هل أصبح اقتصاد الصين الأكبر في العالم؟
جريدة السفير:
كشف صندوق النقد الدولي في اَخر بياناته أن اقتصاد الصين احتل المرتبة الأولى عالمياً لأول مرة منذ العام 1890 وفقاً لمقاييس نظرية تعادُل القوة الشرائية في العالم (purchasing power parity)، التي تم اقتراحها في كتابات الاقتصاديَّين ويلتي وريكاردو (Whelty Ricardou) في العشرية الأخيرة للقرن التاسع عشر، وقام بتطويرها بعد ذلك الاقتصادي السويدي جوستاف كاسل (Justaf Cassel) بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث يتم من خلالها تقدير حجم تحركات العملة اللازم ليتعادل سعر الصرف في الدولة مع القوة الشرائية لعملتها.
كانت الصين الدولة الرائدة في التجارة الدولية حتى القرن الـ18، عندما خسرت السيطرة على موانئها التجارية لمصلحة الدول الاستعمارية الأوروبية، وبقيت بكين متقوقعة في الداخل في ظل الشيوعية، وذلك حتى وفاة رئيس الحزب الشيوعي «ماوتسي تونغ» العام 1978، حيث أقرت الحكومة سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية وسمحت بالاستثمار الأجنبي في عدد من المناطق الاقتصادية قرب المدن الساحلية، ما ساهم في اندماج الاٍقتصاد الصيني في منظومة الاقتصاد العالمي بفضل نظام اقتصاد السوق الاشتراكي الذي جمع بين النهج الاشتراكي والانفتاح على الاقتصاد الرأسمالي.
يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين وفقاً لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي WEO التابع لصندوق النقد الدولي 17,6$ ترليون، وهو ما يزيد قليلاً عن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الذي يبلغ 17,4$ ترليون، ويتوقع صندوق النقد الدولي استمرار النمو الاقتصادي الصيني على مدى السنوات القليلة المقبلة، ولكن هل يعني هذا أن الصين أصبحت تملك أقوى اقتصاد في العالم؟
برغم امتلاك الصين زمام المبادرة في تعادل القوة الشرائية، إلا أن ذلك لا يعني أنها أصبحت تملك أقوى اقتصاد في العالم، فالولايات المتحدة الأميركية ما زالت تتشبث بلقب أكبر اقتصاد عالمي «وفقاً للمقاييس الأكثر شيوعاً، والأكثر قبولاً، والأكثر فائدة» وذلك بحسب ديفيد هنسلي، مدير التنسيق الاقتصادي العالمي لشركة JPMorgan Chase & Co في نيويورك، ولكن العديد من الخبراء اعتبروا إطاحة الصين للولايات المتحدة الأميركية بعد نحو 150 سنة بالنسبة لمقياس تعادل القوة الشرائية لحظةً فاصلة بالنسبة للاقتصاد العالمي، حيث كان لها تأثير معنوي عند دعاة التعددية الاقتصادية والسياسية.
يرى ماكس فرود وولف، الاقتصادي المقيم في نيويورك، أنه ليس بإمكان الولايات المتحدة استعادة لقب الزعامة في تعادل القوة الشرائية، ولكنها لن تتخلى عن التاج الكليّ لبعض الوقت، حيث يقول: «سوف تستمر الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد بالأرقام المطلقة ربما لخمس أو ست سنوات أخرى على الأقل، برغم أن هذه «الزعامة» ستنتهي أيضاً في نهاية المطاف. ويجدر بنا أن نتذكر حرفياً أن الصين تحوي مليار شخص زيادة عن الولايات المتحدة الأميركية، ولذلك هناك توزيع غير عادل للنمو العالمي والناتج الإجمالي العالمي الذي يسمح لبلد كأميركا بـ300 مليون شخص أن يكون أكبر اقتصادياً من الصين بلد المليار و300 مليون نسمة».
