روسيا والصين وآفاق الصراع مع الولايات المتحدة
صحيفة الخليج الإماراتية:
د . محمد السعيد إدريس:
بعد خروجها منتصرة من الحرب الباردة التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط حلف وارسو نجحت الولايات المتحدة في أن تفرض نفسها “قوة عظمى أحادية” على رأس النظام العالمي، وأن تجعل من حلف شمال الاطلسي “الناتو” القوة العسكرية الأحادية في العالم القادرة على أن تتدخل في مناطق العالم المختلفة على العكس من ميثاقه الذي كان قد حدد القارة الأوروبية مجالاً لنشاط هذا الحلف منذ تأسيسه عام 1949 لمواجهة خطر الاتحاد السوفييتي والشيوعية العالمية على الدول الأوروبية الحليفة للولايات المتحدة . كانت الولايات المتحدة،وهي في أوج هذا الانتصار التاريخي، وبالتحديد وهي على اعتاب التورط في حربها على “الإرهاب” عقب تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وقبيل غزوها لأفغانستان والعراق تنتج بمفردها ربع الناتج العالمي الاجمالي في حين أن عدد سكانها لم يتجاوز 5% من سكان العالم، وكان لديها 250 ألف جندي منتشرين حول العالم في أكثر من 700 قاعدة عسكرية موزعة على 130 دولة .
في مثل هذه الحالة من التفوق الاقتصادي والعسكري الأمريكي المطلق كان منطقياً أن تفرض تداعيات سياسية وثقافية أبدعتها أو انتجتها مراكز البحوث والدراسات والأكاديميات الأمريكية من نوع طرح مفهوم “الإمبراطورية الأمريكية” أو تحول الولايات المتحدة إلى قوة إمبراطورية، وعلى اعتبار أن الانتصار الأمريكي في الحرب الباردة يعني انتصاراً للفكر الرأسمالي وللنظام الرأسمالي على الفكر الاشتراكي والنظام الاشتراكي، واعتبار هذا الانتصار “نهاية التاريخ”، أعطى للرأسمالية والليبرالية معاً قدراً مغالى فيه من المكانة والمصداقية، لذلك خرجت دعوة إقامة نظام الشرق الأوسط الكبير بما تعنيه من سيطرة أمريكية على ذلك المستطيل شديد الأهمية الممتد من غرب الصين شرقاً حتى حدود الاطلسي غرباً، ومن جنوب روسيا وتركيا شمالاً حتى حدود المحيط الهندي جنوباً، ما يعني فرض السيطرة الأمريكية على قلب العالم . وكان المدخل لهذا كله غزو العراق واحتلاله تحت غطاء السعي لإعادة ترسيم الخرائط السياسية في المنطقة للحد من مخاطر ما أسماه الأمريكيون ب “الدول الفاشلة” التي “فرخت بؤر الإرهاب الدولي” الذي بات يهدد العالم ابتداء من تفجيرات 11 سبتمبر 2001 .
هذه الطموحات والتوقعات المتفائلة بشأن “القطب الأمريكي الأعظم” أخذت تتراجع بفعل عوامل متعددة بعضها يخص الولايات المتحدة وبعضها الآخر يخص تفاعلات خارج الولايات المتحدة، وكانت المحصلة هي تراجع المكانة الأمريكية وتزعزع الثقة في القطب الأعظم وظهور كتابات من نوع “عصر ما بعد الإمبراطورية”، والمقصود هنا هو الإمبراطورية الأمريكية التي لم تكن قد فرضت نفسها بعد ومن نوع “السقوط الأمريكي” لكن الأهم من هذا كله، وهو ما يعنينا هو قناعة الكثير من المراقبين لحقيقة انقضاء المرحلة المحددة لنظام أحادي القطبية وحتمية دخول العالم نحو عالم جديد ونظام عالمي جديد متعدد الأقطاب .
