الأمير في «الصين».. «الرؤية على طريق الحرير»!
تعبّر الزيارة الأميرية إلى الشرق عن انفتاحٍ أكثر جدية مع تلك القوى الاقتصادية والسياسية، وتبرهن على حيوية الأمير محمد بن سلمان مع الدول الكبرى، بغية صناعة الرؤية المزمعة في السعودية، وتهيئة الأجواء الاقتصادية لها، وفي الوقت نفسه بحث المسائل السياسية الحساسة في المنطقة مع بكين. والمتابع لتطوّرات نموّ العلاقة بين البلدين منذ منتصف الثمانينات لا يصدّق أن ذلك البطء في تدشين العلاقات بين البلدين يمكنه أن يتحوّل إلى تعاونٍ متسارع مطّرد في تميّزه. اللقاء الأول بين الدولتين كان في عمان في نوفمبر (تشرين الثاني) 1985، حدث تعاون عسكري بين الصين والسعودية حتى قبل أن يتم تبادل السفارات في عام 1990، تعاون عسكري سبق هذا التاريخ بسبب الحرب العراقية – الإيرانية، حين بعث الملك فهد – رحمه الله – وفدًا بمهمّة سريّة تقضي بشراء صواريخ أرض أرض، ساهمت في تغيير ميزان القوى في المنطقة، وهي صفقة أخفتها السعودية حتى عن الولايات المتحدة، التي لم تكتشف وجود الصواريخ الصينية في السعودية إلا بعد سنتين.
استطاعت السعودية أن تتعاون مع الصين قبل أن تكون لديها علاقات رسمية معها، بل كانت لديها علاقة دبلوماسية مع تايوان، غير أن بدء التمثيل الدبلوماسي أوائل التسعينات جعل المملكة شريكًا اقتصاديًا للصين بشكلٍ فريدٍ على مستوى الشرق الأوسط. الزيارة التي قام بها الأمير محمد بن سلمان تمركزت أهميتها في ملامح كثيرة:
أولها: أهمية التعاون الذي أثمر خمس عشرة اتفاقية بين البلدين، في مجالات متعددة من أبرزها الطاقة، وتخزين الزيوت، ومجالات التعدين والتجارة. كذلك تم توقيع اتفاقية مع وزارة الإسكان السعودية لإنشاء مدينة جديدة في ضاحية الأصفر، واتفاقية لتنمية طريق الحرير المعلوماتي، ومذكرة تفاهم بين وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية للتعاون في المجال العلمي، بالإضافة إلى مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الموارد المائية. كما تم توقيع اتفاقات اقتصادية مع القطاع الخاص في الصين، أبرزها اتفاقية بين مجلس الغرف التجارية الصناعية السعودية، ومركز تنمية التجارة الدولية الصينية، وجميعها تخلق بيئة داعمة للرؤية في السعودية.
ثانيها: أن الزيارة أخذت أهميتها من خلال القمم التي عقدها الأمير محمد بن سلمان مع زعماء العالم، وذلك للبحث في موضوع النفط، والأزمة السورية، والاضطرابات في المنطقة، وسبل إطفاء الحرائق المشتعلة ضمن اتفاقياتٍ عميقة ودائمة تدعمها الدول الكبرى. يضع الأمير موقف السعودية بين زعماء العالم للبحث في أسسٍ تدعم الحل السياسي في سوريا من دون تبديد مصالح المجتمع السوري، أو إنقاذ لرئيس النظام البعثي، بل للبحث في تسوية أممية تحفظ استحقاقات السوريين وتصنع لهم مستقبلاً يليق بالتضحيات التي قدموها طوال السنوات الخمس الماضية، والرئيس بوتين عبّر عن استحالة وجود اتفاقٍ إقليمي من دون حضورٍ سعودي، هذا صحيح، لكن لا يمكن للسعودية أن تكون منساقة خلف السيناريو الروسي الإيراني الذي يرسم لوضع مستقبلٍ محدد مسبقًا في سوريا.
ثالثها: الجانب الاستراتيجي للزيارة، وقد عبّر عنه وزير التجارة والاستثمار السعودي ماجد القصبي، الذي قال: «إن المساعي الصينية لإحياء طريق الحرير لربط شرق الكرة الأرضية بغربها، تنسجم مع (رؤية السعودية 2030)؛ ذلك أن الرؤية سترتكز على تحويل الموقع الاستراتيجي للمملكة بين الممرات المائية العالمية الرئيسية، إلى مركز لوجيستي عالمي، والصين وهي الشريك التجاري الأول للسعودية، ستستفيد من الشراكة مع المملكة، في استقطاب فرص استثمارية واعدة خدماتية أو لوجيستية أو في قطاعات الأعمال التجارية والصناعية المختلفة».
الخبير في الشؤون الآسيوية، البروفسور عبد الله المدني، كتب ملفًا مهمًا عن هذه الزيارة، رأى أن العلاقات السعودية الصينية سترقى إلى مستوياتٍ أعلى: «ما دام أن الضيف الزائر الأمير محمد يقود اليوم مشروعًا غير مسبوق لتنويع اقتصاد بلده ووضعه على طريق الأمم الصاعدة، وما دام أن الصين لديها أيضًا مشروع (طريق الحرير) الذي أطلقته في عام 2013 تحت اسم مبادرة (حزام واحد، طريق واحد)، بهدف تمكين منشآتها وشركاتها العامة والخاصة من الاستثمار والعمل في 65 دولة في آسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط من تلك الواقعة على هذا المسار، بل وأسست لهذا الغرض (صندوق الحرير) برأسمال 40 مليار دولار، إضافة إلى تأسيسها للبنك الآسيوي للاستثمار برأسمال 500 مليار دولار».
وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأمير محمد بن سلمان بقوله: «إنه شخصٌ يعرف جيدًا ما يريد تحقيقه، ويعرف كيف يحقق أهدافه، وفي الوقت نفسه أعتبره شريكًا موثوقًا يمكن أن نتفق معه وأن نكون واثقين من تنفيذ تلك الاتفاقيات».
تلك خلاصة حركة الأمير المتّقدة التي لن تهدأ إلا برؤية الرؤى وقد صارت واقعًا ملموسًا على الأرض.