تأثير القوى العاملة في نمو الاقتصاد الصيني
صحيفة الخليج الاماراتية:
لطالما امتزجت دهشة المستثمرين والخبراء الاقتصاديين على حد سواء بسرعة نمو الاقتصاد الصيني، فالتنبؤات القائمة على الأرقام الحالية، تشير إلى تفوق الصين اقتصادياً على أمريكا خلال فترة الخمسة عشر عاماً الماضية، لدرجة وصلت دعوات تطالب الاقتصادات الناشئة بالذهاب إلى الصين، حيث بلغ الاحتياطي الحالي عندها نحو 8 .،1 أي تريليون وثمانمائة مليار دولار لتصبح بكين هي خزانة العالم وليست واشنطن!
ولكي نتمكن من تقويم صحيح لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الاقتصاد الصيني: فإن علينا أن نضع في الاعتبار العديد من العوامل التي أسهمت في سرعة نمو الاقتصاد الصيني خلال العقدين الماضيين ومن أهمها سياسة العمالة والأجور المدفوعة لها والتي تدخل في حساب تكاليف الإنتاج .
بدأت القصة خلال الأعوام 1980-2010 كان خلال هذه الفترة نمو القوة العاملة الصينية هو الأسرع عالمياً، فبفضل نسبة نمو سنوي قدرت ب 7 .1 % أسهمت الصين بما يقارب خُمساً واحداً من إجمالي نمو القوة العاملة عالمياً، وكان الفضل في ذلك لعملية التوسع في الإنتاج، خاصة في المراكز الحضرية في الصين، ما أدى لزيادة الطلب على العمالة التي قدمت نتيجة هجرة المزيد من فلاحي الريف إلى المدن، وبذلك ارتفعت نسبة هذا النمو بنحو 8 .3 % من قوة العمالة الصينية .
كما حقق التعليم الصيني تقدماً واضحاً، فارتفعت نسبة خريجي الجامعات إلى 25% سنوياً، أي أن الرقم ارتفع من 4 .3 مليون خريج في عام 1998 إلى 3 .13 مليون خريج في عام ،2004 أما عدد الذين حصلوا على درجة الدكتوراه من الجامعات الغربية : فقد ارتفع من 19 في عام 1985م إلى 50 ألفاً في عام 2006 ، ولقد أسهمت جميع هذه العوامل في تجديد نمو العمالة الصينية لتصل إلى معدل 10% سنوياً .
لكنّ هناك إحساساً عاماً يخيم على الأسواق العالمية يتلخص بتراجع أرقام هذه القوة البشرية الرافدة لدورة الحياة الاقتصادية الصينية، فبسبب سياسة طفل واحد لكل أسرة توقف نمو العمالة الصينية في عام ،2010 كما يتوقع انحسار الكثافة السكانية العمالية بسبب تقدمها بالسن، ومن الممكن أن تصل ل9% بحلول عام ،2040 ليس كل ذلك فحسب، بل تشير التنبؤات الاقتصادية المدعمة بالوقائع العملية عندما انتشرت أخبار زيارة رئيس رابطة مصنعي الأدوات الكهربائية في جنوبي الصين إلى مقاطعة “جوانجكس” للبحث عن عمال، وكان يأمل باستقدام 500 عامل، لكنه أصيب بخيبة أمل لأنه لم يتقدم إليه سوى 10 عمال فقط، وعند تحريه عن السبب اكتشف وجود فرص العمل البديلة في مناطق إقامة العمال إلى جانب ارتفاع نسب التضخم في مقاطعته، ما جعل عرضه للعمل غير جذاب، ففضل العمال البقاء في قراهم لحين العثور على فرص عمل بشروط أحسن وأجور أعلى .
غير أن انعكاسات ارتفاع الأجور في الصين، إضافة إلى النمو الاقتصادي السريع فيها وفي الاقتصادات الناشئة الأخرى، كانت واضحة في ألمانيا _ خلال الشهر الماضي حيث أعلن البنك المركزي الأوروبي عن رفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ ثلاث سنوات، وبواقع ربع نقطة مئوية، وحذر رئيس البنك المركزي الأوربي من مخاطر التضخم الناجم عن النمو الاقتصادي القوي خصوصاً في الأسواق الناشئة، وكذلك نبه إلى مخاطر السيولة الساخنة على المستوى العالمي والتي قد تشعل أسعار السلع بشكل كبير .
وترافقت مع التحركات المالية الأوروبية وفي الفترة نفسها قيام البنك المركزي الصيني برفع أسعار الفائدة للمرة الرابعة منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إضافة إلى اتخاذه إجراءات أخرى للحيلولة دون ارتفاع الأسعار في الأسواق، ومن المتوقع أن تتبع بنوك مركزية أخرى هذا النهج بحلول العام الجاري .
