40 عاماً على زيارة كيسينجر الصين: ما الذي تغيّر؟
صحيفة الأخبار اللبنانية:
حسام مطر:
يصادف هذا الشهر مرور أربعين سنة على زيارة هنري كيسينجر السريّة للصين. زيارة مهدت لاحقاً لزيارة الرئيس الأميركي نيكسون، وهي خطوة أفضت الى أحد أهم تحوّلات الحرب الباردة، إذ نجحت الولايات المتحدة في إخراج الصين من الفلك السوفياتي، بل وجعلتها شريكاً في احتواء الخطر الأحمر. كذلك يصادف الأول من هذا الشهر الذكرى الـ90 لولادة الحزب الشيوعي الصيني الذي بدأ يعود لأغانيه القديمة كتلك المسماة «الشرق كلّه أحمر»، في ظل الصعود الجارف للقوة الصينية على الساحة الدولية. مذّاك تغيرت الساحة الدولية كثيراً، لدرجة أنّ الصين ذاتها حلّت مكان الاتحاد السوفياتي في الصراع مع الولايات المتحدة. لكن رغم كلّ هذا التغير، عادت الأسئلة التي كانت تطرح لفهم طبيعة العلاقة السوفياتية ـــــ الأميركية لتتردد اليوم في شأن العلاقة الصينية ـــــ الأميركية.
هل يبقى الصعود الصيني سلمياً؟ هل تحلّ الصين مكان الولايات المتحدة قوّة هيمنة دولية؟ هل يطغى التعاون أم التنافس بين الصين والولايات المتحدة؟ هل يجب احتواء الصين أم دمجها في النظام الدولي؟ لكن الإجابة عن أفق العلاقات الصينية ـــــ الأميركية مرتبط مباشرة بالتحوّلات التي يشهدها الحزب الشيوعي الصيني المهيمن كلياً على عملية صنع القرار السياسي الصيني.
يبدو الحزب بحلول ذكرى ميلاده الـ90 ـــــ ومعه الصين ـــــ رغم مظاهر تألقه، يعيش جملة من عوارض شيخوخته، إذ يبدو «فاقداً للحزم، خائفاً، يختبر طرقاً لإطالة العمر، إلا أنّه محاصر بهواجس إدارة وضبط هذه الحياة»، كما يقول دافيد شامبوغ. يواجه الحزب في حكمه للصين تحديات وتهديدات عدّة، من تمرد الأقاليم الإثنية، الاضطرابات الاجتماعية، الاقتصاد الوطني، والعلاقات الخارجية، والأهم عملية التغيير المرتقبة في قيادة الحزب في 2012.
يعيش الحزب الشيوعي الصيني حالة قلق وخوف من أيّ تحوّلات ليبرالية داخل المجتمع الصيني ـــــ لا سيما بعد ثورات العالم العربي ـــــ نتيجة تغيّر النمط الاقتصادي للمجتمع الذي أنتج حالاً من الرفاه والنمو المدني وتطوّر الحركات العمالية والاتحادات النقابية. لا يزال النظام الصيني مسكوناً بهواجس سقوط الأنظمة الشيوعية خلال التسعينيات، ولذا يتمنع الحزب عن القيام بأيّ إصلاحات سياسية، خوفاً من انفلات المجتمع الصيني من قبضته الحديد. لذا، يسعى بدل ذلك الى تمتين المؤسسات القائمة التي تحاكي النمط السوفياتي الذي يضمن سيطرة الدولة على مفاصل المجتمع. إنّ بنية كهذه يمكن ان تنتج مشاكل مستقبلية، إلا أنّها ـــــ كما يعتقد الحزب ـــــ تضمن تأجيلها إلى ما بعد تمكن الصين من إحكام سيطرتها الدولية، وهو ما يطلق عليه إندرو والدر «استراتيجية الإمساك».
