بان جيا يوان.. تاريخ الصين على الأرض
يتباهى أهالي بكين دون غيرهم من الصينيين بالقول إن الأجانب لا يأتون إلى الصين إلا للقيام بثلاثة أشياء: زيارة سورها العظيم، وتذوق بط بكين المشوي، والتسوق في بان جيا يوان.
ولا تستدعي الحاجة هنا للتحدث عن سور الصين العظيم وعدد زواره اليومي لتأكيد هذه المقولة، كما أن طوابير الزبائن الأجانب والصينيين على حد سواء أمام مطاعم البط المشوي في بكين كفيلة بتأكيد المقولة، لكن ماذا عن سوق بان جيا يوان؟ وما الذي يميزه عن باقي أسواق العاصمة؟ ولماذا خصه الصينيون بهذه المكانة؟
على مساحة 1548 مترا مربعا في الركن الشرقي من العاصمة بكين، يمتد أكبر سوق للمقتنيات والتحف النادرة والآثار التاريخية في الصين، بسعة ثلاثة آلاف كشك، يشغلها نحو عشرة آلاف بائع من 24 مقاطعة صينية ونحو 15 قومية عرقية.
أنشئ السوق عام 1992، حيث كان يديره عشرات الفلاحين الفقراء الذين كانوا يأتون من مناطق بعيدة لعرض ما بحوزتهم من مقتنيات ومشغولات قديمة، ومع مرور الوقت أصبح قبلة للتجار الراغبين في الاستثمار بمجال الآثار، ومقصدا سياحيا للزائرين والباحثين عن الكنوز التاريخية.
كنوز تاريخية
ما إن تطأ قدماك مدخل السوق حتى تشعر أنك رجعت حقبا وعصورا إلى الوراء، فذاك التاج الذهبي مستقر على جريدة يفترش الأرض بين آلاف المقتنيات التي تعود إلى عهد أسرة تشينغ، آخر السلالات الملكية التي حكمت الصين بين عامي 1644-1912.
زائر أجنبي يتفاوض مع أحد الباعة في سوق بان جيا يوان (الجزيرة نت)
وتلك العربة الخشبية التي تقل الملكات من قصر لآخر حاضرة أيضا، وأمشاط العاج، أعواد البخور، جرات المياه، الخزائن السنديانية، الأثواب المزركشة، المراوح اليدوية، المصابيح الزيتية، حقائب القش، الأواني الحجرية، الفرمانات العسكرية؛ وكل ما لم تره عينك إلا في الأعمال والمسلسلات التاريخية، تجده ماثلا أمامك وفي متناول يدك بسوق بان جيا يوان.
“أهلا بك في الصين”، بهذه الجملة رحّب بي بائع صيني في عقده الأربعين، وهو يشير إلى امتداد السوق شرقا وغربا. كانت جملته رغم بساطتها دقيقة، كأن السوق صورة مصغرة عن الصين بمختلف أعراقها ومعتقداتها ولغاتها المنوعة، كل4ٌّ يعرض ما يخص قوميته ومنطقته.
ففي الركن الجنوبي كان باعة من قومية الأيغور يعرضون مخطوطات إسلامية قديمة تعود جذورها إلى طريق الحرير وبداية دخول الإسلام إلى الصين، وفي الركن الشرقي باعة من قومية الهان يعرضون ما وقع بين أيديهم من مقتنيات تعود إلى الحقب الملكية، وآخرون من قوميات أخرى يتفاوضون مع الزبائن على أسعار تحف ولوحات ومخطوطات لا يقدر بعضها بثمن.
إرث الثورة
وفي ركن خاص غلب عليه اللون الأحمر وصور الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، كان هناك العديد من المقتنيات المتعلقة بالثورة الثقافية التي شهدتها الصين قبل خمسين عاما: نسخ من الكتاب الأحمر وهو كتاب صغير يضم مقتطفات من أقوال ماو ويعتبر من رموز الثورة الثقافية، ولوحات كبيرة عليها أسماء الإقطاعيين الذين صودرت أراضيهم وممتلكاتهم إبان الثورة، بالإضافة إلى بعض الشعارات التي تمجد الشيوعية وتهتف بزمانها.
صورة الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ في ركن المقتنيات المتعقلة بالثورة الثقافية (الجزيرة نت) تسانغ يي، مسنة صينية تحمل عقودها السبعة على عكاز خشبي كل صباح في طريقها إلى السوق لافتراش الأرض وعرض ما تحتفظ به من مقتنيات قديمة، قالت للجزيرة نت، إنها بعد زواج ابنتيها وانشغالهن بأزواجهن وأولادهن، لم يلتفت إليها أحد، وأصبحت بحاجة ماسة للرعاية، ولأنها لا تملك ما يكفي من المال للاعتماد على نفسها، قررت أن تبيع مشغولات يدوية ورثتها عن أمها.
أما شياو بو، البائع من مقاطعة فوجيانغ الجنوبية، فقال إنه ضاق ذرعا بمقتنيات جده، وتساءل إلى متى يجب الاحتفاظ بها ولماذا عليه أن يفعل ذلك؟ معتبرا أن قيمة هذه المقتنيات فيما تدره عليه من أموال لقاء بيعها، وليس في بقائها داخل صندق خشبي.
ويرى نشطاء صينيون أن بيع الآثار القديمة وعرضها بهذه الطريقة، تفريطٌ بإرث ثقافي وإهانة للتاريخ والحضارة الصينية، في حين يرى آخرون في ذلك فرصة للاطلاع على ثقافة بلدهم وتاريخه دون الحاجة للذهاب إلى المتاحف والمعارض ذات التكلفة العالية، فضلا عن إمكانية اقتناء ما يعجبون به بمبالغ زهيدة.