الصين والتحول الديمقراطي المستتر
صحيفة الخليج الإماراتية:
تشانغ جون وجاري جيفرسون:
منذ تنصيب شي جين بينغ رئيساً جديداً للصين، لم تسجل التقارير عن القمع الرسمي للمعارضة أي تراجع يُذكَر . لكن برغم أن الانتقادات الموجهة إلى الصين في مجال حقوق الإنسان لها ما يبررها بوضوح، فمن الأهمية بمكان ألا نغفل عن حجم التغيير السياسي الحقيقي الذي طرأ على الصين .
فمنذ عام ،1978 أشرف النظام السياسي في الصين على نقل قدر كبير من القوة الاقتصادية من الدولة إلى شعبها . ونتيجة لهذا، أصبح بوسع الصينيين إدارة المزارع العائلية، وامتلاك المساكن والشركات، والتحكم في اختياراتهم التعليمية، وتسجيل براءات الاختراع، وجمع الثروات . والواقع أن ممارسة هذه الحقوق الفردية كانت على وجه التحديد سبباً في إرساء الأساس للتحول الاقتصادي الجاري في الصين .
فمن خلال خلق المصالح الاقتصادية الخاصة المتنوعة والمتضاربة التي يتسم بها المجتمع الرأسمالي، كان لزاماً على الصين أن تعمل على إنشاء مجموعة من المؤسسات اللازمة لبلورة هذه الحقوق والتوسط في ممارستها . وتشتمل هذه الترتيبات المؤسسية الناشئة على عقود وقانون تجاري، وتشريعات خاصة بالإفلاس والعمالة، ومحاكم تشرف على فرض القوانين والتشريعات . وفي الآونة الأخيرة، أصبحت اللجان المحلية، والمنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام المتزايدة القوة، والمظاهرات العامة المجازة قنوات راسخة في الوساطة في الصراع الاجتماعي .
بيد أن نقل الحقوق كان في كثير من الأحيان يتسم بالغموض وعُرضة للفساد الرسمي بشكل متكرر . ونتيجة لهذا فإن الحزب الشيوعي الصيني يواجه مطالبات متزايدة من قِبَل أبناء الطبقة المتوسطة الميسورة الذين نالوا تعليماً جيداً بقدر أعظم من الشفافية والمساءلة في المؤسسات التي تعتمد عليها حياتهم المهنية وأرزاقهم .
وبفضل سنّ قانون التقاضي الإداري في عام 1990 تمكن المواطنون الصينيون من إقامة الدعاوى القضائية ضد الحكومات المحلية والهيئات العامة . وفي الأعوام الأخيرة، مثلت مئات الآلاف من المنظمات غير الحكومية، التي تعمل غالباً بموافقة رسمية، الأفراد في ما يتصل بقضايا بالغة الأهمية، بما في ذلك المصادرة، وهدم المساكن، والانتهاكات البيئية، وحقوق العمال، والرعاية الصحية . وتضخم عدد الدعاوى القضائية المقامة ضد الحكومة إلى أكثر من مئة ألف سنويا، مع فوز المدعين بأكثر من ثلث القضايا .
وتمثل الاحتجاجات الشعبية سبيلاً آخر يستطيع سكان الصين من خلاله حماية مصالحهم . ففي مختلف أنحاء البلاد، كثيراً ما يحتج المواطنون على طردهم بشكل غير مشروع من مساكنهم، غالباً على يد مسؤولين محليين فاسدين . ولقد شهد أحدنا مؤخراً أحد احتجاجات الشوارع في ووهان، وهي أكبر مدينة في وسط الصين . حيث تمكن المحتجون، الذين تسلحوا بلافتات الاحتجاج بعد حصولهم على تصريح بالتظاهر، وبعد أن علموا بأن مساكنهم تقرر هدمها لأغراض التنمية العمرانية، تمكنوا من الحصول في نهاية المطاف على تعويضات أكبر كثيراً من تلك التي عرضتها عليهم الحكومة المحلية في البداية .