من بين العوالم الداخلية التي سرعت من تداعي حلم الإمبراطورية الأمريكية سوء إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش الذي شن حربين كبيرتين في آن واحد تقريباً على أفغانستان والعراق، وفي الوقت ذاته خفض الضرائب في الولايات المتحدة لدعم الأثرياء بدلاً من زيادة الانفاق دعماً للفقراء خاصة بالنسبة للتأمين الصحي وغيره من الحقوق الاجتماعية للمواطن الأمريكي . وقد أدت سياسات بوش الاقتصادية “الخرقاء” إلى حدوث ما أخذ يعرف ب “تسونامي القرن الاقتصادي” الذي تضرر منه العالم بأسره، فضلاً عما احدثته هذه السياسات الاقتصادية من تشوهات بالغة بالنموذج الرأسمالي وكشفت سوءاته وعوراته، بعد أن كان قد بلغ أوج قوته في اوائل عقد الثمانينات من القرن الماضي في ظل حكم الرئيس الأسبق رونالد ريغان .
التآكل لم يصب القدرات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية فقط، بل نال كثيراً مما يوصف ب “القوة الناعمة” التي يعرفها جوزيف ناي استاذ العلوم السياسية الأمريكي الشهير بأنها “المقدرة على التأثير وتشكيل خيارات أو افضليات الآخرين” والقوة الناعمة مشتقة بالضرورة من مخزون ثقافة وقيم وإنجازات الدولة أو “الأمة” . هذا المفهوم الريادي لما يعرف ب “القوة الناعمة” للدولة، زادت عليه أكاديمية الدراسات الاجتماعية الصينية توضيحاً من خلال تحديد معايير لقياس القوة الناعمة” للدولة أو للأمة . فقد وضعت هذه الأكاديمية لائحة تضم 64 مؤشراً لقياس ما اعتبرته “القوة الوطنية الشاملة” أبرزها: المقدرة الدفاعية، القوة الاقتصادية، المقدرات العلمية والتكنولوجية، السكان والتنمية الإنسانية، الإعلام والثقافة والآداب والفنون .
اعتماد هذه المؤشرات كمؤشرات لقياس القوة الشاملة عاماً بعد عام بالنسبة للولايات المتحدة كشف عن تراجع ملحوظ برغم أن الولايات المتحدة تأتي في المرتبة الأولى وتسبق الدول الأخرى . هذا التراجع يفرض نفسه بقوة على السياسة الخارجية الأمريكية على النحو الذي حسم به جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الجدل الدائر حول انكماش أم تمدد السياسة الخارجية الأمريكية بتأكيده أن “قوتنا في الخارج تعتمد على قوتنا في الداخل، إذ لا يمكن أن تكون قوياً دبلوماسياً إذا لم تكن قوياً اقتصادياً، وأزمتنا المالية تهدد كل هذا، لذلك على قادتنا الاتفاق على تسوية كبرى”
التسوية الكبرى التي يعنيها جيمس بيكر هي ما يعرف الآن داخل الولايات المتحدة ب “قنبلة الدَّيْن الموقوتة” حيث ينتظر الرئيس الأمريكي باراك أوباما في رئاسته الثانية استحقاقاً شديد الأهمية في الأول من يناير/كانون الثاني المقبل (2013) يطلق عليه “حافة الهاوية المالية” بعد أن وصل الدين العام إلى ما يقارب 16 تريليون دولار، أي ما يقارب الناتج القومي الاجمالي الأمريكي، أما العوامل الخارجية فهي كثيرة أبرزها الظهور الصيني القوي كقوة عالمية منافسة ليس اقتصادياً فقط بل منافسة بمعايير مقاييس القوة الشاملة، وعودة روسيا هي الأخرى كقوة قادرة على تجديد المنافسة، إضافة إلى بروز القوة الهندية إلى جانبي قوى إقليمية كبرى أخرى فرضت نفسها كشريك في مجموعة ال 20 خاصة البرازيل وجنوب إفريقيا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وتركيا .
