الباكستانية. ويتفاقم سوء الحالة عندما تغادر القوات الأميركية نهائياً، وتنخفض 20 مرة المساعدات للحكومة الأفغانية مقارنة بما كانت عليه في عام 2011.
وكما يقول بطل المسرحية “هنا رجل بكامل إدراكه يلوم حذاءه بينما الملام قدمه”. لقد أعادوا في مطلع القرن الحالي ارتكاب جميع الحماقات الاستعمارية ضد العرب والمسلمين على امتداد القرن الماضي، بل أعادوا في مطلع الألفية الثالثة ارتكاب جميع الجرائم على امتداد الألفية الماضية. عدد قتلى المدنيين في حربي العراق وأفغانستان بلغ نحو 300 ألف قتيل، حسب أحدث التقديرات المتواضعة لتقرير “برنامج آيزنهاور للبحوث” في جامعة براون في الولايات المتحدة. وعندما نحسب نسبة القتلى غير المباشرين، وهي حسب سكرتارية اتفاقية جنيف أربعة قتلى مقابل كل قتيل سقط في العمليات العسكرية، يبدو متواضعاً رقم مليون قتيل بين المدنيين في العراق وأفغانستان.
وإذا أخذنا بالاعتبار عدد قتلى الأميركيين (وهو6500 قتيل) في حربي العراق وأفغانستان بالنسبة للمعوقين الأميركيين بسبب الحرب (675 ألفاً)، نكتشف العدد المفجع المسكوت عنه لمعوقي الحرب في العراق وأفغانستان. كلف هذا الإنجاز واشنطن 4 تريليونات دولار، حسب تقرير “جامعة براون” الذي يذكر أن “صفحات الحروب لا تُطوى بإعلان وقفها. فإنفاق مئات المليارات من الدولارات على معالجة آثارها يستمر سنوات عدة، حتى يبلغ الذروة في منتصف القرن، لكن كلفتها البشرية ستواصل التردد سنوات طويلة”. إعصار “الربيع العربي” الذي يسمعه العالم ويراه هو تقليب الصفحات في قلوب وعقول العرب والمسلمين. حكمة الشعوب القديمة وحماقة الغرب.