إسهام الصين في السلام العالمي
موقع الصين بعيون عربية ـ
أسامة مختار*:
المتتبعُ للشأن الصينى لم يجد يوماً أن الصين تنتهج طرق وأساليب القوى الإمبريالية والاستعمارية، لا فى الماضى ولا الحاضر. فالصين لم تحتل دولة أو تهدد أو تسلب او تنهب، أو تظلم شعبا أو أمة ، كما نرى أنها لاو لن تسعى لذلك حتى الآن بعد أن قوى عُودُهَا وحققت وعُودَهَا قوةً وتطوراً عمَّ خيرُه البشريةَ جمعاء.
( الاضطرابات هى ما يخافه الشعب الصينى ، والاستقرار هو مايسعى وراءه، والسلام العالمى هو مايتطلع إليه)، هكذا تحدث الرئيس الصينى شى جين بينغ، حيث انتهجت الصين سياسة دبلوماسية سلمية فهى تدعو إلى تأسيس دبلوماسية سلمية رغم مايشهده العالم من تغيرات واضطرابات وتقلبات فهى تدعو إلى تأسيس نظام دولى جديد قائم على العدل والاصلاح والانصاف، رافضة الهيمنة، وداعيةً للتعددية والاحترام والمنافع المتبادلة.
ومازالت الصين تدعو إلى وجوب تبادل الاحترام والإستفادة من الحضارات المختلفة، لذا حُقَ للصين أن تحتفل هذا العام بمرور70 عاما على انتصار حرب مقاومة الشعب الصيني ضدَّ العدوان الياباني والحرب العالمية لمكافحة الفاشية للمرة الأولى فى تاريخها، وفى ذلك دلالات لا تُخفَى على الجميع لدولة تسعى للسلام العالمى، وهى فى أقوى وأزهى ماتكون عليه دولة فى أوج عظمتها متطلعةً الى مكان الريادة والصدارة .
وفوق كل ذلك فإن الصين تستحق أن تزهو بهذه الذكرى لأنها ذكرى إنتصارها العظيم على الامبريالية اليابانية ، فبقدر ما تركت الفاشية اليابانية خلفها من جروح وخراب ، أكدت قدرة الحزب والشعب الصيني الهائلة على التضحية والفداء ، لقد قدم مئات الألاف من الصينيين حياتهم من أجل الانتصار على الفاشية كاتبين بدمائهم الذكية صفحات جديدة في تاريخ البشرية ، ممهدين بأرواحهم الطريق لعقود جديدة من السلام في كوكب الأرض .
وما أن تراجعت الفاشية وبدأت عقود جديدة من السلام حتي بدأت الصين على مدى عقود من الزمان في إرساء علاقات صداقة هادئة ومستقرة مع جيرانها الاقليميين وهو ما أكد كفاءة قادتها حتى مع جارتها اللدود اليابان التى لم تنس الصين تاريخها العدوانى الغاشم عليها فالصين تبدو دائما كما الجار الكبير والمسؤول مع دول جوارها.
ولايمكننا الحديث عن الإسهام السلمى للصين بمعزل عن المستوى الدولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، وانتهاء فترة الحرب الباردة، وظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية آحادية ظلت تبحث عن عدو بعد أن فقدت العدو الأساسى ( الاتحاد السوفيتى)، فكانت الصين والإسلام هما العدوان المحتملان لديها إلا أن الصين عملت على تهدئة مخاوف الولايات المتحدة وطمأنتها كى لاتكون العدو البديل فكانت نظرية ( الصعود السلمى) محور سياسة الصين الخارجية خلال العقدين الماضيين.
وقد أثبتت التجارب العديدة والحروب الطاحنة التى شهدها العالم خلال هذه الفترة ماظلت تنادى به الصين بأن يكون السلام بديلا للحرب والقتالُ والحوارُ والتفاهمُ بديلا للمواجهة والتناحر ما مثَّل رغبة كثير من شعوب العالم اللاهثة وراء السلام وبدأت الدبلوماسية الصينية تؤدى دورها المؤثر والفعال إقليميا وفق قدرات الصين وقوتها، وقد أثبت الوقت أن هذه الرؤية الصينية فاعلة وناجحة. فعلى سبيل المثال لا الحصر نادت الصين ومنذ أكثر من عقد من الزمان بأهمية حل مسألة الملف الإيراني النووي سلمياً مؤكدة أن الحل السلمي ممكنٌ في وقت كانت القوى الغربية تحشد البوارج الحربية مهددة بحرب طاحنة في الشرق الاوسط، وأخيراً توصلت القوى الكبرى إلى حل سلمي مع إيران مما يدل علي صحة الرهان الصيني. اليوم أصبحت الصين مؤهلة لأداء هذا الدور في المحافظة على السلام والاستقرار الاقليمى والعالمى.