عودة روسيا والصين
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي لم تتوقف مراكز البحوث الاستراتيجية الأمريكية عن السعي لإيجاد السبل الكفيلة لضمان هيمنة الولايات المتحدة على العالم كقطب أوحد، لكنها لم تستطع رغم كل ما يذل من جهود، تجاهل احتمالات العودة الروسية للمنافسة على الزعامة العالمية .
لم يكن السؤال المطروح وقتها هو: هل ستعود روسيا أم لا كقوة عالمية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهياره؟ بل كان السؤال المطروح دائماً، وبجدية شديدة هو متى ستعود روسيا؟ لكن السؤال الأهم الذي شغل كل هؤلاء هو كيف يمكن عرقلة هذه العودة؟
وفي الواقع لم تكن روسيا وحدها المعنية بمثل هذا السؤال، فقد وصل الحرص الأمريكي على فرض وتأمين بقاء الهيمنة الأمريكية على العالم لدرجة وضع أوروبا واليابان والقوى العالمية والإقليمية الصاعدة خاصة الصين والهند ضمن الدائرة ذاتها، أي منعها من أن تتحول إلى قوة قادرة على منافسة الزعامة الأمريكية للعالم، لكن ما حظيت به روسيا من اهتمامات وما تعرضت له من سياسات أمريكية فاق غيرها من القوى العالمية والإقليمية الأخرى .
فبعد أن تمكنت الولايات المتحدة عبر الضغوط الاقتصادية والشروط السياسية من اجبار روسيا على انتهاج سياسات وبرامج اقتصادية تجعلها قابلة للخضوع الدائم للمطالب الأمريكية والغربية، بدأ الاتجاه السريع إلى دمج حلفاء روسيا السابقين في شرق ووسط أوروبا في المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الغربية، خاصة الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي وبدأ الاتجاه نحو اختراق الجمهوريات السوفييتية السابقة وتشجيعها على التمرد على العلاقة مع روسيا وإغراء بعضها بالانضمام لحلف الناتو خاصة جورجيا وأوكرانيا، تمهيداً لعزل روسيا وفرض طوق حولها، ثم جاء التوجه الأمريكي لبناء وإقامة درع صاروخية على مسافات قريبة من الأراضي الروسية وخاصة في بولندا وتشيكيا، تحت زعم التحسب لخطر الصواريخ البالستية المحتملة من أول محور الشر “إيران وكوريا الشمالية” لاستكمال محاصرة روسيا وتحييد قوتها النووية وحرمانها من أهم مصادر قوتها التنافسية للولايات المتحدة .
فبعد أن اعترفت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي باستقلال كوسوفا عن صربيا، وما يعنيه ذلك من اخراج كوسوفا من العالم السلافي الحليف لروسيا، ومن دون أي اعتبار للرفض الروسي لهذه الخطوة اقدمت الولايات المتحدة على ممارسة المزيد من السياسات الاستفزازية لروسيا، وجاء توقيع وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس رسمياً على اتفاق إقامة الدرع الصاروخية الأمريكية في بولندا مع نظيرها اليولندي رادوسلاف سيكورسكي، رغم كل الرفض والتحذيرات الروسية التي وصلت إلى درجة التهديد باستخدام الأسلحة النووية في مواجهة هذه الدرع الصاروخية ليعلن أن الولايات المتحدة وصلت إلى الحد الأقصى في الضغط على روسيا التي لم يعد أمامها غير خيارين: إما أن تقبل بالأمر الواقع وترضى بعزلها نهائياً خصوصاً أن التوقيع الأمريكي مع بولندا على اتفاقية الدرع الصاروخية على أراضيها تزامن مع اشارات أمريكية وألمانية يضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، وإما أن ترفض وتعلن التحدي للإرادة الأمريكية وتكون قادرة على تحمل تبعاته .
من هنا بالتحديد يمكن فهم الأسباب الحقيقية التي دفعت روسيا إلى التدخل العسكري القوي والحاسم ضد جورجيا وإجبارها على سحب قواتها من أراضي أقليم اوسيتيا الجنوبية، وما تبع ذلك من سياسات ومواقف تصعيدية روسية فاجأت الأمريكيين لدرجة اربكت ردود فعلهم وانتزعت منهم القدرة على المباداة ووضعتهم في الدائرة الضيقة لردود الفعل .
