إقلاع نحو الماضي وعتبة مركز روسي

موقع الصين بعيون عربية ـ
يلينا نيدوغينا*:
تُبَاغِتُ الانسان غالباً دمعة شوق ومشاعر حنين، وتداهمه أفكار كثيرة عن وطن بعيد، هي الأغرب والأكثر شقاءً له وإتعاباً لعقله في هذه الحياة غير النضرة. فعندما لا يتمكن المرء من رؤية وطنه وعيادة أهله، وعندما يَقمعه رأس المال الاحتكاري وازلامه، ويمنعه من التواصل مع ناسه الكُثر، ويَضع الحواجز في وجهه لئلا يعود للوطن ولو زائراً، وللإطلال على أطلال تاريخه هناك الذي تركه بعيداً، يَكفر بكل ما في هذه الحياة التي ليست للشرفاء ولا للاوفياء ورافعي الرؤوس، بل هي للأشرار والنُكداء، وكما قال السيد المسيح عيسى في عيده الصُعودي: مملكتي ليست في هذا العالم.
صور الوطن الرائعة المحّببة إلى نفسي تبقى ماثلة لا تبارحني لحظة.. وتفيض الدموع من عينيّ حين تطأ قدميّ عتبة المركز الثقافي الروسي بعمّان الذي صار بيوتاتنا في جفاء الزمن وتبرّم الناس، لأجد فيه بعض عزاء من جراح الدهر وتلاحق مآسيه، فتبدو تلك الجراح وكأنها وليدة الساعة.. ويُخيّل إلي وأنا في ردهاته، أن دمي لم يجّف بعد، وإن لم يتوقّف النزف، وإن لم يَسكن الألم..
ومما لا شك فيه أننا جميعاً اللواتي غادرن الوطن، وابتعدن عنه الى جغرافيا جديدة، لا نستطيع أن نمزّق صفحات الماضي من تاريخ حياتنا، ليس لأنها بديعة وزاهية وباسمة بالطبع، بل لعدم التمكّن من العودة إليها، تلمّسها والاستزادة منها. وما يزيد في الألم الذي يعتصر القلب ويُدميه، ان التاريخ الشخصي نقشته نبضات ذاك القلب، وعاشته الجوارح والأحاسيس بكل نقلاته، فلا يمكن وهذه الحال وتلك الحالة، أن نمحو صورهِ الراسخة في الذاكرة، ولا أن نلجم فم الذكريات لئلا تحدّثنا وتبوح لنا، ولا نستطيع انكار روعة الحاضر وصفاته. لكن والف لكن، يبقى ذلك الماضي الأرض التي ينبغي أن نشد رحال تفكيرنا إليها ونبدع في سبيلها ولأجلها…
الأطلال تبقى في تلافيف العقل تعبة وتصدح بنشيد يَضمحل بمرور أيام وأيام تتقلّب مُتثاقلة، وبريق النشيد يَخفت بانطواء الشهور، ويذهب بعيداً بتلّقب السنون، ويبقى الاحتكاريون على قمم مجدهم، يتلاعبون بالبشر بلا رادع ولا حسيب، ويُمعِنون برفع الاسعار، وتسييد الاشرار على قمم مؤسسات البلدان، فيتحكمون في الذاكرة حتى، ويُمعِنونَ كل يوم بمنعنا ولجمنا عن ممارستنا الرحيل الى أرض الزمن، وإحباط إقلاعاتنا بذاكرتنا إلى الوطن، ليبقى الماضي وحده رفيقنا الأخلص والدموع سلوانا.. نتأمل في ملامحه، ونطيل النظر في تقاسيمه التي قد تقيّد رسم الابتسامة على شفاهنا، حين تمر بذكرياته الجميلة.
thestarrus@yahoo.com
*كاتبة اردنية روسية ورئيسة تحرير الملحق الروسي سابقاً بالاردن.