ويكمُن سر نجاح الدبلوماسية الصينية فى أنها تحرص الصين دائما على تطوير العلاقات الدبلوماسية والتواصل الاقتصادي والثقافي مع دول العالم التزاما بروح ميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الخمسة للتعايش السلمي، وتعارض دائما الحرب العدوانية ونزعة الهيمنة وسياسة القوة. إن الشعب الصيني يحتاج إلى السلام والتنمية ويعتز بهما أكثر من أي شيء آخر. إن الصين قوة من القوى التي تصون السلام العالمي وتدعم التنمية المشتركة. ولا يمكن للصين تحقيق هدفها الطموح لبناء المجتمع الميسور على نحو شامل إلا تحت هذا الشرط المسبق الاستراتيجي. (وهو مناخ سلام عالمي شامل).
إن الحب للسلام والوفاء بالعهد والإيمان بحسن الجوار والاعتزاز بالصداقة مع كل دول العالم يمثل الركائز الأساسية للثقافة الصينية التقليدية. إن الشعب الصيني في التواصل الخارجي يؤمن بالتناغم والتسامح مع الجيران ويدعو إلى الوئام واحترام الاختلاف ويسعى إلى الانسجام العام. إن الثقافة الصينية العريقة التي لها خمسة آلاف سنة من التاريخ بمثابة مصدر الحكمة غير الناضبة للدبلوماسية الصينية. وعلى سبيل المثال نُقِشتْ حكمة كونفوشيوس القائلة “لا تفعل لغيرك ما لا تريد أن يفعله غيرك لك” على جدار مقر الأمم المتحدة في نيويورك، باعتبارها قاعدة ذهبية ومرشدة ودليلا للعلاقات بين دولة وأخرى. لذا فإن الصين بدعوتها هذه قدمت وستقدم مساهمات جديدة للتقدم والسلام البشري.
إن النهج السلمى للصين طريق لتحقيق التنمية الذاتية على أساس صيانة السلام العالمي وترقيته ودعمه على أساس تحقيق التنمية الذاتية، وهو طريق للتوفيق بين التنمية الداخلية والانفتاح على الخارج، وطريق للمشاركة الجريئة في المنافسات الدولية السلمية والالتزام بالتعاون الواسع، وهذا ما يؤكد أن اختيار الصين هذا الطريق دليل حرصها على مواكبة تطورات العصر وتفعيل التعاون المشترك مع دول العالم على أساس المساواة والمنافع المتبادلة بما يحقق المصالح المشتركة والمكاسب للجميع، وحرصها على تجاوز القوالب التقليدية والاعتماد بثبات على القدرات الذاتية والالتزام بالإصلاح والإبداع والاستهداء بمفهوم التنمية العلمي لتحقيق التنمية الشاملة والمتكاملة والمستدامة وبناء المجتمع الاشتراكي المنسجم.
لقد ظلت الصين تحافظ على استقلالها وتعمل على تنمية موردها ومقدراتها بمجهوداتها الذاتية من أجل تحرير اقتصادها، ووفقا لظروفها الخاصة بعيدا عن إثارة المشاكل والحروب مع الدول الأخرى رغم تفوقها العسكرى وإمكاناتها البشرية والمادية، ونلاحظ هذا النهج على المستويين الرسمى والشعبى فالشعب الصينى مسالم وقد أدرك هذا الشعب الذى عانى ويلات الحروب والفقر والاستعمار فى العصر الحديث قيمة السلام، ويؤمن الصينيون بأن السلام هو الحل لجميع الأزمات التى يعيشها العالم الآن ( ومن هنا جاء شعار الصين المعروف لا سلام لا تنمية ).
ومن هذا المنطلق منطلق التزاماتها في حماية السلام العالم تشارك الصين حتى هذا العام 2015 وفقا لما نشره مؤخرا تشانغ يويه، الأستاذ في معهد جيش التحرير للعلاقات الدولية فى 24 عملية حفظ سلام، وتشارك حالياً في تسع عمليات من أصل ست عشرة عملية تقودها الأمم المتحدة حالياً، وقامت الصين بإرسال 30178 عنصراً من الضباط والجنود لحفظ السلام، وهي تحتل المركز السابع بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من حيث عدد القوات المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية، والصين هي الدولة الأكثر إرسالاً لقوات وفرق حفظ السلام من بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وتأتي الصين في المرتبة السادسة من حيث حصة المساهمة في عمليات حفظ السلام بين أعضاء الأمم المتحدة، وتحتل المرتبة الأولى بين البلدان النامية في هذه الناحية. لقد أصبحت الصين قوة مهمة في حفظ السلام العالمي وركيزة في أعمال حفظ السلام للأمم المتحدة. ويتميز الجندي الصيني بتحمل أي نوع من المهام الشاقة، والعيش في الظروف القاسية والخطيرة. الجندي الصيني في قوات حفظ السلام ينفذ مهامه بإخلاص واحترافية وروح قتال لا تلين، وهو بذلك يجسد الهمة العالية والتفاني والإخلاص الذي يتمتع به الجندي الصيني في أداء كل المهام.
