الصين وإستراتيجية جديدة للنمو
بروجيكت سينديكيت ـ عبر موقع قناة الجزيرة ـ
ستيفن إس روتش:
– فخ الدخل المتوسط
– التوسع الحضري
– العوامل الخارجية السلبية
– قادة الصين الجدد
بعد ست سنوات من بحث الخيارات، ألزمت الصين نفسها مؤخرا بتنفيذ إستراتيجية جديدة للنمو الاقتصادي، إذ ستتحول من نموذج النمو القائم على الاستثمار والتصدير إلى اقتصاد أكثر توازنا يقوم على الاستهلاك والخدمات.
وجاء قرار الإلزام إثر منتدى تنمية الصين السنوي الذي اختتم أعماله الشهر الماضي، والذي يُعَد منذ أمد بعيد الحوار الأكثر أهمية بين بكين والعالم الخارجي.
ولم يكن التوجه الأساسي لهذه الإستراتيجية مفاجئا، فهو تحول ضروري لأن النمو العالمي الذي يزداد تراجعا، من غير المرجح أن يوفر الطلب الخارجي القوي على الصادرات الصينية كما كانت الحال من قبل.
ولكنه أساسي أيضاً لأن قيادة الصين الجديدة تبدو عازمة على استيعاب مجموعة واسعة من الاختلالات الداخلية التي تهدد البيئة، وتشجع التفاوت المزعزع للاستقرار في الدخول، وتؤدي إلى تفاقم الفوارق الإقليمية.
فخ الدخل المتوسط
ويشكل هذا التحول الإستراتيجي أيضا جهدا متعمدا من قِبَل صانعي السياسة الصينية لتجنب “فخ الدخل المتوسط” اللعين الذي يتسبب بتباطؤ المرحلة المتوسطة، والذي تتورط فيه أغلب الاقتصادات الناشئة عندما يقترب نصيب الفرد في الدخل من عتبة 17 ألف دولار (بالأسعار الدولية الثابتة).
ذلك أن الاقتصادات النامية التي تحتفظ بنماذج النمو القديمة لفترة أطول مما ينبغي تنزلق إلى هذا الفخ، وربما تبلغ الصين هذه العتبة في غضون ثلاث إلى خمس سنوات.
والواقع أن ثلاث رؤى برزت في إطار منتدى الصين للتنمية هذا العام كانت سبباً في تعميق ثقتي في أن التحول البنيوي الكبير أصبح الآن في المتناول، وهو كفيل بتمكين الصين من تجنب فخ الدخل المتوسط. فأولا، برزت إستراتيجية واضحة المعالم للتوسع الحضري كركيزة أساسية لإعادة التوازن اعتماداً على المستهلك.
ولقد أكد كبار قادة الصين الجدد على هذا -تشانغ جاو لي نائب رئيس مجلس الدولة التنفيذي، ورئيس الوزراء لي كيبيانغ- في افتتاح المؤتمر وختامه، فضلاً عن عرض تفاصيل كبيرة في العديد من الجلسات العاملة.
التوسع الحضري
إن التوسع الحضري يشكل اللبنة الأساسية للاستهلاك، لأنه يقدم دفعة قوية للقوة الشرائية لدى الأسر الصينية. ذلك أن دخل الفرد بين أبناء الطبقة العاملة الحضرية يتجاوز ثلاثة أضعاف دخل نظرائهم في الريف.
ولقد بلغت نسبة السكان في المناطق الحضرية في الصين 52.6% عام 2012، أي نحو ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1980 (18%)، ومن المتوقع أن ترتفع إلى نحو 70% بحلول العام 2030.
وإذا تسنى للتوسع الحضري الجاري أن يقترن بخلق فرص العمل، وهو احتمال واضح في ضوء تأكيد الصين على تنمية قطاع الخدمات الكثيف العمالة، فإن آفاق نمو دخل الأسر تصبح مشجعة إلى حد كبير.
وينبغي لوتيرة التوسع الحضري أن تبدد الشكوك الغربية النابعة من المخاوف بشأن ما يسمى مدن الأشباح وفرط الاستثمار المزمن.
ووفقاً لبحث أجرته شركة ماكينزي آند كومبني، فمع التدفق السنوي لسكان المناطق الحضرية الجديدة الذي يبلغ في مجموعه 15 إلى 20 مليون نسمة، فإن الصين ستحتاج إلى أكثر من 220 مدينة كبرى (تتسع كل منها لمليون نسمة على الأقل) بحلول عام 2030، مقارنة بنحو 125 مدينة عام 2010.
فضلاً عن ذلك، ولأن التوسع الحضري جهد يتطلب استثمار مبالغ هائلة من رأس المال، ولأن المخزون من رأس المال في الصين عن كل عامل وهو محرك أساسي لنمو الإنتاجية لا يزال 13% فقط من المستويات في الولايات المتحدة واليابان، فإن الصين لديها سبب وجيه لكي تظل اقتصادا يتسم بارتفاع مستويات الاستثمار لسنوات قادمة.
