موقع الصين بعيون عربية ـ
إعداد أحمد ستار العكيلي*
أعلنت الصين تبنيها “اقتصاد السوق الاشتراكي”، وهو الربط بين الاشتراكية والسوق، وادخال الاستثمار الاجنبي الخاص والمشترك وآلياته إلى الصين في مناطق شرق وجنوب البلاد، وباشر الصينون في تطبيق برنامج الاستثمار والتنمية والتحول الاقتصادي ليشمل شمال وغرب الصين.
ويصف الصينيون تجربتهم في “اقتصاد السوق الاشتراكي” على انها نظام يقوم على اساس اقتصاد السوق ودولة الحزب الشيوعي، هذا الاقتصاد يؤسس على نظام الملكية العامة لوسائل الانتاج وبقيادة النظام السياسي للحزب الشيوعي وتجنب أي تغيير سياسي في الدولة والسلطة، على الرغم من وجود 8 أحزاب سياسية أخرى مشاركة في إدارة الدولة، إلا أن القرار السياسي يتخذ بالتشاور.
هذا النظام الاقتصادي، الذي يتعايش فيه مختلف اشكال الملكية جنبا الى جنب، يحاول من خلال “اقتصاد السوق الاشتراكي” أن يتخطى اساسا حدود الرأسمالية، أي أن يضمن العدالة في المجتمع بالاعتماد على الكفاءة الاقتصادية، وأن يكون اقتصاد السوق وسيلة لخدمة الناس في تبادل منتجات العمل، لكن تبقى القيمة هي العتلة أو الحافز في التقدم الاقتصادي، وهذا يؤدي الى استقطاب اجتماعي، ويرفض الصينيون اعتبار ذلك شكلا او محفزا للصراع الطبقي لأنه يتناقض مع نظرية دينغ شياو بيغ في الاصلاح والانفتاح، بل اعتبر ذلك شكلاً من أشكال التسوية المجتمعية.
ومن المعروف أن النظام الاقتصادي الأساسي يتقرر بعلاقات الإنتاج، وقد سادت الملكية العامة لوسائل الانتاج، وفي المرحلة الأولى للتجربة الصينية، أي بعد انتصار الثورة الصينية في عام 1949 وما أثبتته توجهات وخطط الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ والخطط الخمسية للدولة، إلى جانب القطاعات الاقتصادية الاخرى في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات. ويعتقد الشيوعيون الصينيون ان التوجه “اقتصاد السوق الاشتراكي” باعتباره آلية اقتصادية معناه هو الانتقال من الاقتصاد المخطط المركزي الى اقتصاد السوق، الذي يتم استخدامه لانجاز اهداف اشتراكية بسيطرة الدولة الصينية وحزبها الشيوعي على الانتاج والتوزيع للسلع. ويلعب السوق دورا اساسيا في الاصلاح والانفتاح على العالم ولم يختف عنه البعد التخطيطي وله قوة ادارية تفوق العديد من البلدان الرأسمالية، ويزعم البروفسور يانغ ان النظام الاقتصادي الاساسي للاشتراكية ذات الخصائص الصينية يضمن العدالة في المجتمع.
وقد تم إدخال الإصلاحات على الاقتصاد والانفتاح على الاستثمار الخارجي في الصين وتقديم التسهيلات في انجاز المشاريع وفق القوانين والضوابط المرعية في مؤسسات الدولة، وتحويل أراضي الكومونات الشعبية إلى ملكيات عائلية أو مختلطة، والسماح بالملكية الخاصة للأراضي ولوسائل الإنتاج، وإقامة مقاولات فلاحية مختلطة بين الدولة والقطاع الخاص، وتم السماح باستيراد التكنولوجيا من الخارج كالآلات، والمواد الاولية والخام والطاقة وغيرها.وجرى التخفيف من احتكار الدولة للنشاط الاقتصادي، والسماح بإنشاء مقاولات خاصة في قطاعي الصناعة والتجارة، وظهور المؤسسات المختلطة ذات الرأسمال الوطني الصيني والأجنبي، وإعادة تنظيم مقاولات الدولة بمنحها الاستقلال المالي والإداري، وتشجيع التبادل التجاري مع الخارج بعد الانخراط في منظمة التجارة العالمية، وإعطاء حوافز لجلب الاستثمارات الأجنبية إلى الصين.