الأهم من هذا كله هو ما كشفته إدارة روسيا لهذه الأزمة من حقائق أكدت أن موازين جديدة للقوة أخذت تفرض نفسها على الواقع الأوروبي، وأن أوروبا عادت مجدداً ساحة للصراع بين روسيا والغرب، وأن الحرب الروسية – الجورجية لم تكن إلا أزمة كاشفة لواقع دولي جديد أرادت روسيا الافصاح عنه . فقد ظهر الموقف الروسي متماسكاً وقوياً وغير قابل للتنازل أو للتراجع على عكس الموقف الأمريكي، كما نجحت روسيا في منع صدور أي قرار من مجلس الأمن يدين تدخلها العسكري في جورجيا أو يفرض عليها الانسحاب، لكنها قبلت باتفاق لوقف إطلاق النار فقط، واستخدمت موسكو لهجة قوية مماثلة في الرد على إدانة الدول الصناعية الكبرى لتحركاتها في القوقاز .
كانت أزمة جورجيا مجرد مؤشر على العودة الروسية التي تأكدت بعد ذلك في مواقف روسية مستقلة عن واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي نحو أزمة البرنامج النووي الإيراني، والأزمة السورية، لكن الأهم هو التوجه الروسي نحو الصين والهند والدفع بمنظمة شنغهاي، لتكون إيذاناً بفرض قطب دولي جديد قارد على التأثير وبقوة في مجريات الصراع الدولي، وهي المنظمة التي تضم روسيا والصين مع أربع جمهوريات سوفييتية سابقة هي: كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، إضافة إلى أربع دول أخرى تتمتع بصفة مراقب من أبرزها الهند وإيران .
رهان روسيا الأساسي في هذه المنظمة يتركز على كل من الصين والهند وكيفية التقريب بين البلدين واحتواء كل ما تحاول الإدارة الأمريكية فعله نحو الهند للوقيعة بينها وبين الصين أولاً والحيلولة دون توافقهما، والسعي ثانياً لإكساب العلاقات الأمريكية – الهندية خصوصية تمكن واشنطن من أن تفرض وجودها قوياً في آسيا اعتماداً على التحالف مع الهند، في وقت ترى فيه الإدارة الأمريكية برئاسة باراك أوباما أن أولوية واشنطن الآن باتت مركزة على آسيا أكثر من أوروبا والشرق الأوسط .
ربما يكون الصعود الصيني المخيف للأمريكيين سبباً وراء حسم الإدارة الأمريكية لهذا التوجه، إضافة إلى التحسب من البروز القوي للهند من أجل التقدم . فالصين بحلول عام 2049 الذي سيصادف احتفالها بمئوية جمهوريتها سوف تحتفل يتبوّؤ ناتجها المحلي الاجمالي المرتبة الأولى على مستوى العالم . فلدى الصين حالياً 9 .1 تريليون دولار احتياطي نقدي، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف احتياطيات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، لكن الأهم من ذلك هو أن هذا التقدم الاقتصادي الصيني لم يأت عبر نظام اقتصادي رأسمالي تتزعم الولايات المتحدة، ولكنه جاء عن طريق اقتصاد موجه، وربما لا يعرف الكثيرون أن معظم الشركات الكبرى في بورصة شنغهاي إما أنها مملوكة بالكامل أو جزئياً للدولة . كما أن معدل النمو الاقتصادي الصيني بلغ خلال ربع القرن الأخير 9%، وازداد معدل دخل الفرد ستة أضعاف، وتم الصعود بما لا يقل عن 400 مليون صيني إلى ما يتجاوز معدل حد الفقر .
