حرير #الصين يقلب موازين #الفيليبين (العدد 79)
نشرة الصين بعيون عربية ـ الأكاديمي مروان سوداح*
نجحت التحليلات السياسية لقيادة جمهورية الصين الشعبية التي تنبّأت بتغيّر النهج السياسي لدولة الفلبين، وانقلابه رأساً على عقب، من مؤيد ونصير وحليف للولايات المتحدة، إلى ناقد شرس لسياستها وهيمنة قواتها على الفلبين ودول آسيا، وإلى مطالبة مانيلا بعلاقات عميقة مع الصين، بضمنها اقتصادية وسياسية، ما أضعف مكانة “أمريكا” في شرقي آسيا، وهزّ مواقعها بعنف، سيّما وأن واشنطن لم تكن تتوقع أن تتجاسر هذه الدولة الصغيرة والفقيرة ورئيسها للوقوف في مواجهة “الكابوي” المُزنّر بالصواريخ المُجنّحة والمدافع والقنابل الذرية والفراغية.
رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي، فَعَلَ ما لم يَفعله غيره من الرؤساء، في تقليم أظافر الولايات المتحدة وأذرعها الطويلة خارج أراضيها. فتصريحاته لم تكن متتالية وقاصمة وقاصفة فحسب، بل وتسلّحت بالوعيد والتهديد بأقسى المُفردات التي لم تعرف الدبلوماسية مثيلاً لها، والتي دأب على تكرارها عُتاة الثوريين العالميين.
ما لم تتوقعه الولايات المتحدة هو مظهر التقارب السريع ما بين الفلبين والصين، وتراجع مطالبات مانيلا وعواصم غيرها للسيطرة “الشاملة” على جزائر في البحر الجنوبي، وقبول اقتراحات الصين بالتعاون الجماعي في تلك الجزائر، وفي غيرها من الأراضي البحرية بالطول والعرض وبمختلف الاتجاهات، وضمن ألوان الصين وشعاراتها وأموالها، ما أفشل قرارات محكمة لاهاي ومساعيها لخلخلة الأمن الآسيوي والعالمي، ومعها تقهقرت التطلعات الامريكية في دول البحر الجنوبي، والتي هدفت إلى محاصرة الصين عسكرياً، وقطع طرق مواصلاتها البحرية الدولية، بل إنه شجّع الصين على تعزيز طريق حريرها الجديد – “الحزام والطريق” – ليشمل آسيا الجنوبية والشرقية وبحريها، والاندفاع لمزيد من تصليب التعاون الصيني الدولي والصِّلات النافعة مع دول الجزائر في المحيط الدولي، الذي لم يَعد يَرى في “العم سام” داعماً مالياً أو حامياً عسكرياً مع تتالي هزائمه على الساحة الدولية.
وتجدر الإشارة إلى أن المبادرة الصينية الكونية التي تشمل كل العالم، وبضمنه الأقاليم الشرقية والجنوبية المحاذية للصين ومنها الفلبين، بحوافز مادية ومعنوية وحضارية، تتناغم مع طريق الحرير الصيني التاريخي، وتبلغ تكلفتها 900 بليون دولار، كما أوضحت الصين نفسها، وهي بمثابة إقامة عصر ذهبي لتجارة القارات، لإفادة جميع الدول والشعوب. وبحسب المعلومات المُتاحة، ستقدم الصين نحو 8 تريليون دولار للبُنية التحتية في 68 بلداً، تُشكّل قرابة 65 بالمئة من سكان العالم، وثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ولقد كان من النتائج الإيجابية لتبريد العلاقات الفلبينية الصينية، تأسيس آلية تشاور ثنائية نصف سنوية لمعالجة قضايا وممرات بحر الصين الجنوبي، وقد شدّد الزعيمان الفلبيني رودريغو دوتيرتي والصيني شي جين بينغ قبل ثلاثة شهور تقريباً، على أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار وحرية الملاحة في تلك المنطقة وممراتها المائية الاستراتيجية، وكذا حرية التحليق فوق مياه البحر، كما نوّها إلى أهمية التعامل مع خلافاتهما الإقليمية والقضائية، من خلال الطرق السلمية، بدون اللجوء إلى التهديد أو استخدام القوة، وضمن آليات التشاور والمفاوضات الودّية بين الدول ذات السيادة المعنية بهذا الأمر بشكل مباشر.
كما تعززت العلاقات الصينية الفلبينية مؤخراً، بتصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، “لو كانغ”، الذي كشف عن تقاطع أهداف الفلبين والصين تجاه الإرهاب الدولي والحرب عليه، إذ أشار الى أن “الإرهاب عدو مشترك للبشرية.. الصين تفهم وتدعم بقوة قيادة الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي وحكومته في الحرب على الإرهاب”، وبيّن “لو”: “بالنسبة للعمليات التي بدأتها الحكومة الفلبينية على أراضيها، نرحب بمبدأ الدعم البنَاء من قبل المجتمع الدولي على أساس احترام رغبة الحكومة وسيادة الأراضي الفلبينية ووحدتها”.