ـ هل الصين رأسمالية أم اشتراكية؟
إن قيادة الحزب الشيوعي الصيني وسلطة الدولة متمسكة بالقيم الاشتراكية على الطريقة الصينية وخاصة في المساواة وحق الفلاحين في الحصول على الارض. وان الاشتراكية تبنى لتحرير الانسانية من الاستغلال وتسخير أي تراكم لتطوير المجتمع وهذا يرتبط ايضا بقضية الديمقراطية وجدليتها مع البناء الاشتراكي. إن المشروع الحقيقي في الصين لاقتصاد السوق الاشتراكي هو اعادة بناء الهياكل الاساسية للرأسمالية ومؤسساتها مع تقليل وطأتها على الطبقات الاجتماعية وخاصة على العمال والفلاحين. وقد اثبتت التجارب السابقة ان الوصول الى الاشتراكية طريق طويل يحتاج الى خلق اشكال من الملكية الجماعية وتطويرها في عملية التطور الاجتماعي، وان تلعب الدولة دورا حاسما، ولا يعني استبعاد الاشكال الاخرى للملكية مع تحديد اسلوب عمل كل ملكية والجمع بين التراكم الرأسمالي وتفعيل قيم الاشتراكية وخاصة المساواة والرعاية الاجتماعية والخدمات وتعميق الديمقراطية.
ومن نتائج سياسة الاصلاح والانفتاح الاقتصادي في الصين يتضح النمو السريع للملكية الخاصة لوسائل الانتاج الذي ادى الى نوع من الاستقطاب الاجتماعي حيث تراجع دور القطاع العام الذي تمتلكه الدولة الى 32,1 في المئة فيما زاد القطاع الخاص الى 55 في المئة فضلا عن القطاع المختلط والفردي، والاستثمارات الاجنبية، وتفاوتت نسبة الدخول العالية والواطئة، وزاد التفاوت بين الريف والمدينة، وان 20 في المئة من السكان صاروا اكثر فقرا، وان هناك أكثر من 70 مليونا يعيشون تحت خط الفقر المحلي بأقل من 300 يوان (200 ) دولار.
ويرى الصينيون بما فيهم الشيوعيون أن المشروع الحقيقي لـ “الطبقة الحاكمة” الصينية ذو طبيعة رأسمالية، ولكنهم لا يعترفون بطبقة رأسمالية انما ” فئة” لا تتدخل بالشأن السياسي للبلد ولا تتخذ قرارات حاسمة لمستقبل الدولة والمجتمع، بل لديها مزايا اقتصادية فقط، وبذلك تكون “اشتراكية السوق” مجرد طريق مختصر لبناء الهياكل الأساسية للرأسمالية ومؤسساتها، ومن المؤكد ان الوضع الذي تشهده الصين منذ ثلاثة عقود ونيف هو نتاج ميول عميقة ولميزان قوى طبقي ولخط سياسي يندمج بميزان القوى ويفعل فيه.
ـ التحديات الجديدة للنظام السياسي والحزب الشيوعي:
يبلغ سكان الصين اكثر من 1,370 مليار نسمة، وما زال مستوى دخل الفرد متدنيا، رغم ارتفاعه في السنوات الاخيرة. وما زال الطريق وعرا، وتعاني الصين واقتصادها وإدارة الدولة صعوبات وأزمات منها تلوث البيئة ومشاكل التنمية غير المستدامة وعدم التوازن بين الريف والمدينة، فبعد 30 عاما دخلت الصين مرحلة حاسمة، وتواجه مهمتين: الأولى ان يكون عام 2020 ، الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، عاما للوصول الى انجاز( مرحلة بناء مجتمع رغيد الحياة) ، والمهمة الأخرى ان يكون عام 2050، وهي الذكرى المئوية لتأسيس الصين الحديثة بعد الثورة، هدف بناء دولة متقدمة على المستوى المتوسط. ولذا باتت هاتان المهمتان اهداف الشعب الصيني لانجازهما عبر الاشتراكية ذات الخصائص الصينية. ويرى الصينيون ان ذلك يتلاءم مع ظروف الصين في مجال النظام السياسي ونظام اقتصاد السوق والثقافة والايديولوجيا الصينية في تحقيق بناء الأمة والدولة الصينية الديمقراطية الحضارية المتنامية. وتلقى هذه المهمات والأهداف التشجيع المستمر من الفئات الاجتماعية والقوى السياسية للعمل على تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
ـ أربعة تحديات امام الحزب
يواجه الحزب أربعة تحديات تتلخص في :
1/التخلص من التراخي والترهل على المستوى المعنوي السائد لدى أوساط مجتمعية غير قليلة بسبب طول فترة حكم الحزب، وعدم قدرة اعضائه على التعرّف على مشكلات الحزب الحقيقية وضعف قناعاتهم.
2/عدم وجود القدرة والكفاءة المطلوبتين ارتباطا بطبيعة المرحلة والتحديات الجديدة لدى أعضاء وبعض كوادر الحزب.
3/ابتعاد جزء من أعضاء الحزب وكوادره عن الجماهير وظهور ميول ونزعات انعزالية عن الجماهير وعدم الاحتكاك بها ومعرفة حاجاتها الضرورية.
