الصين والاردن (2).. في استحضار الذكريات واستدعاء مكنزات العقل.. حقائق صينية
موقع الصين بعيون عربية ـ
الاكاديمي مروان سوداح*:
الاعتراف الدبلوماسي المتبادل بين الاردن و الصين جرى في السابع من نيسان/ إبريل 1977. لكن، قبل ذلك اليوم، لم يكن في العاصمة بيجين سفارة أردنية ولا تمثيل اردني، ولم يكن في الاردن لا سفارة صينية، ولا مؤسسة أو حتى ناطق محلي باللغة الصينية، ناهيك عن أن غالبية الشعب الاردني لم تكن تعرف الصين عن قُرب، وإن كان “بعض” الاردنيين أنذاك يلاحقون ما يتيسّر لهم عن الصين، في مراجع ورقية شتى، ويَطرقون مواضيع صينية جُلّها التاريخ، وقصة تحرير الصين من الاحتلال الياباني البشع. أضف الى ذلك، أن هؤلاء كانوا يطالعون القليل المتوافر من صفحات ونصوص ناصعات عن مساعدة الصين الفعلية والقوية والنافذة في ذلك العهد لقضية فلسطين وشعب فلسطين، بالسلاح والسياسة والدبلوماسية، وعلى مستوى داخلي صيني، وعلى صُعد أسيوية وعالمية.
كانت الصين أنذاك شهيرة في فلسطين الجريحة وفي عالم العرب الكبير بأنها الدولة الغير العربية الاولى التي بدأت منذ ستينات القرن الماضي، بل ومنذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وحركات التحرر الوطني الفلسطينية وأولها “فتح”، بإمداد الثوار بالسلاح الصيني، الذي كان مَعروُفاً ومَحبوُباً ومُصاناً جيداً في أيادي حامليه من الفدائيين العرب والفلسطينيين، وقد تدرّب كاتب هذه المقالة على ذلك السلاح الاوتوماتيكي، وخَبره وأحبه كغيره من زملائه.
في تلك السنوات الجميلة والحافلة بالنشاطات والنضال السياسي والذكريات، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، لم يكن في الاردن ما يدل على الصين ويُعرّف عليها، سوى الأثير النافذ للقسم العربي لإذاعة الصين الدولية. زد على الأثير، مجلات صينية على شاكلة “الصين اليوم” و “الصين المصوّرة”، التي كنتُ أتلقاها بين حين وحين من القسم العربي للإذاعة، وأحياناً كانت تصلني من بيجين نفسها، وفي أحايين ثالثة كنت أبتاعها من مكتبات الاردن وأكشاكه، سيّما من “مكتبة الرينبو”، التي كانت تقع في منطقة الدوار الاول بجبل عمّان، مقابل السفارة السعودية، لاحقا القنصلية السعودية، وكان مدير المكتبة السيد “أبو إلياس” الذي ما يزال حياً يُرزق أطال الله بعمره، يَحتفظ بها وبغيرها من المطبوعات السياسية والثقافية خصيصاً لكاتب هذه السطور الذي كان يَشتريها بقروشه القليلة، بدل ان يَبتاع بها الحلويات والموالح. فقد كنتُ في صِغري أفضّل التوجّه الى المدرسة والعودة منها الى منزلي، والتجوال في العاصمة مَشياً على قدمي، لتوفير القروش التي احصل عليها من والدي كمصروف يومي، ولتخصيصها لشراء مطبوعات صينية تنطق بالعربية.
ولا يزال كاتب هذه السطور يَحتفظ ببعض رسائل القسم العربي لإذاعة الصين الدولية، وببعض الكتب الصينية المنشورة بلغة الضاد التي أَرسلها له “القسم” مشكوراً، وقد سبق وأرسل كاتب هذه المقالة، قبل سنوات، صوراً عن بعض تلك الرسائل للسيدة “درية وانغ وي تسو” المديرة السابقة للقسم العربي، وقد تناول “القسم” تلك الرسائل بالشرح والعرض في برامجه الاذاعية الخاصة بالمستمعين العرب.
أذكر، أنني في تلك السنوات لاحقت كل شيء صيني من أخبار ومطبوعات ومعلومات تمكنت من الوصول إليها بشغفٍ، لتكون لي زاداً ثقافياً ومَعيناً للمستقبل في جهادي لمعرفة (دولة هان) الشعبية الجديدة والصديقة، ولإدراك الصين موضوعياً وإن كان عن بُعد، وبما كان يُلبي الأقل من طموحاتي الكبيرة الهادفة للتقرّب الفاعل من الصين وشعبها. وقد شكّلت قراءاتي الكثيرة عن الصين أنذاك قاعدة متينة لي، للانطلاق لاحقاً في علاقات وثيقة مع وسائل الاعلام الصينية والصينيين، من مسؤولين ومواطنين، لتكتسب بالتالي مصداقية فعلية وفاعلة، إرتقت الى تحالف لا انفصال فيه.
وفي سياقات معرفة الصين، وجَمعي للنُتَف عنها في الاردن، في جُهد يمكِّنُني من رسم صورة واحدة متكاملة وبهية عنها، عَثرت في مكتبتي الشخصية قبل ساعات من كتابة هذه المقالة، وبطريق الصدفة، على نسخ كثيرة لأعداد من مجلة “الواحة” الورقية الثقافية والاجتماعية الشهرية. المجلة تأسّست في العام 1974 كناطق بإسم الجمعية الخيرية الشركسية في الاردن، وما تزال المجلة ومنذ ذلك التاريخ تطبع وتنشر في عمّان. وكان أول رئيس تحرير لها المرحوم “اللواء فواز باشا ماهر برمامت”، وهو شخصية شركسية معروفة اردنياً وروسياً وعالمياً، وتوفي في عام 1997.