تمتعت الصين بثلاثة عقود من النمو الاقتصادي المضاعف قبل الأزمة المالية العالمية، كما خلقت الصناعات المحلية والإصلاحات الاقتصادية الشاملة قوة اقتصادية كبيرة في آسيا والعالم آنذاك. وبرغم تباطؤ نمو اقتصادها في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يزال قوياً مقارنة بالنمو في الدول الغربية، حيث تنبأ صندوق النقد الدولي بتراجع النمو في الصين من 7,4 في المئة هذا العام إلى 7,1 في المئة في عام 2015، وفي المقابل، بلغ النمو في الولايات المتحدة هذا العام 2,2 في المئة فقط، ومن المتوقع أن يكون 3,1 في المئة في العام المقبل. وبالتالي، لا يزال الاقتصاد الصيني يتمتع بضعف وتيرة نمو الاقتصاد الأميركي برغم تباطؤ نموه، وهو الأمر الذي قد يجعله مساوياً للاقتصاد الأميركي خلال أقل من عقد من الزمن، ما يدل على فشل تحليل الاقتصاديين الغربيين الذين لم يتوقعوا تصاعد قوة الصين الاقتصادية بهذه الوتيرة المتسارعة، حيث يُعزى فشل تحليلهم إلى سببين رئيسيين: الأول، تأثّر التصورات الغربية للاقتصاد الصيني بأساطير مشوبة بالعنصرية وجنون العظمة، واعتقادها بأن كل قطاعات التكنولوجيا والصناعات الصينية مقلدة ورخيصة. إلا أن مجرد الاطلاع على دراسة صغيرة للصناعات الصينية كافية لقلب الموازين. فعلى سبيل المثال، تعتبر مجموعة هايير للإلكترونيات حالياً إحدى أبرز الشركات المصنعة للمنتجات المنزلية في العالم بإيرادات تبلغ ما يقارب 5,8 مليار جنيه اسـترليني وبدخل بلغ 200£ مليون في العام 2013، كما حققت شركة هواوي إيرادات قدرها 40 مليار $ في العام الماضي، فلربما بدأت الشركات الصينية بنسخ منتجات الآخرين في القطاع نفسه، إلا أنها تصمم الآن منتجات ذكية ومبتكرة. أما السبب الثاني، فيعود إلى الاستشراق الحديث والتصور السائد عند المستشرقين الغربيين حول تعاظم شبح «الخطر الأصفر»، وينتج هذا الاعتقاد الغريب من قناعة هؤلاء بأن أعمال الصينيين هي جزء من خطة ماكرة وشريرة تُحاك ضد البلدان الغربية. ولكن ما الذي سيتغير إذا أصبح اقتصاد الصين الأكبر في العالم؟
جذبت الصين انتباه العالم على الجبهات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وذلك بحسب تشو تشون شنغ، بروفيسور الدراسات العليا في كلية إدارة الأعمال في جامعة تشيونغ كونغ، وأصبحت مع تعاظم قوتها قادرة على استخدام قوتها الناعمة ولعب دور متزايد الأهمية في السياسة العالمية، حيث يعتقد تشون شنغ أنها ستجذب الدول الصغيرة على وجه الخصوص بسبب المزايا الكامنة في التعاون مع أكبر اقتصاد في العالم، ولكنها سوف تفعل ذلك مع الدول المتقدمة أيضاً، الأمر الذي سيحفز على نشوء تحالفات اقتصادية وتجارية في مواجهة تعاظم قوتها الاقتصادية. وأكبر مثال على ذلك هو الجهود الأميركية المبذولة في تطوير الشراكة العابرة للمحيط الهادئ Trans-Pacific Partnership التي تضم كلاً من: أستراليا وبروناي، كندا، شيلي، اليابان، ماليزيا، المكسيك، نيوزيلندا، البيرو، سنغافورة وفييتنام. كما يرى تشون شنغ أن القوة الاقتصادية للصين سوف تؤدي بالضرورة إلى زيادة قوتها العسكرية ونفوذها الاستراتيجي، وهما الأمران اللذان يعتبران من أهم ركائز القوة بالنسبة للدول العظمى.
اعتادت دول العالم على وضع نظام دولي تقوده الولايات المتحدة كونها القوة العظمى الوحيدة في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، إلا أنّ صعود الصين كقوة عظمى جديدة اقتصادياً وسياسياً على الساحة الدولية إلى جانب الولايات المتحدة، أدى إلى خلق قدر معين من القلق الدولي لعدم قدرة بقية الدول على توقع ما قد تقوم به في الوقت الذي تُعَزِّز فيه مكانتها كدولة رائدة في العالم الجديد، لأنه كلما صعدت قوة عظمى جديدة على الساحة العالمية، تسببت بحالة من الإرباك وعدم الارتياح للدول القائدة لمفاصل صنع القرار الدولي، والتي عادة ما تتردد بالتخلي عن نفوذها. ونتيجة لهذه المخاوف، تخطط الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، لتعزيز التعاون مع اليابان لموازنة صعود الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
بناءً على ما سبق، نجد فرص الصين كبيرة لتصبح دولة عالمية رائدة، الأمر الذي لن يكون سهلاً، حيث سيتوجب على بكين أن تطور اقتصادها وتزيد من شفافيتها لتَبرزَ صورَتُها كلاعب عالمي مسؤول وموثوق به، وهو ما سيساعدها على حل قضيتها في نزاع بحر الصين الجنوبي وغيرها من قضايا العلاقات الدولية العالقة. أما بالنسبة لوضعها الداخلي، فلن يعني صعودها كأكبر اقتصاد في العالم تحسن شؤونها الداخلية، بل سيزيد ذلك من توقعات مواطنيها بزيادة ثرواتها المادية ونموها الاقتصادي المستمر، الأمر الذي سيؤدي إلى تعقيدات أكبر في سياستها الداخلية، بحيث ستضطر إلى العمل بجد أكبر لتحسين مستوى الرفاه الاجتماعي وخفض الديون ومعدلات البطالة.