هبوط واشنطن وصعود بكين
صحيفة الديار الأردنية ـ
يلينا نيدوغينا*:
يبدو أن القرن الأمريكي يواجه صعوبة في الِنزال الدولي. فأمريكا تبدو وحيدة في عالم اليوم وتلملم جراحها في كل مكان من الكرة الارضية. فقد ولّدت واشنطن في عالم الأمس والأمس القريب خصوماً وأعداءً في كل بقعة عالمية، حتى بين حلفائها وفي أوساط أصدقائها ومريديها. فالأمريكي الذي حاول إيهام نفسه بالعظمة وصحة السياسة ودقّة التقدير ووحدانية الزعامة بات مختلا عقلياً بعد أن كان مُختَالاً بنفسه فغدا فاقداً لصوابه.
حتى في المعسكر الاوروبي الغربي باتوا يعاندون واشنطن ويساومون عليها، بعدما تبيّن اختلالها وفقدانها التوازن العقلي والسياسي وسوء إدارتها واستفحال خطاياها العالمية التي لا تغتفر. رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير كان الاول الذي وجه ضربة موجعة للسياسة الامريكية، برغم من أن لندن كانت على الدوام تسير وراء القطب الامريكي وتسبّح بحمده وتغنّي على موّاله. بلير كان صرح آواخر العام الماضي بأنه يتوقع أن “تستمر” الصين في الانفتاح والنمو لتصبح الاقتصاد الرئيسي فى العالم، وبرأيه فإن الكيفية التى حققت بها الدولة الصينية تنمية “يُمثل أهمية جوهرية للعالم أجمع”. بلير مُعجب بالتنمية والآليات الصينية التي تفوّقت على مثيلاتها الرأسمالية، لذا يرى بأن الصين “حققت أكبر تقدم اقتصادي لافت للنظر فى تاريخ البشرية”، و.. “انتشلت من الفقر بشراً أكثر من أية دولة أخرى في العالم منذ أن اتخذت قراراً بالانفتاح”. وتوقع بلير بأن تواصل الصين الانفتاح لتعزيز التنمية في “كل” القطاعات “المملوكة للدولة والخاصة”، وبأن تقدّم تعليماً وخدمات صحية افضل وتبني قطاعاً مالياً أكثر تنافسية وتحسّن إصدار القوانين. وذهب “الرئيس” البريطاني الى أبعد من ذلك عندما أكد في كلمة له أمام مؤتمر تسايجينغ السنوي الذي عُقد في بكين، “إن هناك دروساً كثيرة يمكن للدول تعلّمها عن طريق تحليل اقتصاد الصين واقتصادات الدول الصاعدة الأخرى”، ولسان حاله يردد بعد “1433” سنة الحديث الشريف “أُطلبوا العلم ولو في الصين”.
كان لتصريحات بلير وقع الزلزال على أوروبا الغربية والقوى الشرق اوروبية الضالعة في المشروع الهيمني الامريكي العالمي، وكان لها ردود فعل قوية في الاوساط السياسية والاقتصادية والتجارية الاوروبية والدولية، ولم يتوقعها أعتى الساسة الامريكان، وقد دفعت هذه التصريحات الى تصريحات أخرى متلاحقة اطلقها قادة عالميون آخرون أشادوا بالتجربة الصينية وسياسة وأهداف الصين الاقتصادية وتأثيراتها الايجابية على العالم وآسيا. وموخراً كذلك، صرح رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبدالرزاق بأنه “يَفخر” بعلاقات بلاده مع الصين، التي يمكن أن تقوم “بدور رئيسي” في جنوب شرقي آسيا، “كقوة للاستقرار والتنمية والخير”. وقد جاءت تصريحات نجيب هذه خلال مراسم افتتاح منطقة صناعية شيّدها البلدان، حيث أكد بأن “الانطلاق الرسمي لمنطقة كوانتان الصناعية بين ماليزيا والصين يُعد فصلاً جديداً في العلاقة بين البلدين “وهي، برأيه، علاقة فاقت كل التوقعات”. واستعاد نجيب الزيارة التاريخية التي نفّذها والده الراحل، رئيس الوزراء الماليزي وقتئذ تون عبدالرزاق، إلى بكين منذ أربعة عقود قائلاً: إن ماليزيا “كسرت جمود الحرب الباردة”، عِلماً بأن ماليزيا كانت أول دولة في جنوب شرقي آسيا تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين، في عام 1974، وصفها نجيب بأنها كانت “بداية لشراكة عظيمة واعدة”، ويرى نجيب بأن ماليزيا والصين “ترتبطان اليوم على نحو وثيق، فالصين تعد أكبر سوق تصدير بالنسبة لماليزيا، في حين تعد سادس أكبر سوق لوارداتها”، وتوقّع بأن تصل التجارة الثنائية على مدار السنوات الخمس المقبلة بين بكين وكوالالمبور إلى مئة مليار دولار أمريكي، لذا تعمل ماليزيا لإرساء علاقات اقتصادية وقواعد دبلوماسية قوية مع الصين، وتؤمن بأن “الصين تلعب دوراً مركزياً في منطقة شرقي آسيا كقوة استقرار وتنمية”، ضمن منهج “تقاليد الثقة المتبادلة في استغلال الفرص المشتركة الذي يستمر الى اليوم”. إشادة القائد الماليزي نجيب بالصين لا تتوقف عند العلاقات الثنائية، بل تنسحب كذلك على نمط التطور الصيني والعقلية الصينية المتطورة والمنفتحة والمُبدعة، فماليزيا هي واحدة من اقرب الدول للصين جغرافياً، واكثرها معرفة بحجم الصين الاقتصادي ودافعية الاقتصاد الصيني، لذا نرى نجيب يبادر الى القول: “بدأ العالم الآن يُدرك أن الابتكار والطلب المحلي للصين سيثبتان أنها بمثابة قوة في الاقتصاد العالمي.. لذا فإنني أفخر بأن أقول أن ماليزيا في طليعة المنحنى فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والسياسي مع الصين، واتطلع إلى بناء علاقات اوثق مع قيادة الصين الجديدة، التي تتولى مهامها لاحقاً في العام الجاري، فمصالحنا وإصلاحنا واستقرارنا ونمونا متداخل دوماً، وقد حافظنا على شراكتنا طوال العقود الأربعة الماضية في تحقيق الاستقرار والسلام”.
الصين تحوز على اعجاب العالم وتقديره، هذا هو استنتاجنا الرئيسي، وهو يتفق مع التحليل السياسي الذي ذهب اليه المؤتمر الثامن عشر الاخير للحزب الشيوعي الصيني، الذي أكد على أهمية “الانفتاح” الذي يَغدو مُثيراً للإعجاب ومشجعاً توجّه العالم نحو الصين، إذ أن وجود صين أكثر انفتاحاً يَعد بإتاحة المزيد من الفرص أمام البشرية، الأمر الذي سيعود بالفائدة على الجميع، لذا كان خطاب الامين العام “شي جين بينغ” مليئاً بالتأكيد على تنفيذ استراتيجية انفتاح أكثر نشاطاً لتحسين بيئة الاقتصاد وتعزيز المنفعة المتبادلة، ولتشجيع الانفتاح والتعاون الثنائي ومتعدد الأطراف والإقليمي وشبه الإقليمي والدولي.
*كاتبة وعضو المجلس القيادي التنفيذي للإتحاد الدولي للصُحفيين العرب أصدقاء الصين.