“الصين كما رأيتها” في مشاهد جديدة: بكين الجميلة بين الماضي والحاضر والمستقبل
موقع الصين بعيون عربية ـ
محمود ريا:
شكلت “الدورة الخامسة لجولة مشاهير طريق الحرير في الصين”، التي تنظمها ـ مشكورةً ـ إذاعة الصين الدولية، فرصة لعدد من الإعلاميين والصحافيين والمصوّرين للتعرف عن كثب على منطقة مهمة جداً، تشكل ممراً إلزامياً لطريق الحرير القديم، ومفتاحاً حقيقياً لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، والتي سيؤدي إنجازها إلى ربط العالم ببعضه بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي كانت سائدة على مدى العقود الماضية، والتي كانت تعطي المنفعة للدول الكبرى المتسلطة على مقدرات العالم.
لقد كان لي شرف المشاركة في هذه الدورة من جولة المشاهير، برفقة أصدقاء بنيت علاقة طيبة معهم، من الأردن والسعودية، ومن تركيا وباكستان، ومن روسيا البيضاء ومنغوليا، ما شكل ترابطاً حقيقياً للنفوس وللنوايا الطيبة على طول الحزام الاقتصادي لطريق الحرير.
وقبل هذه الدورة، كان هناك أربع دورات من “جولة مشاهير طريق الحرير في الصين”، ضمت كل دورة منها عدداً من الإعلاميين والمهتمين بطريق الحرير من دول عديدة في أنحاء العالم، ومن ضمنها دول عربية، في خطوة تشكل محاولة صينية لتعريف مواطني هذه الدول بمحطات أساسية في مبادرة الحزام والطريق، بما يجعل هذه المبادرة جزءاً من حياة الإعلاميين في الدول المختلفة، والذين سينقلون تجربتهم بالتأكيد إلى متابعيهم في وسائل الإعلام المختلفة.
وما جعل الجولة القصيرة بأيامها أكثر أهمية مما هو متوقع هو عدد النشاطات التي تضمنتها، واللقاءات التي ضمتها. ولعل الأهم في الموضوع هو الجولة الواسعة التي قام بها الوفد في أرجاء مقاطعة سينكيانغ، أو شينجيانغ كما يلفظها أهلها، والتي قادته إلى كلّ من أورومتشي حاضرة المقاطعة، وإلى مدينتي شان شان وطوربان في الجنوب الشرقي، ومدينة كاشغر التاريخية في الجنوب الغربي.
ولكن حتى قبل الانطلاق إلى أقصى غرب الصين للبدء بالجولة على مقاطعة سينكيانغ، فإن ما شاهده الوفد في العاصمة الصينية بكين نفسها كان مقدمة للوصول إلى التعرف على معنى طريق الحرير والروح الكامنة فيه.
في بكين رأينا الماضي، من خلال زيارة متحف العاصمة، بطوابقه المتعددة، وبما يحويه من آثار تاريخية غنية، تمتد لما قبل التاريخ، وترافق المدينة على مدى قرون نشوئها وتطورها وتحوّلها إلى العاصمة المركزية لواحدة من أقوى دول العالم وأهمها في عصرنا.
وبين كل طبقة وأخرى في المتحف، كان هناك وقفة مع بدائع وعجائب، تعطي صورة واضحة عن قدم الحضارة الصينية ورقيّها وعمق المدنية فيها، وترسم صورة حقيقية لهذا الشعب الذي يستوحي ماضيه ليرسم حاضره ويبني مستقبله بكل دقة وإتقان.
وقبل الانتقال إلى المستقبل، لا بد من الوقوف عند محطة أخرى في الماضي، هي معبد السماء العظيم، وهو معبد يقع ضمن مساحة هائلة من الأشجار الخضراء، ويضم عدة مبانٍ أغلبها دائرية الشكل، تماماً كالمعبد الرئيسي الذي بني في أواسط الألفية الثانية بعد الميلاد (قرابة عام 1500 ميلادية)، ليكون مكان تقديم القرابين من قبل الأباطرة للسماء.
المكان شديد الجمال والرهبة، وتعطيه التفاصيل المعمارية الدقيقة معاني معنوية تحتاج إلى الكثير من الكلمات للحديث عنها، كما أن الأشجار القديمة ـ والتي لا يزال بعضها قائماً منذ لحظة بناء المعبد، كما اكتسب بعضها قدسية لدى الزائرين ـ تعطي زائر المعبد ومحيطه شعوراً بأنه بات منفصلاً عن الأرض، وصار في مكان قريب من السماء.
واللافت في أمر هذا المعبد هو اهتمام السلطات والزائرين معاً بهذا المكان الجميل، ما يشير إلى ارتباط حقيقي بماضٍ جميل، يعمل الجميع على تكريس حقه على الحاضر والآتي من الأيام.
إلا أن الاهتمام بالماضي لا يجعل الصينيين يتقوقعون عنده ويتجمدون عند أمجاده، كما لا ينسي الدولة الصينية النظر إلى المستقبل وبناءه بشكل أكثر عظمة من ذلك الماضي التليد. وهذا ما لمسه أعضاء الوفد الضيف لمس اليد خلال زيارة “المدينة التكنولوجية المستقبلية في منطقة تشانغبينغ ببكين” والتي تشكّل مجمّعاً ضخماً لمراكز الأبحاث والمصانع التقنية المتطورة، وهي أنموذج لـ “المدينة الذكية” التي ستتمثل بها المدن المتقدمة في المستقبل، من ناحية البيئة والنظافة الذاتية والطاقات البديلة والطرقات المتوائمة مع السيارات من الأجيال المستقبلية.
