الصين والولايات المتحدة الأميركية: السباق الاقتصادي نحو قمة العالم
خاص بـ موقع الصين بعيون عربية ـ
محمد الحسيني:
شكّلت المحطات التي مرّ بها الاقتصاد الصيني منعطفات مفصلية في تركيبة هذه الدولة العظمى، وأدائها السياسي والاقتصادي، سواء على صعيد الاصلاحات الداخلية أو على صعيد الانفتاح على الأسواق الخارجية مع ما يفرضه ذلك من تحوّلات وتحديّات وتنازلات، وما زال تأثير هذه المحطات مستمراً حتى يومنا الحاضر، فضلاً عن انعكاس ذلك على المعادلات الاقتصادية، ما يتيح تلمّس مراحل تطوّر صعود الصين كقوة عظمى تتجه نحو تبوأ سدة الزعامة العالمية في المجال الاقتصادي.
إن دراسة عامة وأوّلية حول المتغيّرات الداخلية التي سبقت تمظهر الصين كدولة عظمى، تقود إلى قراءة الاتجاهات الاقتصادية الصينية حيال السوق العالمية، ولا سيما الأميركية منها، كما أن التحديّات التي وضعها القادة الصينيون نصب أعينهم في سياق المواجهة مع الولايات المتحدة ترسم مسار الصعود الصيني باتجاه تسنّم الزعامة الأولى على المستوى الاقتصادي، وعلى الرغم من ذلك ينشأ سؤال كبير يحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق للإجابة عليه وهو: كيف سينعكس تجاوز الاقتصاد الصيني للاقتصاد الأميركي على حركة الاقتصاد العالمي والعلاقات الثنائية الصينية الأميركية؟
ولا بد، قبل الإجابة على هذا السؤال، أن ننظر إلى الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات الامريكية – الصينية، ومستقبل العلاقات الصينية – الأمريكية، وإمكانية تشكيل الصين تهديداً مستقبلياً للولايات المتحدة أم أنها ستكون شريكاً لها، فضلاً عن ملامسة فهم الصين للتحولات الدولية وطريقة التعامل معها لا سيما على المستوى الأمريكي، والرهانات الاستراتيجية للصين التي تمكّنها من لعب دور قيادي في قطار النظام العالمي الجديد.
ولا تغفل الإشارة إلى أن البحث في المجال الاقتصادي يشكّل ساحة خصبة للاستعراض والتحليل، وتتوافر مادة إعلامية ومعلوماتية يومية عنه، وهو ما يسمح بالحصول على الكثير من المصادر والمراجع، إلا أن الصعوبات تتجلّى غالباً في الحصول على معلومات مجرّدة تسلّط الضوء على الواقع من دون اجتهادات مقرونة بخلفيات سياسية، وعلى الرغم من أن الأرقام لا تعترف بالانتماءات إلا أن معظم الآراء الاقتصادية لا تكون حتمية، خصوصاً أن الحراك الاقتصادي يتأثر سلباً أم إيجاباً بأي حدث سياسي أو عسكري يحصل في مكان ما على الخارطة العالمية.
شهدت الصين على اختلاف حقباتها، منذ انتصار ثورتها الفكرية – الشعبية على يد ماو تسي تونغ وتعاقب زعمائها، نهضة مضطردة على كافة المستويات الداخلية والخارجية وفي مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية(*)، وحقق الاقتصاد الصيني خلال العقود الثلاثة الأخيرة نتائج مبهرة، خاصة في معدلات النمو الحقيقي والصادرات، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وبدأ هذا الاقتصاد يخطو بخطوات ثابتة نحو صدارة الاقتصاد العالمي، محتلاً أماكن بلدان كبرى منافسة له في العديد من القطاعات الاقتصادية، وهذه المؤشرات جعلت بعض التحليلات والآراء تذهب إلى أن القرن الواحد والعشرين سيصبح قرناً صينياً تتصدر فيه الصين الاقتصاد العالمي.
وتبرز الصين كقوة عظمى تملك مقوّمات طبيعية ضخمة، فعدد سكانها يزيد عن مليار وثلاثمائة مليون نسمة، ولديها أكبر جيش في العالم، إذ يبلغ تعداده مليونين ونصف المليون جندي. كما تحتل المرتبة الثالثة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة وروسيا. ويحقق اقتصاد الصين أعلى النسب في تزايد النمو، كما تحتفظ بثاني اكبر احتياطي عالمي من العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار الاميركي. وتشكل البضائع الصينية قلقاً للدول الصناعية الكبرى بسبب أسعارها المنافسة وانتشارها في الأسواق الاستهلاكية العالمية.
وعلى الرغم من النمو الاقتصادي المتسارع، إلا أن الصين تعاني من نقاط ضعف عديدة، لا سيما في اعتمادها الكبير على الأسواق الخارجية والمستهلك الأجنبي، وحاجاتها شبه الكلية على واردات الطاقة الخارجية في مناطق تسيطر عليها كلياً أو جزئياً القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة. ولعل اعتماد الصين على مصادر الطاقة الخارجية، وفي مقدمتها النفط والغاز، واتباعها دبلوماسية تأمين الطاقة لتلبية احتياجاتها المحلية، قد أعادها إلى دائرة الاهتمام الأمريكي، خصوصاً أن من أهم الأسباب الاستراتيجية بعيدة المدى للوجود العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط هو السيطرة على منابع الطاقة وخطوط إمدادها وجهة تصديرها، وأحد نتائج هذا الوجود إبقاء التنين الصيني الذي بدأ يصحو تحت السيطرة.