4/الفساد في أوساط داخل الحزب أو لدى حزبيين في داخل مؤسسات الدولة. ان لقيادة الحزب وعياً ومعرفة بهذه الظاهرة وخطورتها، وتتخذ جملة من الإجراءات الحزبية في اعادة بناء الحزب وادارته بشكل صارم، ومكافحة الفساد بقوة وشدة، وتنويع آليات العمل، وتشديد الرقابة الحزبية ومحاسبة المفسدين، وقد تمت محاسبة حزبيين و (100) من مسؤولين حكوميين بمستوى وزير ومسؤول مقاطعة (محافظة).
ـ خمس مدارس فكرية:
وحول التناقض في التجربة الصينية تظهر خمس مدارس فكرية تدخل في جدل واسع لتحديد معالم وجوهر التحولات الاقتصادية والاجتماعية:
1/المدرسة الاولى ترى أن الصين اشتراكية وفي “المرحلة الابتدائية من الاشتراكية” وتسير في طريق “اشتراكية ذات خصائص صينية”، مع التمسك بقيادة الحزب الشيوعي الصيني ، وتحتاج الى اجيال اخرى.
2/المدرسة الثانية تعتقد ان الصين استعادت الرأسمالية، وان نظرية دنغ شياو بينغ تحريفية ، وهم يرفضون تجربة “اقتصاد السوق الاشتراكي” لانها تقوم على الملكية الخاصة وعلى المنافسة والاستغلال والاستقطاب مما زاد من معاناة العمال والفلاحين وتنامي الفساد وتعمق التفاوت الاجتماعي وزيادة حدة الصراع الطبقي.
3/المدرسة الثالثة تنظر الى الصين على انها في مرحلة التراكم الأولي وتحمل عناصر الرأسمالية البيروقراطية والكومبرادور، ويرون ان في الرأسمالية الكثير من الاخطاء لكنها وفرت المرحلة الاكثر تقدما في تأريخ الانسانية، وتعبّر عن عدم قناعتها لأن الصين شجعت الاصلاح الاقتصادي وأهملت الاصلاح السياسي، علماً ان الاصلاح السياسي يوفر الحريات والشفافية.
4/المدرسة الرابعة ترى ان “عصر الاصلاح” طور مبكر للانتقال من الاشتراكية التقليدية الى الاشتراكية الديمقراطية التي بدأها ماو وستالين، وهم متأثرون بأفكار لوكاش وغرامشي، ويدعمون الاصلاحات الاقتصادية الصينية كخطوة اولى ، والخطوة الثانية العمل من أجل نظام سياسي تنافسي.
5/المدرسة الخامسة تتكون من باحثين يرون ان الصين تمر بفترة انتقال من انتصار الثورة الديمقراطية الى الاشتراكية وتعتمد رؤيتهم على فرضية ماركس في انتصار الثورة البروليتارية في عدة اقطار في آن واحد حيث التقدم الرأسمالي ومن ثم الهيمنة على السلطة وتحويل الملكية الخاصة الى الملكية العامة ومحو الفوارق الطبقية.
ـ الخلاصة:
1/بدأت الإصلاحات على المستوى الاقتصادي في التحول إلى سياسة السوق وتعظيم دور القطاع الخاص والتصالح مع النظام الاقتصادي العالمي، وجذب الاستثمارات الخارجية، والتنمية التدريجية للطبقة الرأسمالية على حساب القوى الاجتماعية الأخرى.
2/استمرار دور الدولة ومؤسساتها في العملية الانتاجية وتحديد الوجهة الاقتصادية.
3/تراجع الدور السياسي أمام توسع الاصلاحات الاقتصادية.
4/زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وبين الريف والمدينة، وزيادة نسبة التلوث البيئي.
5/ارتفاع البطالة في بعض القطاعات وتدهور الرعاية الاجتماعية.
6/تنامي طبقة الرأسماليين المحلية المرتبطة بمصالح دولية.
7/ارتفاع مديونية الصين ارتباطا بالأزمة المالية العالمية.
…
* الاستاذ أحمد ستار العكيلي: كاتب وإعلامي وعضو في هيئة تحرير جريدة الغد، ومسؤول المكتب الاعلامي للحزب الشيوعي العراقي في البصرة؛ وعضو ناشط في (المجموعة الرئاسية العراقية الاولى – الأول من أُكتوبر-2016 الذكرى 67 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية) للفرع العراقي للاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء وحُلفاء الصين، ومساعد رئيس منتديات مستمعي الاذاعة الصينيةCRI ومجلتها “مرافئ الصداقة”، ومجلة “الصين اليوم” العربية.