باحثون صينيون يطالبون بالإصلاح في بلادهم
مجلة لوموند ديبلوماتيك:
باحثون صينيون يطالبون بالإصلاح في بلادهم
يقدّم هذا النصّ المدعّم بالحجج نقداً لطريقة تعاطي السلطات مع الحركات الاجتماعية. صدرت صيغة أطول له في مجلات صينية ونُشرت بصورة واسعة على شبكة الانترنيت، أي أنه لاقى دعماً من بعض دوائر الحكم. يؤشر هذا السلوك على أن هناك، خارج المنشقين أو النيوليبراليين، تياراً نقدياً قوياً يجمع مثقفين وباحثين ومسؤولين سياسيين متفقين حول ضرورة تطوير حيّز شرعي للاعتراض. لا يذهبون الى حدّ إعادة النظر في النظام القائم، بل يبحثون عن طريق تجمع بين المعارضة الاجتماعية والاستقرار السياسي: تأسيس الاصلاح السياسي على البعد الاجتماعي. قد تبدو هذه الاقتراحات من باب الايحاء لا أكثر؛ لكن التوتر شديد في الصين وكلّ تعبير علنيّ يتطلب بعض الحذر.
بعد ثلاثين عاماً من سياسات التنمية الاقتصادية، وبفضل سياسة الإصلاح والانفتاح بلغت الصين لحظة مفصلية في سيرورة تحوّلها الاجتماعي. يمكن تلخيص الوضع بثلاث مسلّمات هي: سرعة التنمية الاقتصادية؛ وضمان استقرار الوضع السياسيّ ؛ وبروز تناقضات اجتماعية قويّة، إلاّ أنّ إمكانية انتهائها إلى اضطرابات اجتماعية واسعة جدّاً تبقى ضعيفة.
في النتيجة يبدو لنا أن الظرف مناسب لتغيير المنهج المعتمد من أجل تأمين “استقرار” البلاد. فقد آن الأوان للشروع في مسار نحو “الحكم المؤسّساتيّ الصالح”، أكثر فعاليّة وأقلّ كلفة، يرتكز على الأخذ بعين الاعتبار المصالح الاجتماعية المتباينة. وقد يتبيّن أن المزيد من الانتظار أو التردّد أو التسويف هو خطأ تاريخيّ.
نحن دخلنا في الواقع دائرة مفرغة: فعلى كلّ الصعد يخصّص الحكام دائماً المزيد من الموارد البشرية والماديّة والمالية للحفاظ على الاستقرار؛ إلا أنّ الخصومات والنزاعات الاجتماعية تتزايد بشكلٍ ملموس بدلاً من أن تتناقص. فكلّما كان هناك سعي إلى الحفاظ على الاستقرار، كلما تضاءلت إمكانية ضمانه. ولو تركنا جانباً الأسباب الموضوعيّة، الناتجة عن نظام اقتصاد السوق ، يمكن أن نعزو تصاعد النزاعات الاجتماعية إلى غياب التفكير في ضرورة إيجاد نموذج جديد.
ففي العام 2010، بلغت موازنة الأمن الداخلي، بحسب الاحصاءات الرسمية 514 مليار يوان (ما يعادل 54,25 مليار يورو)، أي بزيادة بلغت نسبتها 16 في المئة مقارنة مع العام السابق، والتي بلغت فيها أيضاً نسبة الزيادة 8,9 في المئة عن العام 2008. وباتت هذه الموازنة بمستوى موازنة الدفاع الوطني. وبذلك تتزايد باطّراد كلفة الحفاظ على الاستقرار، كما يرتفع عدد الموظّفين المولجين بهذه المهمة. وقد أصبح فرض الأمن أولويّة بالنسبة إلى الحكومات المحلّية. أضف إلى ذلك أن المعيارين المعتمدين في جهاز الأمن الداخلي – أي “عدم التسامح كلّياً” و”حقّ النقض” – يستخدمان في تقييم عمل الكوادر: فأيّ نتيجة سيّئة في هذا المجال تلغي سائر النتائج الأخرى. فبمجرّد الدخول في مرحلة من السنة تعتبر حسّاسة أو مواجهة حدثٍ خاص، يصبح لزاماً على كلّ إدارة أو كلّ شركة أن تبذل كلّ قدراتها من أجل الحفاظ على النظام. وهذا يربك العمل اليومي في بعض الأماكن، على أساس أنّ كل الأعمال الأخرى للإدارة يجب أن تُنحّى إزاء هذه “الأولويّة المطلقة”. وإذا لم يتغيّر هذا النمط من العمل فإن كلفته ستصبح عبئاً لا يُحتمل.