ومن خلال تقارير صندوق النقد الدولي الأخيرة أعرب عن قلقه من آفاق الاقتصاد العالمي، وخاصة التداعيات المتوقعة على مستوى العالم نتيجة التغيرات في المجتمعات المحلية، وكذلك لم يتجاهل تطورات سوق العمل الصيني وتأثيراته في الاقتصاد العالمي . ويمكن التأكيد أن عصر التحول في القوى العاملة الصينية قد بدأ منذ وقوع عدد من حوادث الانتحار بين العاملين في مصنع للإلكترونيات في “شنزن” على حدود “هونغ كونغ” خلال العام الماضي، وعندها على الفور قامت الشركة التايوانية التي تصنع منتجات “آبل ودل” برفع أجور العاملين بنسبة 20%، ثم انتقلت العدوى إلى مصانع “هوندا” في نفس المقاطعة، ما أدى إلى رفع الأجور هناك، وكانت هذه الاحتجاجات نقطة تحول، فمن الواضح أن الغضب العمالي تحول من أرباب العمل تجاه الحكومة الصينية، ولامتصاص حالة الغضب العمالية هذه قامت الحكومة الصينية برفع أجور العمال بواقع 20% بدءاً من بكين على أن يطبق بشكل تدريجي ليشمل جميع أنحاء البلاد خلال عام .
لا شك أن أحد أهم العوامل التي دفعت إلى هذه التغيرات هو العامل الديموغرافي الذي ترافق مع انخفاض عدد العاملين من الصينيين الشباب الذين يلتحقون بسوق العمل سنوياً، وحسب تنبؤات قسم السكان التابع للأمم المتحدة، فإن هناك احتمالاً بانخفاض النمو الحضري الصيني الذي كان دائماً عاملاً مهماً وراء ارتفاع عائدات الإنتاجية الصينية في العقدين الماضيين وبنسبة 50% بين الأعوام 2010-2030 مقارنة بنسب النمو الحضري المرتفعة بين الأعوام 1980و،2010 كما حدث تراجع مشابه في نسب النمو التعليمي، خاصة بعد أن أعلنت السلطات الصينية عزمها على خفض برامج درجة الدكتوراه .
لا شك أنه منذ اندماج الاقتصاد الصيني في السوق العالمي في ثمانينيات القرن الماضي، تحققت زيادة تقدر ب20% في قوة العمل على مستوى العالم وخلال تلك الفترة أصبحت الصين مصنع العالم، وحسب ما يقول خبراء الاقتصاد فإن انخفاض مستويات الأجور في الصين سمح لبقية المستهلكين بالعالم الاستمتاع باستخدام المنتجات رخيصة الثمن، والذي ساعد كثيراً على كبح جماح التضخم .
ولكن مع ارتفاع حصة الصين من الصادرات السلعية على مستوى العالم من 1 .1% في عام 1982 إلى أكثر من 10% بحلول نهاية العام الماضي، فهذا يؤشر إلى أن التأثير المعتدل للصين على تضخم الاقتصاد المتقدم بدأ يضعف، والآن بعدما أصبحت السلع الصينية منتشرة في الاقتصادات المتقدمة لم يعد أحد بمأمن من الأحداث الجارية في الصين .
والآن يشعر السياسيون بالخوف من ارتفاع تكاليف الواردات إلى الاقتصادات المتقدمة بسبب ارتفاع أجور العمال في الصين وارتفاع أسعار المواد الخام عالمياً، وقد تضطر الحكومات إلى التدخل ومواجهة المستهلكين في الأسواق .
وعلى الرغم من كل الهواجس السابقة، فإن هناك بعض العوامل التي تقلل من التأثير السلبي لارتفاع الأجور في الصين: منها أن ارتفاع تكلفة العمالة الصينية لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من السعر النهائي للسلعة المباعة في أوروبا وأمريكا، إضافة إلى أن مرونة أسلوب الإنتاج في المصانع الصينية يسمح للشركات برفع الأجور دون الاضطرار إلى رفع سعر المنتج النهائي، كما أن هناك خوفاً عند الصينيين من أن ارتفاع أجور العمالة في بلادهم سوف يسهم بإنعاش اقتصادات الدول المجاورة وهذا ليس سهلاً عليهم، فشعارهم الذي نجحوا فيه هو “نحن نعمل من أجل أن نعيش” . وبينما يتوقع استمرار انكماش العمالة الصينية، وأن يتسارع تقدم سنها بحلول عام 2030 فعندها نعلن أن عصر العمالة الصينية الرخيصة قد انتهى وسوف تختفي تدريجياً السلع الصينية التنافسية من الأسواق، وعلى خبراء الاقتصاد في الدول المتقدمة العمل للسيطرة على التضخم بأساليب أخرى في المستقبل .