وعلى سيرة مراكز الأبحاث، فإن ما شهده الوفد الزائر من أسماء لمراكز الأبحاث خلال زيارته لهذه المدينة وتجوّله في شوارعها الفسيحة يعطي إشارة مهمة إلى كيفية سعي الصين لاحتلال مكانها المرموق على عرش الكرة الأرضية، فهي لا تفرض نفسها بالقوة وإنما بالعلم القائم على الأبحاث المتعلقة بكل شيء، من الطاقة النووية إلى الطاقات الخضراء إلى نوعية مواد البناء إلى كيفية معالجة مياه الصرف والنفايات وغيرها من الأبحاث المستقبلية التي تهتم بكل شيء في مدينة المستقبل.
أيضاً، عن المدينة التكنولوجية المستقبلية يمكن أن نتحدث كثيراً، وسيأتي الوقت لكتابة مقالات مفصلة عن هذه المدينة العظيمة، ولكن قبل مغادرة بكين، يجب أن نقف عند الحاضر الرابط بين الماضي والمستقبل، وهذا الحاضر يتمثل بالزيارة المفعمة بالفائدة والمتعة التي قام بها الوفد إلى إذاعة الصين الدولية.
عند الوصول إلى المبنى الفخم الذي يضم مكاتب الإذاعة وأقسامها يتلمّس الزائر هيبة هذه المؤسسة العملاقة التي تبث بأكثر من ستين لغة وتضم أشخاصاً من عشرات الدول التي تتكلم هذه اللغات، ليتحول المبنى إلى أكبر، أو أحد أكبر التجمعات البشرية القادمة من أنحاء العالم.
في المبنى الضخم زار أعضاء الوفد في البداية متحف الإذاعة الذي يضم أول مكبر صوت تحدث منه زعيم الصين الجديدة ماو تسي تونغ معلناً إقامة جمهورية الصين الشعبية، وصولاً إلى أحدث التقنيات التي تستخدمها الإذاعة حالياً لبث برامجها على الإنترنت إلى مستمعيها في أنحاء العالم. وبين هذا وذاك صور لضيوف كبار زاروا الإذاعة وأجروا مقابلات فيها، ومجسم زجاجي مليء بعيّنات من رسائل المستمعين الواردة بمختلف اللغات.
وبعد هذه الجولة في المعرض توزع ضيوف الإذاعة على الأقسام، فذهب كل ضيف إلى القسم الذي يبث بلغته الأم: العرب إلى القسم العربي، والباكستاني إلى قسم اللغة الأوردية، والأتراك إلى القسم التركي، والضيفة من منغوليا إلى القسم المنغولي، والضيفتان من روسيا البيضاء إلى القسم الخاص ببلدهما. وقد تم استقبالنا بالترحاب من الأصدقاء العاملين في القسم العربي، وهم صينيون يتكلمون اللغة العربية بطلاقة، وعرب يعملون كمستشارين في الإذاعة ويقدمون الأخبار والبرامج، وهم من عدة دول عربية كمصر وتونس والسودان وموريتانيا، كما مرّ عرب آخرون من مختلف الدول العربية الأخرى على هذا القسم الذي احتفل منذ أسابيع بالذكرى الستين لإنشائه، وكان لهذه المناسبة اهتمام خاص في موقعنا، موقع الصين بعيون عربية، حيث تم نشر عدد كبير من المقالات عن القسم العربي وعن إذاعة الصين الدولية بقلم رئيس وأعضاء الاتحاد الدولي للصحافيين والكتّاب العرب أصدقاء (وحلفاء) الصين.
في القسم العربي لإذاعة الصين الدولية التقينا مديرة القسم السيدة سميرة ونائب المدير الأستاذ شمس، وتم تكريمنا بهدية معنوية تتمثل بلوحة صغيرة من الحرير الصيني، وأجرى معنا الصديق لطفي (من تونس) مقابلة حافلة بالأسئلة حول هدف الجولة ودور الإعلاميين العرب في التعريف بالصين وبمبادرة الحزام والطريق، كما أجرى الصديق أسامة مختار من السودان مقابلة حول موقع الصين بعيون عربية وأهدافه وما حققه خلال عشرة سنوات من عمره.
لا بد الآن من ترك بكين والانطلاق إلى أورومتشي، حاضرة مقاطعة شينجيانغ، في أقصى غرب الصين، والحديث عن هذه المدينة ـ التي وصلنا إليها بعد رحلة استمرت أربع ساعات بالطائرة ـ طويل جداً، ونتركه لحلقات لاحقة.
وقبل الانطلاق إلى أورومتشي، ينبغي ذكر الانتظار الطويل للطائرات في مطار بكين، كي تحصل على إذن الإقلاع، والسبب بديهي: عشرات الطائرات تنتظر دورها للوصول إلى المدرج، ما يدل على حجم الحركة الجوية الهائلة التي يشهدها هذا المطار، بين رحلات داخلية إلى مختلف المقاطعات الصينية، ورحلات خارجية إلى أغلب عواصم العالم ومدنه، ما يجعل من بكين مدينة مركزية في الحركة الجوية الدولية، ويؤشر إلى المكانة المهمة التي باتت تلعبها الصين على مستوى العالم، ما حتّم على السلطات الصينية السعي لبناء مطار جديد ضخم في محيط العاصمة لخدمة هذه المدينة في المستقبل.
في الحلقة المقبلة:
أورومتشي.. الأصالة والانفتاح