هناك ما هو أسوأ من ذلك. ففي حين أنّه من الأنسب القيام بشكل ملائم بتغييرات مهمّة من أجل تحسين اقتصاد السوق وإقامة مجتمع متناغم، فإن هذه المحاولات تخنق في مهدها نتيجة الخشية الدائمة من عدم الاستقرار. وعمليّة إصلاح النظام السياسي لم تبدأ بعد، وحرّية التعبير مقيّدة، وإجراءات مكافحة الفساد غير مجدية، ولا يؤخذ بعين الاعتبار ظهور المجموعات المستفيدة، وكلّ المجتمع يعيش حالة من الفوضى المتنامية.
إحصائيّات باهرة ولكن خادعة
لذلك فإن بعض المجموعات الاجتماعيّة أو الأفراد قد سارعوا إلى التعبير عن مطالبهم الشرعية بطريقة مباشرة؛ ولم يكن أمامهم من خيار آخر إلاّ اعتماد الوسائل غير المؤسّساتيّة وأحياناً بعض الطرق العنيفة بغية تفعيل مطالبهم والتعبير عن استيائهم، وهذا ما أدّى إلى تفاقم حركة الاحتجاجات. نتيجة ذلك، تنامت الفكرة القائلة بأنّ “اضطرابات كبيرة قد تساعد في حل قضيّة مهمّة، واضطرابات بسيطة تحلّ مشكلة بسيطة، بينما لا يمكن تسوية أي شيء من دون خضّات”. وللمفارقة فإنّ القمع يحمل كل واحد على نشر الفوضى من أجل تحقيق مصالحه. وشيئاً فشيئاً يصل الأمر ببعضهم إلى تجذير نشاطاتهم فيصبحون “مولّدين محترفين لعدم الاستقرار” بحسب الاتهامات الرسميّة.
في المجتمع الصيني الحالي هناك فوارق لافتة بين “مجموعات المصالح”، أي بين الشرائح الاجتماعيّة. والمشكلة هي أن هذه الإجحافات لا ترافقها آليّة تسوية أو توازن كفيلة بردم الفروقات.
فمن ناحية، نجد المجموعات المتضرّرة مثل العمال المهاجرين من الأرياف أو أبناء المدن من عمال وموظّفين الذين فقدوا أعمالهم: ليس أمام هؤلاء أي قناة مؤسّساتيّة كفيلة بأنّ تأخذ بعين الاعتبار مصالحهم، وليس لهم أي سلطة للتفاوض، أو أي تأثير على السياسات التي تعنيهم. من الصعب جدّاً عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضمن مفاوضات أو آليات توافق. في المقابل، هناك مجموعات اجتماعيّة تحتكر موارد هامة، وهي قادرة على إيصال صوتها وأن تضغط بوسائل متعدّدة من أجل وضع سياسات عامّة لمصلحتها، وحتى أن تقرّرها كلّها هي بنفسها.