وبالرغم من تاريخ الفاشية اليابانية الدامي في الصين إلا أن الصين لا تزال تولى اهتماما كبيرا لعلاقاتها مع اليابان حيث تدعو الصين إلى انطلاق الجانبين عامة وقيادتي البلدين خاصة من المصالح الاستراتيجية والبعيدة المدى في معالجة العلاقات الثنائية والالتزام الدقيق بالمبادئ الواردة في الوثائق السياسية الثلاث الموقعة بين البلدين، والتمسك بـ”الاتعاظ بدروس التاريخ والتوجه نحو المستقبل”، والعمل على تعزيز التواصل والتعاون وإزالة العقبات وتهيئة ظروف مواتية لتطوير العلاقات الثنائية على نحو مستقر وصحيح فالجميع يعلم والتاريخ يسجل كيف صعَّدت اليايان حربها العدوانية وارتكبت خلالها العسكرية اليابانية أبشع المذابح والمجازر في التاريخ البشري ضدّ الشعب الصيني وشعوب الدول الآسيوية الأخرى، وسلبت مدخرات وممتلكات الشعب الصيني في كل مكان وصلت اليه .. وعلى مدار الحرب العدوانية التي دامت قرابة العشر سنوات تكبد الشعب الصيني خسائر فادحة في الارواح والممتلكات .. حيث بلغ عدد القتلى والجرحى أكثر من خمسة وثلاثين مليون صيني، بينما فاقت الخسائر الاقتصادية الستمائة مليار دولار أميركي ..وفي الحقيقة أن ” مشكلة التاريخ ” أخذت تطفو على السطح تدريجيا فى ثمانييات القرن الماضي وتفاقمت بشكل خطير فى التسعينات منه ومصدر وجوهر مشكلة التاريخ هو أعمال وتصرفات القيادة اليابانية المخالفة لروح البيان الصيني الياباني المشترك وإنكار الحكومة اليابانية وساستها التاريخ العدوانى على الصين ومحاولة تجميله بين حين وآخر .. ويتمثل ذلك في:
ـ أولاً، زيارة كبار المسؤولين والساسة اليابانيين ضريج ياساكوني .. حيث تعتبر هذه التصرفات والزيارات العائق الأكبر أمام تطبيع وتطور العلاقات الصينية اليابانية السياسية، وتشكل ارتدادا وانتهاكا لروح البيان الصيني الياباني المشترك. ضريح ياساكوني هو المكان الذي قامت فيه اليابان بالتجنيد المعنوي لشن حروبها العدوانية في الماضي. وفيها شهد أضرحة أربعة عشر مجرما من مجرمي الحرب المصنفين من الدرجة الأولى بعد إدانتهم من قبل محكمة الشرق الأقصى الدولية .. ففي هذه الزيارات ما يجرح مشاعر الشعب الصيني ويقوض بشكل خطير الأساس السياسي للعلاقات الصينية اليابانية.
ـ ثانياً، قيام الحكومة الياباينة بتشويه تاريخ عدوانها بل وتجميله في المناهج المدرسية .. وهو ما يمثل عقبة خطيرة أمام التطور الطبيعي للعلاقات الصينية اليابانية .. منذ إعادة العلاقات الصينية اليابانية، قامت الحكومة اليابانية بتحريف “التاريخ في الكتب المدرسية” بصورة خطيرة أربع مرات في أعوام 1982 و1986 و2001 و2005. في المرتين الأولييين أنكرت الحكومة اليابانية تاريخ عدوانها بتخفيف وتشويه وشطب الموضوعات حول تاريخ الاعتداء على الصين في المقررات الدراسة، وفي المرتين الأخيرتين وافقت ضمنيا، عليه، بل ودعمت مناهج الصفوف المتوسطة التي أعدتها القوى اليمينة.