التقدم الصيني لم يكن اقتصادياً فقط مقارنة بالوضع الأمريكي لكنه امتد إلى كل مناحي القوة الشاملة للصين، وأصبحت القوة الناعمة الصينية متفوقة هي الأخرى بقدر يوازي تقريباً التقدم الاقتصادي . فوفقاً لتصنيف “فورتشين” أخيراً لأكبر الشركات العشر في العالم، لم يكن للولايات المتحدة غير اثنتين فقط هما “والمارت” في الترتيب الأول، و”ايكسون موبيل” في الترتيب الثاني، في حين كانت هناك ثلاث شركات صينية من بين الشركات العشر الكبرى في العالم هي: سينوبيك وستيت غريد، وشركة بترول الصين الوطنية، وأخيراً بدأ واضعو السياسات في الصين يدركون أن مصالح الصين الاقتصادية باتت تمضي بمعدلات أسرع من الاستطاعة العسكرية اللازمة لحماية هذه المصالح، لذلك قرروا العمل على تجسير الفجوة بين النمو والمصالح الاقتصادية والمقدرة العسكرية .
في هذا السياق اعطيت الأولوية لحماية الخطوط والطرق البحرية لناقلات النفط، وعملت الصين على تقديم تمويلات ومساعدات تقنية ولوجستية لتشييد موانئ وخطوط أنابيب بترولية في باكستان وبنغلاديش وبورما . وبمجرد الفراغ من اكمال هذه المنشآت ستوجه الصين مخططاتها وقواتها البحرية نحو الشرق الأوسط والمحيط الهندي حيث لاتزال واشنطن تهيمن عليهما .
هذا التوجه كان من شأنه زيادة الانفاق العسكري الصيني في توجه اقلق الأمريكيين، حيث تتجه الصين لبناء أول حاملة طائرات وتنوي صناعة خمس أو ست منها في المجمل، وربما كان الأكثر خطورة هو تطوير الصين لتكنولوجيا صواريخ جديدة والتقنية المضادة للأقمار الصناعية بما يهدد السيطرة البحرية والجوية التي تبني عليها الولايات المتحدة تفوقها .
نظام متعدد الاقطاب أم نظام اللاقطبية
مجمل هذه التطورات حسمت السؤال الخاص بانتهاء عصر نظام الأحادية القطبية، لكن يبقى السؤال المهم هو أي تغيير سوف يحدث في النظام العالمي هل يتجه إلى نظام التعددية القطبية أم أن ما يحدث الآن لم يعد يسمح بظهور أقصاب أو قوى عظمى لكنه يفترض نظام “اللاقطبية” .
السؤال دافعه أمران الأول: تراجع مكانة القوة العظمى بمفهومها التقليدي الذي يقول إنها “القوة القادرة على أن تفعل أي شيء تريده في أي وقت تريده وبأي أسلوب تفضله” . كثيرون يقولون إن هذه القوة لم يعد لها وجود الآن . الثاني، تعدد وكثرة الدول الكبرى الصاعدة، وتعد مجموعة ال “20” أبرز الأمثلة على ذلك .
ريتشارد هاس مسؤول التخطيط السياسي الأسبق بالخارجية الأمريكية والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية الذي يصدر مجلة “الشؤون الخارجية” (فورين أفيرز) نشر مقالاً بهذه المجلة في عدد مايو/يونيو 2008 تحت عنوان “ما بعد الهيمنة الأمريكية: اللاقطبية العالمية” وفيها قدر بداية أن الولايات المتحدة لم تعد القطب العالمي الأوحد في العالم، وأن عالم الأحادية القطبية لم يعد له الآن أي وجود، لكنه لا يرى الآن نظاماً عالمياً متعدد الاقطاب، ولكن ما يراه هو “نظام اللاقطبية” الذي يأمل بأن يتطور إلى نظام متعدد الاقطاب كي لا تكون الفوضى هي القانونن العام الحاكم للعالم، وهو ما حذر منه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في مقال نشره بصحيفة “انديندنت” البريطانية تحت عنوان “على العالم أن يصيغ نظاماً جديداً أو أن يدخل في فوضى”.