تلك القبضة الحديدية للحزب، يعززها خضوعه في السنوات الأخيرة لتحالف يجمع المؤسسة الأمنية، الشركات العامة الاقتصادية الضخمة، أجهزة الدعاية السياسية، والعسكر، وقد انضم هذا الحلف الى متطرفي الحزب لمنع أي إصلاحات تتيح مشاركة أوسع داخل الحزب وخارجه. بناءً على كلّ ذلك، يتزايد عدد المتشائمين في واشنطن ممن يحذرون من أنّ الصعود السلمي للصين لن يدوم طويلاً، وأنّ الصدام بينها وبين الولايات المتحدة حتمي ولا مفر منه، وعلى هذا الأساس يجب ان تبنى استراتيجية واشنطن تجاه الصين. يرى هؤلاء أنّ خطوة كيسينجر منذ 40 عاماً قد انتهت مفاعيلها، ولم تعد صالحة لهذه اللحظة الدولية، فاليوم تحتاج الولايات المتحدة الى استخدام استراتيجية «الاحتواء السوفياتية» تجاه الصين.
في المقابل يبرز تيار أميركي معارض لفكرة الصدام مع الصين، بناءً على افتراضات مختلفة. مثلاً هناك مقاربة جوزيف ناي التي ظهرت في 1994، أثناء إشرافه على مراجعة استراتيجية البنتاغون لشرق آسيا. وهي مقاربة ترفض احتواء الصين لسببين، أولاً لأنّ ذلك سيحوّلها حتماً الى عدو، وثانياً لصعوبة إقناع الدول الآخرى بالاشتراك في هذه السياسة، ما لم تقم الصين بدفعهم الى ذلك عبر سياسة عدوانية توسعية. فالصين وحدها يمكن أن تحتوي الصين. من جهته، يؤيد قائد هيئة الأركان الأميركية مايك مولن في مقالة نشرتها له صحيفة «نيويورك تايمز»، بعنوان «خطوة نحو الثقة تجاه الصين»، ضرورة أن يبني الطرفان «ثقة استراتيجية» من خلال الحوار والتركيز على القضايا المشتركة، مما من شأنه تقليص سوء الفهم والشكوك والنوايا السيئة بين الطرفين، ويؤسس لعلاقات تكامل وتعاون بدل الصراع والمنافسة.
كذلك يظهر تيار آخر في الإطار ذاته، مستنداً الى أنّ الخطر الصيني مبالغ فيه نتيجة التناقضات الداخلية. والصين، رغم صعودها، محكومة بتوازن إقليمي دقيق، يضاف إليه ارتفاع مستوى الإحساس بالخطر والتهديد لدى الدول الواقعة في محيطها الحيوي، نتيجة ارتفاع عدائيتها نحو جيرانها، كما في قضية بحر الصين الجنوبي.
كذلك تظهر طروحات اخرى كتلك التي قدمها ريشارد بوش التي ترى أنّه رغم توجه الصين نحو احتلال المرتبة الأولى اقتصادياً، فإنّ ذلك يثير نقاطاً هامة: اولاً لا يؤدي ذلك آلياً الى نفوذ سياسي عالمي على مستوى «قوة هيمنة عالمية». ثانياً، لا ينتج بالضرورة شدّة وعدوانية عسكرية. ثالثاً، ليس بالضرورة ان ينتج ذلك صراعاً دولياً، وإذا حصل الصراع فليس بالضرورة لأنّ القوة الصاعدة كانت عدوانية، بل ربما نتيجة سعي قوة الستاتيكو لتوجيه ضربة استباقية.
بكل الأحوال، تتراوح خيارات الصين في ظلّ صعودها بين مسارات أربعة: أن تعتقد أنّ لها الحق في التمدد والتوسع على حساب الآخرين، أو أن تبقى مهتمة بالبعد الاقتصادي الداخلي، وإما أن تختار العمل مع القوى العظمى الأخرى، لمواجهة التحديات الدولية، أو أن تبني سلوكها على افتراضات سيئة بشأن الآخرين، لا سيما الولايات المتحدة، وتتصرف بعدائية بناءً على مشاعر الخوف وفقدان الثقة.
بعد أربعين عاماً، لا يستطيع كيسينجر وهو ينظر الى الصين اليوم إلا أن يستذكر إحدى مقولاته بأنّ «التاريخ لا يعرف الاستراحة أو الهضاب»، فيما يبدو الحزب الشيوعي الصيني أيضاً مقتنعاً بهذه المقولة، إلا أنها تخلق فيه مشاعر متناقضة، ففي الداخل هو مسكون بالقلق، أما في الخارج فمسكون بالطموح. يبدو أنّ أكثر ما يخيف الحزب الشيوعي الصيني هو الصين نفسها، إذ يعرف الشيوعيون الصينيون أن أغلب من في عمر الـ90 لا يموتون قتلاً، بل بأمراض داخلية.