بحر الصين الجنوبي.. ومحاولة «تطويق الصين»
صحيفة الحياة – الدكتور محمد المنصوب:
تواجه جمهورية الصين الشعبية تحديات كبيرة للحد من صعودها بوصفها قوة عالمية، إحدى هذه التحديات هي مسألة علاقات الصين بجيرانها، وبالتالي التركيز على مسألة «ترسيم» الحدود بين الصين وجيرانها في أكثر من جهة ومع أكثر من دولة، فهناك النزاع مع اليابان في بحر الصين الشرقي، وهناك النزاع الحدودي مع الهند الذي مر بتجربة مواجهات مسلحة في سبعينات القرن الماضي، وهناك أيضاً محاولة إثارة القلاقل الانفصالية في إقليم التبت وغيرها من المشكلات الثنائية.
برزت أخيراً على السطح مسألة النزاع حول بحر الصين الجنوبي، بخاصة مع إصدار قرار لجنة تحكيم في لاهاي بخصوص شكوى تقدمت بها الفيليبين سابقاً ولم تعترف بها الصين ولم تترافع فيها، وبالتالي أصبحت محكمة من جانب واحد وترافع طرف واحد، والقرار الذي أصدرته ببطلان ادعاءات الصين بالسيادة التاريخية لمنطقة بحر الصين الجنوبي كان قراراً غير مفاجئ، وأنكرته الصين واستهجنته فور صدوره على مختلف المستويات الشعبية والرسمية.
يعتبر بحر الصين الجنوبي أكبر البحار في المحيط الهادي بمساحة تقدر بـ3.5 مليون كلم مربع، وبامتداد يبدأ من مضيق تايوان وحتى مضيق سنغافورة، تطل على سواحله حوالى 10 دول، ومنه تمر ٥٠ في المئة من شحنات التجارة العالمية، و٤٠ في المئة من تجارة النفط والغاز، إضافة لاحتوائه على كميات هائلة من الثروات السمكية والنفطية والغازية (سبعة بلايين برميل نفط، و900 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي)، ما يجعل هذه المنطقة الأغنى عالمياً باستثناء المملكة العربية السعودية. وتمر من بحر الصين الجنوبي شحنات نفطية تساوي ثلاثة أضعاف ما يمر من قناة السويس، و15 ضعف ما يمر من قناة بنما باتجاه دول محورية في المنطقة، مثل كوريا (70 في المئة من إمداداتها النفطية) واليابان (60 في المئة) وتايوان (80 في المئة).
إلا أن أهميته بالنسبة للصين تتعدى ذلك إلى درجة تتعلق بالأمن القومي، للبلد الذي يجد نفسه منهمكاً في توترات يرى أنها من صنيعة دول وقوى منافسة لا تتمنى له الاستقرار. وطالما اتهمت الصين قوى أجنبية بتأجيج التوتر، وبالفعل كانت أولى ردود الأفعال بعد صدور المحكمة سالفة الذكر من طوكيو وواشنطن، اللتين عبرتا عن ارتياحهما للحكم ودعوة الصين للالتزام به، ما أثار رد فعل صارم من السلطات الرسمية في بكين لهاتين الدولتين بعدم التدخل وتأجيج التوتر.
وأثار قرار محكمة التحكيم في لاهاي ببطلان ادعاءات الصين بالسيادة التاريخية على بحر الصين الجنوبي العديد من التساؤلات لدى الكثير من المهتمين والمتابعين لذات الشأن، إذ إن التاريخ الصيني وإلى زمن قريب وعبر الإمبراطوريات الصينية المتعاقبة التي شملت سيطرتها ليس فقط بحر الصين الجنوبي، بل تعداه إلى مناطق أبعد من ذلك، حتى أن شبه الجزيرة الكورية وفيتنام وميانمار ولاوس ومنغوليا كانت مناطق ضمن السيطرة الصينية الرسمية ولو بأشكال غير مباشرة، حتى أن السيادة الصينية على فيتنام وشبه الجزيرة الكورية لم تسقط إلا بعد تدخلات غربية في نهايات القرن الـ19 أواخر حكم أسرة تشينغ الملكية، التي كانت وصلت إلى مرحلة الضعف والشيخوخة، ومثالاً على ذلك الحالة الفيتنامية سقطت السيادة الصينية على فيتنام عام ١٨٨٣ بموجب معاهدة بين إمبراطورية تشينغ الصينية وبين فرنسا، ودخول فيتنام تحت السيطرة الفرنسية حتى نيل الاستقلال.