يحمل النموذج الحالي على رؤية أن هناك تعارض جذري بين الحفاظ على الاستقرار والتعبير عن المطالب الاجتماعيّة؛ وحدها أعمال القمع والتضحية بمصالح الفئات المستضعفة من شأنها أن تساعد في تفادي الاضطرابات. وقد أصبح السعي إلى الأمن الاجتماعي على المدى القصير هدفاً معمّماً. لا يبدو هذا الحلّ فقط مؤقّتاً وسطحيّاً، لكنّه، بمساهمته في الحفاظ على المصالح المكتسبة يخلّ بالعدالة الاجتماعيّة. إضافة إلى ذلك، يصل الأمر ببعض الحكومات المحلّية إلى المبالغة في تصوير خطورة النزاعات وإبداء القلق من أدنى تحرّك. بالتأكيد أنّه يمكن لبعض الاحتجاجات أن تفضي على المدى القصير إلى صراعات بين المصالح المتعارضة، وتؤدّي إلى حدوث بعض الاضطرابات؛ لكن إيلاؤها الاهتمام، على المدى الطويل من شأنه أن يسهّل وضع سياسات وإجراءات كفيلة بتحقيق التوازن بين المصالح الاجتماعيّة. بدلاً من ذلك، لا تُنجَز الاجراءات والاصلاحات الضروريّة بالطريقة الصحيحة، أو حتى أنه لا يتمّ الشروع فيها. ولذا لا يتمّ التخفيف من حالات انعدام المساواة، والمكاسب المتحقّقة تبقى دائماً محميّة أو هي تتعزّز. هكذا يخسر المجتمع بمجمله فرصة لتحقيق إعادة التوازن المطلوب.
وحالياً يشهد الوضع تجدّد ممارسة ما يعرف بالــ”حملات” (“يوندونغ”) التي تجنّد، كما في ستينات وسبعينات القرن الماضي، مجمل الإدارة لمواجهة مشكلة أو عدوّ معيّن. ومن شأن هذه الطريقة أن تسقط اعتبار القانون أو تشوّهه أو تتجاهله كلّياً. إذ تولي السلطات المحلّية دائماً أهمية مميّزة للسلطة أو للقوة في ما يخصّ الحقوق؛ وأحياناً تلجأ هذه السلطات إلى الشرطة بشكلٍ مفرط، فترسلها الى الخطوط الأمامية، ممّا يؤّدي إلى تجريم المواقف والمسلكيّات والى أدلجتها. ترمي هذه الطريقة، بدلاً من المساهمة في الحدّ من النزاعات، إلى صبّ الزيت على النار وإقامة المواجهة بين الشرطة والشعب، وبين الموظّفين والجماهير، وبالتالي وضع الحكومة في موقفٍ ضعيف وعطوب.
وأخيراً تنشئ الحكومات والإدارات “صناديق لدعم الحفاظ على الاستقرار”، وتلجأ إلى بعض الوسائل في محاولة منها لشراء الأمن الاجتماعي بالمال. وبحسب التعبير الشعبي، يخلص هذا إلى “حلّ تناقضات الشعب” عبر استعمال “مال الشعب” (وعبارة “مال الشعب” هي الترجمة الحرفية لليوان، الرينمينبي، عملة البلاد). عمليّاً، يقرّر الموظّفون تخصيص المبالغ والأموال من دون احترام معايير واضحة ولا اعتماد إجراءات نظامية. وفي الواقع ينزع هذا النمط من العمل إلى إراحة أولئك الذين يعتبرون أنّه ليس بالامكان حلّ أي مشكلة إن لم تُثَر الاضطرابات. حتى أنّه يدفع البعض إلى التقدّم بمطالب غير المشروعة أو غير منطقيّة، وذلك لإجبار الإدارة على الاستسلام تحت الضغط. وكلّ هذا يساهم في إشاعة الالتباس، ويحلّ مكان تقييم الأوضاع بشكل جيد، ويقلب معايير المجتمع كلّه حول ما هو صحيح وما هو خطأ. وهكذا تتزعزع الصورة التي يجب أن تجسّدها الحكومة كالضامن المعنوي والممسك بالعدالة الاجتماعية. آن الأوان للتخلّص من هذا المفهوم الجامد جدّاً عن الاستقرار واستكشاف طريق جديد من أجل ضمان السلم الاجتماعي.