ولقد لفت نظري العدد التاسع (سبتمبر/ أيلول) من هذه المجلة لعام 1975، ذلك لعثوري فيها، بالصدفة، على مقالة مهمة على الصفحة رقم32، وكانت الصفحة مطوية على شكل سهم، إذ اكتشفت فيها بفضل ذلك “السهم” بالذات، على نص صغير ضمن مقالة خفيفة نشرها الكاتب “سليم أيوب” بعنوان “أشياء صغيرة”، وهي تتحدث عن مواقف طريفة ولافتة لناس هذا العالم، تَعرض لعَظمةِ الشخصيات والناس العاديين على حد سواء.
يتحدث النص الصغير عن شخص صيني حاذق وأمين ومثقف، عَمِلَ بمهنة طاهٍ ومُدبّر منزل لدى مُخرج سينمائي إسمه (سومرست موم). وكان (موم) يُفَاخر بهذا الطاه الذي عمل في عدة مهن بمنزله، فهو طبّاخ ماهر، وهو مُدبّر منزل، ومستقبل ضيوف خبير. بالإضافة الى ذلك، هو مرافق أمين لسيده (موم)، ولبّيس حاذق له، ويَعتني بملابسه وحُجرته وبكل ما يحتاج إليه سيده. وقد جاء في النص، أن (موم) دعا في أحد الايام أصدقاءه الى وليمة بمنزله، وعندما جلس الجميع الى مائدة الطعام، مَرَّ الطاه الصيني بالشخص الاول، وصاح في وجهه: مساء الخير يا سيد موم.. إن كتابك الأخير لم يعجبني قط !
وحدث إضّطراب كبير ما بين المدعوين للحفل، ولم يَكد (موم) يتّجه نحو الطاه الصيني، حتى كان الطاه قد طار الى المطبخ بسرعة البرق. وبعد انتهائهم من تناول الطعام، إفتقد الحضور السيد (موم)، ولمَّا بحثوا عنه وجدوه في المطبخ، جالساً يناقش الطباخ، في محاولة لإقناعه بأن كتابه الأخير لم يكن فيه من العيوب ما يَستحق سخط الطبّاخ عليه (!!)، بينما كان الطبّاخ يُناقش (موم) بالاسلوب الادبي والقصصي، واللغة وأبعاد القصة، الحَبكة وفنّيات النصوص الكتابية ومعانيها الاجتماعية الخ (!!)
هذه القصة القصيرة التي أعجبتني جداً و “لويتُ” في العام1975 صفحة المجلة رقم32 التي تشتمل عليها، لأنتبه لوجود (القصة الصينية) فيها، ولأجل أن أُعيد قراءتها بتمعّن واهتمام أكبر بها وبأبعادها الثقافية بعد35 سنة بالضبط، أي في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني2015. وهو ما يؤكد لي بما لا يدع مجالاً للشك، عدة حقائق عن الصين والصينيين، لعل في مقدمتها عَظمة المواطنين الصينيين، كبيرهم وصغيرهم، مكانةً وسنّاً، ورُقي النظام التعليمي والتثقيفي الصيني الذي أقامته الحكومات الصينية ورفعته للأعلى لخدمة مواطنيها، وهم يُعدّون بمئات الملايين من البشر المتعلمين والمثقفين، والمتابعين للثقافة والأدب والعلوم والروايات العالمية.
وفي الحقائق الاخرى، أن الصينيين قد شبّوا متمسّكين بعروة وثقى جُلّها كلمات شريفة ومواقف مبدئية، وصارو عُلماء بالاساليب الكتابية وأجناس الكتابة وأبعادَها، يناقشون بموضوعية، ويَسخطون لوجود الأخطاء، و يَنتصرون لرأيهم السديد، ولا يأبهون شيئاً ولا يَخشون فرداً حين ينازلون بالكلمة في نص ويبحثون بقضية ما، بغض النظر عن الشخص الذي يناقشونه ويواجهونه، أيكون كاتباً لنصٍ، و أكان شخصاً شهيراً أم من العَوام، ما يُشير الى قوّة الشخصية الصينية، وثباتها على رأيها في نقاشات مع أوساط عليا أو في حضرتها، دون أن يأبهوا لِما تكون عليه تلك الشخصيات من مراكز القوة والنَفَاذَةِ في أوضاعها وقراراتها. فالأهم بالنسبة للصينيين، أن يكونوا على صواب خلال محاكمتهم لظاهرة ما وفكرة ما، ولأنهم يَعرفون الصواب ويَسلكون سُبله، ويتلمّسون مواقع الضعف والخطأ في الآخر وفي ذواتهم، وما يُغضبهم جداً ويُخرجهم عن أطوارهم كما في قصة المُدبّر الصيني، هو عدم قدرة الآخر على تلّمس الخطأ الذي لا يستسلمون كصينيين لوجوده ويَغضبون لمطالبتهم الاعتراف به..
…………………………………..
- صحفي وكاتب اردني – روسي ورئيس الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب حُلفاء الصين.