إذاً، فإن الادعاءات الصينية في سيطرتها التاريخية على منطقة بحر الصين الجنوبي هي واقع مثبت ولا جدال فيه في الكتب والمراجع التاريخية، أضف إلى ذلك كيف لقرار محكمة تدعي أنها دولية أن تبت في المحاكمة من دون حضور الطرف الآخر، وبالتالي صدور حكم غيابي، ونتيجة لذلك يضع نفسه في مأزق تكون الصدقية والحيادية فيه عنوان!
التعامل الإقليمي مع القضية
الصين تتخذ من سياسة ضبط النفس والتفاوض الثنائي وحل الإشكالات بالطرق السلمية مبادئ أساسية في سياساتها الخارجية، وكدولة عالمية صاعدة يتركز الاهتمام الصيني في جوانب التطوير الاقتصادي والتنمية الشاملة، وبالتالي عدم الرغبة في أية مواجهات عسكرية على رغم القوة العسكرية الجبارة التي تمتاز بها الصين. كما تنادي الصين وباستمرار للعمل على حل الإشكالات بينها وجيرانها من طريق مبدأ الحوار الثنائي، وأصدرت بهذا الشأن بياناً أسمته بـ«الكتاب الأبيض».
تعتبر الفيليبين أهم الأطرف المشاركة في التوتر في مواجهة الصين عبر وسائل عدة، ويقف من ورائها دعم مباشر وغير مباشر من قوى إقليمية وعالمية منافسة للصين مثل اليابان والولايات المتحدة، ودائماً ما يتم تبادل الكر والفر في محاولة للسيادة على كثير من الجزر والشعب المائية غير الصالحة للسكن الآدمي، وأبرز مظاهر الكر والفر هذه هي اعتقال الصيادين وإنزال أعلام الطرف الآخر وسحب السفراء وتقليص التبادلات التجارية البينية.
الولايات المتحدة، الولايات المتحدة طرف رئيس في التوتر الحاصل في المنطقة، وشائع أن تقوم بإرسال طيرانها العسكري والمخابراتي للتحليق فوق المناطق المتنازع عليها بحجة أنها مناطق ملاحة دولية ولا يحق لأي من الأطراف ادعاء أو ممارسة حق السيادة.
دول أخرى تعتبر جزء من النزاع ولو بدرجات متفاوتة مثل فيتنام وبروناي وماليزيا وجزيرة تايوان وإندونيسيا.
أخيراً، إن منطقة بحر الصين الجنوبي والتوتر الحاصل فيها ليس إلا ساحة للصراع بين الصين وقوى إقليمية وعالمية معروفة، والمنطق يقول يحق لجمهورية الصين الشعبية أن تعبر عن قلقها من هذا التوتر الذي تراه في عقر دارها، لأن أي هيمنة أو سيطرة لمضيق «نانشا» أو «سبراتلي» كما يدعونه في وسائل الإعلام الغربية تعتبر بمثابة خنق لـ«بليون ونصف البليون» نسمة في الصين، وبالتالي خنق مسيرة النهضة والتنمية وكذلك الإضرار أو الضغط على السيادة والاستقلالية للقوة العالمية الصاعدة جمهورية الصين الشعبية، وعلى المجتمع الدولي وقبله الإقليمي أن يتفهم ذلك.