يجب من أجل ذلك الشروع في السعي إلى فهم التناقضات الاجتماعيّة. فالنزاعات التي ظهرت في السنوات الأخيرة تعود أساساً في قسمٍ كبير منها إلى مصادرة الأراضي وهدم المنازل وعدم دفع المعاشات المستحقّة للعمال المهاجرين أو إلى الخلافات المختلفة في قضايا العمل. كلّ هذه المشاكل إذن قائمة على تضارب المصالح. والحال أنّه منذ زمن طويل نزع مختلف المسؤولين إلى إعطاء هذه الخلافات بعداً إيديولوجياً، بغية تحويلها بطريقة متطرّفة إلى مشاكل سياسيّة من شأنها أن تهدّد حتّى أسس النظام نفسه. من المهم جدّاً بالتالي العمل على الاعتراف بأنها على العكس ذات أساس منطقيّ. فإذا كان من الصعب غالباً أو حتى من المستحيل حلّ التناقضات ذات الطابع السياسيّ أو الديني أو الإيديولوجي، فإنّ المواجهات المرتبطة بالخلافات المصلحيّة بين الطبقات الاجتماعية يمكن التفاوض عليها وإيجاد الحلول المناسبة لها على أساس تسويات أو تدابير. ونادرة هي هذه الخلافات المصلحية التي قد تفضي إلى اضطرابات اجتماعية كبيرة.
لا يمكن أبداً استبعاد هذا النمط من النزاعات كلّياً. فمن المناسب إذن وضع القوانين وابتكار الوسائل وفتح قنوات مؤسّساتيّة لإيجاد الحلول. ولذلك من المهمّ جدّاً تحاشي تجاهل طبيعة هذه النزاعات، عبر اعتبارها أزمات سياسيّة تهدّد الاستقرار الاجتماعيّ.
يواجه بلدنا العديد من الصعوبات ومنها ما هو جدّي جدّاً: مثل الفساد، والفروقات بين الأثرياء والفقراء، ووجود شرائح اجتماعية مظلومة. وإذا لم تحلّ بالشكل المناسب، فمن شأنها أن تتسبّب بأزمة سياسية خطيرة. وحتى ولو كان التحدّي المرفوع مهمّاً، فإن النزاعات ليست على درجة يمكنها أن تهدّد المجتمع، كما أنّها لا تؤّثر على النزعة العامة التي ترى أن الشعب يتطلّع إلى حكم جيّد وإلى الاستقرار.
في الوقت نفسه، يجب أن نتخلّص من توهّم عدم الاستقرار. فهذه الفكرة الواسعة الانتشار تستند على الأرقام الرسمية والدراسات التي أجريت على المستوى الوطني، والتي أشارت إلى تزايد لافت في الاضطرابات. والحال أن هذه الاحصائيات تخلط في الحقيقة بين الصحيح والخاطيء. فالعديد من الأقسام والهيئات يستندون في حساباتهم على تحقيقات تشمل وقائع من الحياة اليومية أو النزاعات القليلة الأهمية. فما يحدث غالباً أن بعض الخلافات العابرة بين طلاب المدارس أو احتجاجات التلامذة في مدرسة ثانوية على نوعية الطعام يتمّ إحصاؤها كعامل “عدم استقرار”. فعندما توضع كلّ هذه الظواهر جنباً إلى جنب وتجمّع، نصل في الواقع إلى أرقامٍ مثيرة للدهشة.
