العلم ولو في الصين
صحيفة العربي الجديد ـ
سامر خير أحمد*:
جادلني دبلوماسي باكستاني سابق، عمل سنوات طويلة في الصين، بأن القول المشهور “اطلبوا العلم ولو في الصين”، الذي درج بين المسلمين الاعتراض على نسبته للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وشاع أنه “قول مأثور” لا “حديثاً شريفاً”، إنما هو حديث نبوي فعلاً، قاله عليه الصلاة والسلام وهو يبتعث أربعةً من أصحابه، مع وفد صيني جاءه بعد فتح مكة، موفداً من إمبراطور الصين.
وفي الحكاية أن إمبراطور الصين، وهو من أسرة تانغ الملكية (618-907 ميلادية)، سمع بوجود رجلٍ حكيم في جزيرة العرب، فاستغرب ذلك، لأن الصينيين اعتبروا بلادهم أرض الحكمة الوحيدة، لا يولد الحكماء إلا فيها، فأرسل رجاله في طلب الحكيم، علّهم يقنعونه بأن يأتي معهم إلى الصين، ليعلّمهم من حكمته التي ذاع صيتها. استقبل النبي الأعظم الوفد الصيني، وأبلغهم تعذّر قبول طلبهم، لكنه أرسل أربعةً من أصحابه معهم (منهم أب وابنه) ليقدموا رسالة الإسلام إلى إمبراطور الصين، قائلاً “اطلبوا العلم ولو في الصين”، وقد أحسن الإمبراطور وفادتهم، وسمح لهم بأن يعيشوا في الصين، ويحدّثوا الناس عن رسالتهم، حيث مكثوا هناك، ودفنوا في أرض الصين.
وقد جاء في فتاوى عبد العزيز ابن باز أن “جمهور أهل العلم بالحديث قد حكموا على حديث (اطلبوا العلم ولو في الصين) بأنه ضعيف من جميع طرقه، وقد حكم عليه ابن حبان بأنه باطل، وابن الجوزي بأنه موضوع. كما نبّه عليه أهل العلم في كتب المصطلح والأصول. ولو صحّ، لم يكن فيه حجة على فضل الصين وأهلها؛ لأن المقصود من هذا اللفظ “اطلبوا العلم ولو بالصين” لو صح: الحث على طلب العلم ولو بَعُدَ المكان غاية البعد؛ لأن طلب العلم من أهم المهمات، لما يترتب عليه من صلاح أمر الدنيا والآخرة، في حق من عمل به، وليس المقصود ذات الصين”. (فتاوى ابن باز، المجلد السادس والعشرون، كتاب الحديث القسم الثاني، كتاب الأحاديث الضعيفة).
تروي بعض المصادر (غير الموثوقة) عن مؤرخ أميركي (ويلز) أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعث رسلاً إلى الصين في العام السادس من الهجرة (628 ميلادية)، فقابلهم الإمبراطور الصيني، تاي تسونغ، بحفاوة، وأثنى على أقوالهم، وساعدهم على إنشاء مسجدٍ في كانتون (غوانجو الحالية عاصمة مملكة الجنوب قديماً) ليؤدوا الصلاة فيه. كما تنقل المصادر نفسها عن باحث صيني (لان شوي تشي)، معتمداً على نقوش موجودة على “شاهدة السيد وقاص”، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أرسل الصحابي سعد بن أبي وقاص إلى الصين، بغية إيصال القرآن إليها، فوصل إلى تشانغان (شيان الحالية عاصمة الصين القديمة، وسط الصين) في العام العاشر من الهجرة (631 ميلادية)، أي قبل عام من وفاته عليه السلام، ولمّا رأى الإمبراطور الصفات الحسنة، خُلقاً وعلماً، في الصحابي سعد بن أبي وقاص، أبقاه في تشانغان، وأمر بتشييد مسجد تحت إشرافه ليقيم فيه ومرافقوه.
في ينتشوان، عاصمة مقاطعة نينشيا الصينية حالياً، ذات الحكم الذاتي لقومية هوي المسلمة، وهي ثاني أكبر قومية صينية مسلمة، والأحسن صلةً بالنظام الحاكم في بكين، يضع المسلمون عبارة “اطلبوا العلم ولو في الصين” في لوحةٍ بارزة داخل المسجد الكبير ذي القباب المذهّبة، الواقع ضمن المجمع الثقافي الخاص بتلك القومية التي تعتبر نفسها سلالةً للتجار العرب الذي أتوا الصين عبر طريق الحرير، وتزوجوا من صينيات من قومية هان، واستقرّت عائلاتهم وتكاثرت في تلك المقاطعة الواقعة على طريق الحرير التاريخية، شمال غربي الصين. بل إن هؤلاء الصينيين المسلمين، يتمسّكون بأن تلك العبارة حديثٌ نبوي شريف، دلالةً على أهمية الصين ومكانتها.
في كل الأحوال، ثمة تاريخٌ من العلاقات الثقافية بين العرب والصين، المبنية على طلب العلم. في السنوات الأخيرة، باتت أعدادٌ متزايدة من الطلبة العرب تتوجه للدراسة في الصين، في مختلف الاختصاصات، وبعد أن كان عددهم في العام 2004 نحو 300 طالب فقط، قالت مصادر صينية في أواخر العام الماضي، 2016، إن عدد الطلبة العرب الدارسين في الصين تجاوز 14 ألف طالب وطالبة، ما يشي بإمكانية تحقيق تقارب حضاري متين بين العرب والصين في السنوات المقبلة، من بوابة التعليم.
* كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.