العوامل الخارجية السلبية
والجديد اليوم هو التركيز على العوامل الخارجية السلبية التي يفرضها التوسع الحضري، وخاصة القضايا الشائكة المرتبطة بمصادرة الأراضي وتدهور البيئة.
وفي منتدى هذا العام تم تقديم إطار ناضج “للمدينة البيئية” بهدف مواجهة كلا التخوفين، فضلاً عن الحوافز المشجعة لنماذج التوسع الحضري الجديدة التي تؤكد على الاستخدام الرشيد للأراضي، والنماذج المختلطة للنقل المحلي، واستخدام مواد البناء الأخف وزنا، والاستعانة بمصادر الطاقة غير الكربونية.
وتتلخص الرؤية الثانية في منتدى الصين للتنمية لعام 2013 في تركيز الحكومة الجديدة على تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي كدعامة لمجتمع استهلاكي حديث.
وبشكل خاص فإن الوصول إلى الخدمات والمنافع العامة غير قابل للانتقال بسبب نظام تسجيل الأسر الصيني العتيق. ونتيجة لهذا فإن العمال المهاجرين الذين يشكلون طبقة دنيا تتألف من 160 مليون نسمة تقريبا، ما زالوا غير قادرين على الحصول على الخدمات التي تدعمها الحكومة مثل الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي.
وقد أدت الثغرات في شبكة الأمان الاجتماعي إلى مستويات عالية ومتواصلة الارتفاع من المدخرات التحوطية، الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى دق إسفين بين الزيادات في دخل العمالة وأي دفعة للقوة الشرائية التقديرية. وإلى حد كبير، كانت هناك تلميحات قوية من قِبَل كبار قادة الصين في المنتدى إلى أن إصلاح نظام تسجيل الأسر يخضع الآن لدراسة نشطة.
وبينما قد يكون هذا موضع ترحيب، فإن مثل هذه الجهود لابد أن تكون مصحوبة بالتوسع في المنافع. فنظام التقاعد في الصين يملك نحو 340 مليار دولار فقط من الأصول الخاضعة لإدارته (معاشات تقاعد الضمان الاجتماعي والقطاع الخاص على مستوى الحكومة الوطنية والحكومات المحلية).
وقد أكدتُ على هذه النقطة في حديثي مع وزير المالية المعين جديدا لو جي وي، فاقترحت أن تستعين الصين ببعض الفائض من احتياطياتها من النقد الأجنبي لتمويل مثل هذه الجهود، واستخدام نفس التكتيك لتوفير دفعة بادئة تقدر بنحو 200 مليار دولار لشركة الاستثمار الصينية، أو صندوق الثروة السيادي الذي أداره الوزير على مدى الأعوام الخمسة الماضية. ولكن من المؤسف أنه لم يحبذ هذا الاقتراح.
قادة الصين الجدد
وكانت الرؤية الأخيرة -وربما الأكثر أهمية- التي خرجتُ بها من المنتدى تتعلق بنوعية قادة الصين الجدد.
فبداية من الرئيس شي جين بينغ ورئيس مجلس الدولة لي كيبيانغ إلى مستويات القيادة الأدنى، يتسم فريق القيادة الجديد في الصين بالمهارة الشديدة في مجالات التحليل، وتقدير المخاطر، ووضع النماذج للسيناريوهات، وابتكار الحلول الإبداعية للمشاكل المستعصية.
فضلاً عن ذلك، وتحت المظلة التنظيمية المتمثلة في اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح -النسخة الأخيرة من منظومة التخطيط المركزي القديمة- نجحت الصين في استثمار كم كبير من الموارد في صياغة إستراتيجية اقتصادية شاملة ومدروسة بعناية.
ولكن الأمر يتطلب في نهاية المطاف ما هو أكثر من مجرد السياسة القوية والمهارات التحليلية للتعامل مع التحديات الاقتصادية. فقد رأينا أمثلة مؤسفة لهذا مراراً وتكراراً في الغرب في الأعوام الأخيرة، ولا يوجد ما قد يضمن قدرة قادة الصين الجدد على تجنب مزالق مشابهة.
إن الرؤية والإستراتيجية عنصران بالغا الأهمية في تحقيق “حلم الصين”، كما يطلق عليه قادة الصين الجدد الآن. ولكن الأمر يحتاج إلى الشجاعة والعزم الأكيد في التعامل مع العقبة التي ربما تكون الأكبر على الإطلاق، وهي المقاومة من قِبَل التكتلات المحلية والإقليمية الراسخة. وعلى هذه الجبهة الحاسمة، فإن الكلمات القوية لابد أن تكون مصحوبة بتحركات جريئة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن إس روتش عضو هيئة التدريس في جامعة ييل الأميركية، والرئيس الأسبق لبنك مورغان ستانلي في آسيا، ومؤلف كتاب “آسيا التالية”.