إلا أنّ هذه “الحوادث الجماهيرية” تخلط بين وقائع شديدة الاختلاف بطبيعتها وغالباً لا علاقة مباشرة لها بمسألة الاستقرار. من جهة أخرى، إن انعدام الاجراءات والقوانين الفعالة من أجل إدارة النزاعات يولّد حساسيّة زائدة، لدرجة أنّ نقاشاً بسيطاً يصبح أحياناً مستحيلاً. وليس من شأن نمط التفكير المتيبّس والطرائق البالية التي ما تزال تستعمل سوى تسميم الأجواء والتسبّب عمليّاً بحالة خوفٍ معمّمة. فإذا أمكننا التخلّص من كلّ “عوامل عدم الاستقرار” المغلوطة هذه، نصل إلى توضيح الظروف القائمة؛ كما أنّ الكثير من التحقيقات قد برهنت أنّ عدم وجود آليات تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب هو وراء عدد كبير من النزاعات العنيفة.
وقد صرّح رئيس الوزراء ون جياوباو في التقرير الذي قدّمه أمام الجمعية الشعبية الوطنية في العام 2010 قائلاً: “كلّ ما قمنا به كان من أجل السماح للشعب بأن يعيش حياةً أكثر سعادة وأكثر كرامة وللوصول إلى مجتمع أكثر عدالة واكثر تجانساً”. ولهذا السبب بالضبط يجب أن يقضي المنطق الجديد بتطبيق الدستور الذي يمنح المواطنين الكثير من الحقوق. فقط عندما تُضمن هذه الحقوق، يمكن التوصّل إلى تحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة، وفقط بهذا التوازن يمكن ضمان الأمن الاجتماعي. ذاك هو الخيار الذي يجب السير فيه. أي بكلامٍ آخر إنّ الدفاع عن الحقوق يعني بالضبط الدفاع عن الاستقرار.
للنجاح في هذه المهمة، يجب بدرجة أولى تغيير وتقليص صلاحيات الحكومة المحلّية في التدخّل المباشر، وتحاشي بروز هذه الحكومة في الخطوط الأولى عندما تنفجر بعض النزاعات الاجتماعية، وتعزيز دورها كمفاوض وكحكم في هذه النزاعات.
وبدرجة ثانية، يجب تمتين آليات الحكم وتحسينها بطريقة تجعل اللجوء إلى القانون وإلى الحقوق هي الطريقة الطبيعية والفعّالة لحلّ الخلافات، وكذلك انشاء قنوات مؤسّساتية تسمح بالتعبير عن حالات الاستياء في المجتمع، وأخيراً التشجيع على قيام جمعيّات مواطنية، وإيجاد آليّات أو بنى يكون الهدف منها هو العمل على حلّ النزاعات الاجتماعيّة.
وبطريقة عمليّة أكثر، من الملائم وضع ستّ آليات عمل مؤسّساتيّة وهي:
– ضمان الحق في المعلومة الشفافة والكاملة في ما يخصّ المطالب والرغبات الاجتماعية والرهانات التي يطرحها حلّها.
– إنشاء أشكال تعبير مشترك لمختلف الشرائح الاجتماعية في المجتمع بغية جعلها أكثر تماسكاً.
– إيجاد نظام ملائم لكي يتمكّن المواطنون من التعبير والمشاركة في القرارات.
– تنظيم وسائل ضغط وخصوصاً للأكثر حرماناً الذين لا يملكون الرأسمال الاجتماعي للتأثير على القرارات.
– إقامة مساحات تنسيق وتفاوض من خارج الحكومات المحلّية، تترك للمجتمع القيام بالخطوات الأولى في اتّجاه الإدارة الذاتيّة والتنظيم الذاتي.
– تشكيل هيئة تسوية نزاعات وتحكيم بإشراف الحكومة والقضاء.
هذه الآليات الستّ مترابطة ومتكاملة وضروريّة كما الطوابق في العمارة الواحدة. أضف أنّ وجود منظّمات اجتماعية فعّالة يجب أن يساعد في التقليل من النزاعات كما في المساعدة على حلّها.