العلاقة الأمريكية مع الصين ودول آسيا الشرقية تتسم بإشكالية كبيرة، ففيها تتداخل الكثير من الملفات التي تحتاج الى سنين طويلة وجهود وحكمة آسيوية عميقة لحلها أو للوصول الى خواتيم وسط بشأنها. فالإقليم الآسيوي بعيد جغرافياً عن قارة أمريكا الشمالية، والحلول الحربية لا يمكن ان تكون في صالح آسيا، بل في صالح “أمريكا” القصية، فهكذا كان الأمر في كل الحروب الكونية والاقليمية التي دمّرت الشعوب، لكن نهاياتها كانت في صالح أمريكا وخدمة لمصالحها الضيقة..
لكن إعلان الرئيس الفلبيني، رودريغو دوتيرتي، الخميس06 نيسان/ أبريل بنشر قواته على جَزائر مرجانية “متنازع عليها” في بحر الصين الجنوبي، مساحتها 4 كيلومترات مربعة فقط، ولا يقطنها أي إنسان، قد يُعيد الكرّة الى مواجهات ساخنة ما بين دول الاقليم، ويَقلب الطاولة على رؤوس شعوبها، ويصب في صالح مطامع الحرب الامريكية ونشر الدمار في شرقي آسيا.
العديد من دول شرقي آسيا تنشغل منذ سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، في مطالبات وتطلعات إقليمية تنسجم بطبيعتها مع سياسة التدخل الامريكية في ذلك الإقليم الاستراتيجي، والبعض الآخر من تلك البلدان بات يَعتقد بأفضلية تأجيل المواجهات تلاقياً مع الاقتراحات السلمية والاقتصادية الصينية، المتمحورة حول توظيف مزيدٍ من القدرات الصينية المُنتجة على أراضي تلك الدول، والحفاظ على ما تم إنجازه من استثمارات وخبرات صينية فيها، وهو ما يُفضي الى وقف هروب رؤوس الأموال الصينية الضخمة منها وعودتها الى الصين، موطنها الأصلي ومنبعها.
السياسة الاقتصادية الصينية تقوم على أسـس التعاون والإنتاج والكسب الجماعي، وهو نهج يتلاقى مع أماني ووقائع دول آسيا وشعوبها عموماً، بينما الهدف الأمريكي يقوم على الكسب من خلال إفقار تلك الدول وغيرها من دول الكون وتركيعها، وازدهار الاقتصاد الأمريكي “على حسابها”.
الموقف السياسي الصيني المبدئي وتصريحات الرئيس الفلبيني ومواقفه، تكشف عن إدراك عميق للأهداف التوسعية للمَجمع الصناعي العسكري الامريكي في رسم مسارات لتخليق حروب جديدة في شرقي آسيا، لإشغال الصين عسكرياً وتشتيت جهودها التنموية والاقتصادية الدولية. وإلى جانب ذلك، يُدرك الرئيس الفلبيني أن مواقف الصين تجاه بلاده ودول الجوار، إنما تتماهي مع المطالبات الجماهيرية للآسيويين في حياة مستقرة وكريمة، بعيداً عن أنماط الاقتصاد الغربي التي حوّلت الفلبين بفلبينييها وفلبينياتها إلى سوق دولي للعبيد والنخاسة المُعَاصِرة، وأعادت هذه الدولة الآسيوية الغنّاء إلى عصور القحط والغاب والأفيون المُعَصرن بوجه باسم!
السياسة الصينية الحكيمة وتطوّر التوجهات الفلبينية المُدرِكة للأهداف الكونية الأمريكية في استرقاق الشعب الفلبيني، هو بدايات ومقدمات لزلزال كبير وعميق للسياسة الخارجية لمانيلا تجاه بيجين وواشنطن، من شأنه أن يُعيد رسم خارطة التحالفات على مساحات آسيوية واسعة، ما يُفضي إلى خروج الولايات المتحدة من دائرة الصراع التي حاولت واشنطن استحداثها هناك، ذلك أن دخولها كلاعب أساسي هو الأقوى إلى شرقي آسيا لاختلاق مواجهة شاملة مع الصين ومحاصرتها، إنما كان عَبر بوابة ديمومة النزاع المُصنّع في مُختبراتها السياسية والاستخبارية، والذي تم تجفيفه ما بين الصين والفلبين.
*رئيس الإتحاد الدولي للصَّحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء وحُلفاء الصّين.
*المَقال خاص بالنشرة الاسبوعية لموقع الصين بعيون عربية.