وقد أصبحت مثل هذه الاحتجاجات ضد المؤسسات العامة، وأصحاب العمل، وشركات الإنشاء شائعة (ولو أن السلطات لا تصرح بها في كل الأحوال) . والواقع أن زعماء الصين أدركوا أنه في حال عدم إتاحة هذه القنوات للتعبير الشعبي عن المظالم، فإن احتمالات اندلاع الاضطرابات السياسية والمدنية سوف تكون أعظم كثيراً من حالها اليوم . وفي عموم الأمر، بات بوسع الصينيين أن يدافعوا عن مصالحهم، شريطة أن يسعى المحتجون إلى الوساطة والتعويض عن حقوقهم الاقتصادية وألا يحاولوا التعدي على سلطة الحزب الشيوعي الصيني .
ويرى بعض المراقبين في هذا الخطوط العريضة لنظام ديمقراطي ناشئ . فولاية كل من الرئيس ورئيس الوزراء في الصين محدودة بفترتين من خمسة أعوام . والواقع أن المناقشات التشريعية داخل المؤتمر الشعبي الوطني، الذي ينتخب أعضاؤه الذين يقرب عددهم من ثلاثة آلاف نائب من مجموعة واسعة من المنظمات المحلية والوطنية، من الممكن أن تصبح حماسية للغاية في كثير من الأحيان .
على سبيل المثال، استغرق قانون الإفلاس في الصين، الذي سنّ في عام ،2006 نحو 12 عاماً من المفاوضات، مع نضال فصائل داخل المؤتمر الشعبي الوطني، والحزب الشيوعي الصيني، والسلطة التنفيذية، من أجل موازنة مصالح العمال والدائنين . وعلى نحو مماثل، خضع قانون الملكية في الصين لأعوام من المناقشة، حيث قاومت بعض القوى المحافظة بدعم من العديد من المنافذ الإعلامية تفعيل قوى السوق والخصخصة في الدفاع عن المواطنين الأكبر سناً الذين ظلت أرزاقهم تعتمد على الوظائف الآمنة التي توفرها ملكية الدولة .
وباختصار، فبرغم أن النظام السياسي في الصين يعمل بطريقة أكثر مركزية من المبين في دستور البلاد، فإنه يوفر مجموعة متزايدة من السبل التي يستطيع المواطنون من خلالها ممارسة نفوذهم على الحياة السياسية .
ومن بين القيود الرسمية الأكثر تعنتاً وإجحافاً المفروضة على المواطنين الصينيين تقييد الانتقال من الريف إلى المدن وتحديد عدد الأطفال لكل زوجين بطفلين فقط . والواقع أن كلا السياستين تعكس التوزيع المنحرف لسكان الصين، حيث يكتظ النصف الشرقي من البلاد بأكثر من 90% من السكان، الأمر الذي يؤدي إلى خلق ازدحام شديد واحتمالات عدم الاستقرار السياسي . ومع ذلك فإن كلا القيدين أصبح أخف إلى حد كبير في استجابة للضغوط الشعبية .
إن الحافز الذي يدفع الزعامة الصينية إلى إجراء مثل هذه التغييرات ليس الرغبة في تبني المثل العليا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو الاستجابة للمطالب الخارجية . بل إن زعماء الصين الملزمين بتحقيق هدف الرخاء الاقتصادي سمحوا لجني الحقوق الفردية بالخروج من القمقم . والآن يتعين على نفس الزعماء أن يتسامحوا مع ويسهلوا إنشاء المؤسسات الكفيلة بالتوسط في النزاعات التي من المحتم أن تنشأ حول هذه الحقوق .
وما دامت الصين مستمرة في توفير الحقوق الاقتصادية الأساسية لمواطنيها، فإن هذه التغيرات التراكمية التدريجية، لابد أن تدفع البلاد في اتجاه التحول الديمقراطي التدريجي على الرغم من بطئها . وحيثما تترسخ الحقوق فإن التقدم على مسار بناء المجتمع المدني سوف يتبع ذلك لا محالة .
* تشانغ جون أستاذ علوم الاقتصاد ومدير مركز الصين للدراسات الاقتصادية في جامعة فودان في شنغهاي . جاري جيفرسون أستاذ علوم الاقتصاد في كلية إدارة الأعمال الدولية، والمقال نشر بترتيب مع “بروجيكت سنديكيت”