إذ لا يكمن الفرق بين إدارة اجتماعيّة جيدة أو سيّئة في وجود النزاعات أو عدم وجودها، بل في القدرة على التساهل فيها وحلّها. وفي الواقع أنّ النظام الحسن ليس ذاك الذي يستبعد التناقضات، بل الذي يظهر قدرته على تحمّل الخلافات وعلى إيجاد الحلّ لها في إطار مؤسّساتي.
نحن ندرك تماماً أنه عندما تصير مختلف الشرائح الاجتماعية قادرة على التعبير عبر الوسائل القانونية عن مطالبها الشرعية، وخصوصاً عندما تجد المصالح الجماعية أيضاً إطارها التعبيري الطبيعي، فإن مجتمعنا قد يواجه مرحلة فوران (jingpen qi) النزاعات الاجتماعيّة. فالكلّ سيريد أن يعبّر عن نفسه، ويجب عندها مواجهة هذا الوضع غير المسبوق. هذه المسألة الحسّاسة يجب أن تدرس في العمق عند إقامة النظام الجديد، من دون الاستخفاف بها إنما من دون الهوس بها أيضاً.
بدءاً، ليس مردّ ظاهرة الفوران هذه إلى آلية عمليّة التحوّل: فقنوات التعبير الجديدة ستسمح بإخراج النزاعات الاجتماعيّة التي كانت محجوبة من قبل، وستوفّر فرصة حلّها بشكل فعّال. ولاجتياز هذه المرحلة بالطريقة الأكثر سلمية، يجب تحضير إجراءات انتقالية منطقية وواقعيّة. يمكن هكذا تصوّر إجراءات مختلفة الأنواع تبعاً لمبدأ بسيط: من أجل تسوية المشاكل القديمة يجب اللجوء إلى أنماط حلول مركزية، بحسب السياسات القديمة؛ ومن أجل تسوية المشاكل الجديدة نستعمل الآليات المؤسّساتية لتسوية النزاعات.
بعد ذلك، ومن أجل تفادي الصدمات العنيفة جدّاً، من الممكن تصوّر مقاربة متدرّجة متحرّكة، من الأعلى إلى الأسفل، وخصوصاً من أجل وضع آليّات تعبير وضغط. ويجب الحرص على تأهيل كل واحد، من الحكّام إلى المحكومين، وذلك لكي يعوا أهمّية الآليّات الجديدة ولكي يتقنوا الطرق القانونية لحلّ النزاعات الاجتماعية. ويمكن، كتحصيل حاصل، محاولة القيام بتجارب رائدة عبر اختيار نزاعات ذات صدى كبير من دون أن تكون خطيرة على المجتمع، من التي تجري في أماكن نضجت فيها الشروط نسبيّاً. وهذا ما سيساعد في تحفيز الموظّفين من مختلف الرتب وكذلك البلاد بمجملها. فالتطوّر السريع للاقتصاد الوطني يوفّر موارد ماليّة من أجل حلّ المواجهات الاجتماعية بالطرق المؤسّساتية. والاستقرار الأساسيّ للإطار السياسيّ يسمح من جهته بالتقدّم في حلّ هذه القضايا.
الأكثر أهمّية أيضاً، بالرغم من كون بنية المجتمع الصيني تتميّز اليوم بالفروقات المتزايدة بقوّة بين ظروف عيش الشرائح الاجتماعية، وبالرغم من أن هذه الفروقات تزداد حدّة والتناقضات تتعقّد، فإنّ الغالبية الكبرى من الشعب لا تتمنّى أن يمرّ حلّ هذه المشاكل عبر انفجار العنف ولا عبر الاضطرابات.
يجب اعتبار القانون أساس، في ظلّ ظروف اقتصاد السوق، وما يلزمنا هو المضيّ في وضع نظامٍ يأخذ بعين الاعتبار التعبير عن المصالح والملاءمة بينها، وإرساء الأسس التي يمكن أن نركّز عليها سلاماً اجتماعياً مستداماً.
ستّ اقتراحات
يمكن إرساء ست آليات مؤسساتية، كلّ واحد منها له منطقه الخاص، لكنّ يترابط مع الآليات الأخرى.