باتت أهم عناصر السياسة الجديدة للصين، في إطار مواكبة التطورات المتسارعة في إطار النظام العالمي الجديد، تتمثل في التالي:
1. تسريع تطوير المجالات العلمية والتكنولوجية والتعليم ودعم التطوير الثقافي والأخلاقي.
2. التوسع في استخدام التكنولوجيا العالمية والنهوض بالصناعات التقليدية، وتطبيق التكنولوجيا العالمية والجيدة في الإنتاج.
3. إعادة هيكلة الاقتصاد وتعزيز جودته.
4. تعزيز جهود إصلاح نظام الإدارة، وتعميق الإصلاح التعليمي.
5. الانفتاح أكثر على العالم واستخدام التمويل الأجنبي والتوسع في التصدير.
أفاد أحدث التقارير الاقتصادية بأن الناتج التجاري الصيني فاق الأمريكي لأول مرة عام 2012، حيث بلغ حجم صادرات وواردات الولايات المتحدة من السلع 3.82 تريليون دولار، بينما الإجمالي الصيني وصل 3.87 تريليون دولار، وأوردت وكالة أنباء “يونهاب” عن تقرير “برايس ووتر هاوس كوبرز” أن الناتج المحلي الإجمالي للصين على أساس القوة الشرائية، وهو ما يأخذ في الاعتبار فروق أسعار المنتجات نفسها في الدول، سيصل إلى 20 تريليون دولار بحلول عام 2017 متجاوزاً نظيره الأمريكي.
إن تخطّي الصين للولايات المتحدة لأول مرة هو بمثابة حجر الزاوية في تحدي الدولة الآسيوية لهيمنة الولايات المتحدة على حركة التجارة العالمية التي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وما يؤكد هذه الحقيقة تصريح صدر عن وزارة التجارة الأميركية مطلع شباط 2013 أكد الأرقام السابقة وألمح إلى تزايد نفوذ الصين بعرقلة التكتلات التجارية حيث ستصبح أهم شريك تجاري لدول عدة مثل ألمانيا، التي ستتضاعف صادراتها إلى الصين بنهاية العقد، ويصدق هذا أيضاً على فرنسا، بحسب “جيم أونيل” رئيس إدارة الأصول في “غولدمان ساكس” الذي قال: “بالنسبة إلى الكثير من الدول حول العالم، تتجه الصين إلى أن تصبح أهم شريك تجاري ثنائي بخطى سريعة، وسيتزايد حجم تجارة الكثير من الدول الأوروبية معها بحيث يفوق حجم التجارة بين بعضهم البعض بحلول العقد الحالي”.
وبشكل عام تعتبر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين عملية معقدة ومليئة بالتناقضات، فعلى الرغم من التنافس بين القوتين، فإنهما في حاجة إلى بعضهما البعض كما أن علاقات التبادل التجاري هامة جدا للطرفين، حيث أن الصين هي أكبر ثالث شريك تجاري وثاني أهم مصدر للواردات الأمريكية. كما أنها ثاني أكبر دائن رسمي للولايات المتحدة، حيث يوجد على الأراضي الصينية مئات المليارات من الأصول المالية الأمريكية. وفي المقابل تعتبر الولايات المتحدة أهم شريك تجاري ثنائي للصين ومصدراً مهماً للاستثمار وتصدير التكنولوجيا. كما أن مصالح الطرفين متشابكة إلى درجة تجعل من العداء بينهما أمراً مستبعداً، وإن كان ذلك لا يعني وجود اختلافات حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
ويرى جون جارفر الأستاذ بمعهد جورجيا للتكنولوجيا أن “الصين قد تختار معارضة الدور الأمريكي كقوة إقليمية مهيمنة، إلا أنها تسعى لتجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة. ويوضح جارفر أن النموذج الأكثر احتمالاً للعلاقات الصينية – الأمريكية هو “لا سلام.. ولا حرب”؛ ففيما تتجنب الصين المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة تقوم في الوقت نفسه ببناء علاقات وثيقة مع كل دول المنطقة.
ويلخص هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق في رئاسة ريتشارد نيكسون، المنظور الأمريكي في التعاطي مع الصين، ويعتبر أن “أي محاولة لعزل الصين عن العالم أصبح أمراً مستحيلاً.. كما أن التعايش السلمي مع هذا النجم الصاعد من شأنه إضافة المزيد من الاستقرار والتقدم لكل قارات العالم”. وبالتالي، فإن استقرار التقدم والنمو الصيني قد يؤدي إلى مواجهة مع الولايات المتحدة التي ترفض ظهور قطب جديد ينافسها في إدارة شؤون العالم”. ويرى كيسنجر أن “العولمة والسيطرة على العلاقات الدولية تجعل من المستحيل نشوب حرب بين الدول النووية العظمى، التي يخرج منها الجميع خاسرين، كما حدث عقب الحرب العالمية الأولى وكذلك الحرب العالمية الثانية.. فضلاً عن استحالة التعامل مع الصين على النمط الذي اتبعته أمريكا مع الاتحاد السوفيتي”.