وتحضرتى هنا مقولة أحد الكتاب حين تسآءل قائلاً: لنا أن نتخيل موقف حكومات وشعوب دول أوروبا لو أن الحكومة الألمانية أقدمت على عمل يمجد النازية وهتلر، أو أن حكومة إيطاليا قامت بعمل يقدس موسوليني. هل سيواصلون التعامل الطبيعي مع ألمانيا وإيطاليا؟ وهل يمكن للمجتمع الدولي أن يقبل إنكار ألمانيا وإيطاليا للأحكام التي صدرت بحق النازيين والفشيست؟
في الفترة الأخيرة قام رئيس الوزراء الياباني بتأكيد عزم اليابان ثانية في التمسك بسياسة ” التعلم عبر التاريخ والتطلع الى المستقبل ” إنها خطوة تطور إيجابية دلت على وجود لغة مشتركة بين قادة البلدين. لا يمكن قطع حبل الربط بين الماضى والحاضر والمستقبل، وفى آخر زيارة للرئيس شى جين بينغ لروسيا قال شي في مقال موقّع نشرته صحيفة (رشان جازيت) الحكومية ” بالنظر للتاريخ نرى أن حروب الغزو التي بدأتها الفاشية والنزعات العسكرية أسفرت عن حدوث كوارث ومآسي في الدول الآسيوية والأوروبية بما فيها الصين وروسيا والعديد من دول المنطقة وكذلك شعوبها”. وأشاد شي بالجهود التي بذلتها شعوب أكثر من 50 دولة منها الصين وروسيا منذ عقود مضت وجميع الشعوب المحبة للسلام من أجل تشكيل جبهة عالمية موحدة لمكافحة الفاشية والنزعة العسكرية..
وعلى صعيد متصل وعلى هامش اجتماع وزراء الخارجية حول التعاون بشرق آسيا الذى انعقد بماليزيا وخلال الاجتماع، قال وانغ يى وزير الخارجية الصينى إن هذا العام يوافق الذكرى الـ70 للانتصار في الحرب العالمية وهو أمر له أهمية كبيرة. تاريخيا، قال وانغ إنه يتعين على اليابان أن تتبع نهجا جادا ومسؤولا بدلا من محاولاتها إثارة الاضطرابات. وفيما يتعلق باتجاه التنمية الوطنية، قال وانغ إنه يتعين على اليابان أن تلتزم بالسلام وتتجنب مواجهة المصير نفسه في الحرب العالمية الثانية.
كل هذه الرسائل من كبار المسؤولين الصينين تبرز مسألة التاريخ في العلاقات الصينية اليابانية وتعطيها أهمية خاصة، يحذوها الامل في أن تتخذ اليابان من هذه المسألة كمرآة ، أو كإرث تستخلص منه العبر والدروس والمثابرة على السير في طريق التطور السلمي لتخطي التأثيرات السلبية في العلاقات بين البلدين.
تدعو الصين إلى انطلاق الجانبين عامة وقيادتي البلدين خاصة من المصالح الاستراتيجية والبعيدة المدى في معالجة العلاقات الثنائية والالتزام الدقيق بالمبادئ الواردة في الوثائق السياسية الثلاث الموقعة بين البلدين، والتمسك بـ”الاتعاظ بدروس التاريخ والتوجه نحو المستقبل”، والعمل على تعزيز التواصل والتعاون وإزالة العقبات وتهيئة ظروف مواتية لتطوير العلاقات الثنائية على نحو مستقر وصحي .والقصص فى ذلك كثيرة منها مذبحة نانجينغ التى قتل فيها 300 الف صينى وغيرها من المآسى فى ذلك التاريخ المأساوي الذي تخلل مسام وأعصاب أهل الصين أجمعين وأصبح ذاكرة لا تُمحى.
وأخيرا عندما نستعرض الماضي ونستشرف المستقبل، نؤمن بأن الصين التي يسودها الازدهار والتنمية وسيادة القانون والانسجام والاستقرار، ستقدم بالتأكيد مساهمة أكبر للعالم. ولقد ظل طريق الحرير جسرا للتواصل والسلام العالمى بين دول الصين والعالم منذ آلآف السنين وستكون مبادرة الطريق والحزام التى طرحها الرئيس شى جين بينغ فتحا جديدا للترابط والإخاء والسلام العالمى.
إن الشعب الصيني على استعداد لبذل جهود دؤوبة ومشتركة مع شعوب العالم لتهيئة مستقبل أفضل للبشرية كلها ومن أجل سلام تحرسه القوة ومراجعة التاريخ والازدهار المشترك.
*عضو ناشط في الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب حُلفاء الصين، والخبير في القسم العربي بإذاعة الصين الدولية