1. تسمح الآلية الأوّلى بالحصول على المعلومة الصريحة والشفافة والصادقة والكاملة والموضوعية، والتي بفضلها يمكن للمواطنين أن يفهموا المصالح القائمة لدى مختلف الشرائج المعنيّة وأن يأخذوا ساعة يشاؤون القرارات ذات الفائدة العامّة، مع ضمان مصالح الفرقاء في الوقت نفسه. وتعمل هذه الآلية على أساس مبادئ تداول مفتوح للمعلومات حول القضايا العامّة المشتركة وضمان الحق في الحصول على المعلومة، بدءاً من الحصول عليها إلى قراءة الوثائق غير السرية بمشاركة الجمهور العام.
2. تساهم الآلية الثانية في تحقيق تماسك المطالب المرتبطة بالمصالح الخاصّة والمتباينة بالتالي. وبقدر ما هناك فروق كبيرة بين المجموعات الاجتماعية في ما يخصّ الموارد المالية ووسائل التعبير التي يملكها كل فرد، يصبح أيّ تنظيم جماعي للتعبير عن الرأي وللتواصل أو للتفاوض مفيداً طبعاً للدفاع عن الشرائح الاجتماعية الأكثر تهميشاً. وقد برهنت التجربة أنه عندما تصبح المصالح متماسكة يصبح من الأسهل التوصّل إلى حلّ عبر إجراء التفاوض والتحكيم.
3. يجب وضع نظام مناسب يسمح للمواطنين بأن يعبّروا بطريقة فعّالة وان يزيدوا من المساهمة العامة في بعض المجالات مثل الاستماع والتعبير عن الرأي والإشراف واجتماعات تقديم الخلاصات عن كلّ المسائل ذات المصلحة العامّة. وفي الوقت نفسه من المناسب ضمان التعبير عن المطالب في وسائل الإعلام الجماهيرية.
4. المطلوب أيضاً هو إيجاد آلية أخرى تسمح بابتكار وسائل ضغط. فالمجموعات الاجتماعية ذات الموارد المالية المقبولة تملك حالياً وسائل التعبير للدفاع عن مصالحها، والمفترض أن تملك المجموعات المهمشة هي أيضاً آلية ضغط فعليّة، في إطار قانوني بطبيعة الحال.
5. يجب أيضاً تشكيل آلية للمراجعة والتفاوض، وبفضلها يمكن للمجموعات الاجتماعية أن تنجح بنفسها في حلّ الصعوبات بطريقة عادلة وفعّالة. وهكذا سيخطو المجتمع خطواته الأولى نحو الإدارة الذاتية والتنظيم الذاتي. وفي هذه الأثناء ليست الحكومة بحاجة إلى التدخّل في هذه الشؤون، وهو ما سيقلّص من أعبائها الإدارية ومن كلفة إنفاقاتها. ومن الملحّ منذ الآن وضع مبدأ التفاوض قيد التنفيذ بين الفرقاء الذين يمثلون رأسمال وأولئك الذين يمثلون العمال.
6. يجب تشكيل آلية وساطة وتحكيم لكلّ الحالات التي لا ينجح فيها الفريقان المتعارضان في التوصّل إلى تسوية. ويجب أن يعود دور الحكم النهائي في هذه الأمور إلى الحكومة والأجهزة القضائيّة. في إطار نظام من هذا النوع، يمكن للحكومة، حتّى وإن لم يكن عليها التدخّل مباشرة في هذه القضايا من أجل تسوية كلّ الأمور، أن تلعب في المقابل دوراً مؤسّساتيّاً من أجل تسهيل المفاوضات وأن تكون الضامن في نهاية المطاف للنتيجة النهائيّة.
ولكي تسير كل هذه الأمور من الضروري أن تترابط هذه الآليات الستّ بعضها ببعض وتعمل معاً بشكلٍ متزامن.