الاصلاح والانفتاح أفضى لعالمية الصين
موقع الصين بعيون عربية ـ
مارينا سوداح*:
لم يكن والدي مروان ليُقيم علاقات صداقة وتحالف منذ أكثر من خمسين سنة مع دول متخلّفة ولا رجاء فيها أو منها لنفسها والعالم، لولا أنه كان متأكداً أن هناك مثل هذه الدول التي يُعقد الرجاء عليها، ومنها صين القائد ماوتسي تونغ التي تنبأ والدي بأنها سوف تصبح واحدة من أهم دول العالم، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فقد رأى ذلك بممارسته السياسية، ومن خلال تحليل لتاريخ آسيا ودولها ومكانتها العالمية، فأصر على التمسّك بالصين، وها هو يُصرُ على خياره هذا الى يومنا الحالي.
ولقد سرّني جداً أن والدي زار الصين على رأس وفد (للاتحاد الدولي الالكتروني للصحافيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء الصين)، الذي أسـسه مع أصدقائه قبل سنوات، فقد كان هذا الوفد هو الأول الجماعي للاتحاد الدولي الذي شرع بزيارة رسمية إلى الصين بعد طول انتظار، وهي دعوة رفيعة المستوى وجهتها للاتحاد الدولي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني عن طريق دائرة العلاقات الخارجية لغرب آسيا وشمال أفريقيا، وقد رافق أعضاء الاتحاد الدولي بعضهم بعضاً وغالبيتهم من كبار السن وأصحاب الخبرات، ومنهم الحزبيون ومنهم المستقلون، لكنهم جميعاً ينضوون تحت جناح “الاتحاد الدولي” الذي هو هيئة دولية، لكنه ليس حزباً ولا تنظيماً كما هو المتعارف عليه في التنظيمات العالمية، وكان هدفهم الذي تحقق هو معرفة الصين “كما هي”، وليُضيفوا على معلوماتهم السابقة عنها أخرى جديدة، وبالتالي للحديث عن تلك الدولة وشعبها بشكل أشمل، ولفهم طبيعتها وواقعها لمّن لم يزرها أبداً من أعضاء الاتحاد المذكور.
لقد نشر أعضاء الاتحاد الدولي الكثير من المقالات عن انطباعاتهم عن الصين التي رأوها بأم أعينهم، وبعضهم ربما لم يتصوّر أنه رأى ما لم يَحلم به في حياته، فتحقق ذلك له بفضل الدعوة القيادية الكريمة الضيافة والشمولية ببرنامجها، ما يؤكد أن الصين حزباً قائداً ودولة راسخة تريد فعلاً عرض طبيعتها وحقيقتها على العالم، فهذه الدولة كانت وستبقى موضوعاً زخماً لأعضاء الوفد للحديث عنها طويلاً، لشهور وسنوات مقبلة، في مقالاتهم. وكلما تقدّم الزمن، تعمّقت تحليلاتهم عن الصين وفهمهم لما شاهدوه فيها من مشاهد لا توجد في بلدان أُخرى، فتكون مقالاتهم أكثر عُمقاً وغنى، وهو ما أُحاول انا تقديمه للقرّاء، وآمل أن أنجح في هذه المهمة العسيرة، لأن المقالة سوف يقرأها المفكرون وفلاسفة وقادة الحزب الشيوعي الصيني، وسوف يُقيّمونها تقييماً موضوعياً، وآمل أن تحوز على رضاهم وتقديرهم، برغم أنني لم أزر الصين ولا أعرفها سوى من القراءات والمشاهدات التلفزيونية ومن أحاديث عائلتي..
قبل كل شيء، أود التطرّق إلى مسألة أساسية، هي أن جمهورية الصين الشعبية غدت منذ أُكتوبر تشرين الأول 1971 عضواً فاعلاً في مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة، وصارت تمارس صلاحياتها فيه ومن خلاله بكل نشاط ودقّة، فأفضى ذلك إلى نجاحات كبيرة على صعيد السياستين الداخلية والخارجية. ولعل من أبرز تلك النجاحات كان شطب مقعد تايوان من المجلس والأمم المتحدة، وإلغاء الاعتراف الدولي بها كدولة برغم معارضة عدد من الدول الكُبرى والصُّغرى أنذاك، إذ عادت تايوان بذلك القرار الاممي الى طبيعتها كمجرّد قاعدة للأجنبي تعترف بها دول قليلة هامشية، وكان للقرار الأممي أهمية استثنائية لأنه بيّن بشكل قاطع مانع أن تايوان هي “الجزء الذي لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية والبر الصيني الرئيسي”، وليست دولة، بل واحدة من محافظات صينية عديدة تتبع بكين.
لقد جاء الاعتراف بوحدة التراب الصيني ورفض تجزئته ضربة قاصمة لكل القوى التصفوية والتفتيتية للوطنية الصينية ووحدة الصين، وكانت كذلك ضربة شاملة وكبيرة تعدّت أهمية هذا الاعتراف للصين بكون تايوان الجزء من الكل الذي هو الصين الشعبية إلى بقية دول العالم، سعياً لإحقاق الحقوق الطبيعية لدول الأرض التي ما زال الاستعمار يقتطع أجزاءً من أراضيها، ومنها فلسطين واحتلالها ومحاولة تصفية الوجود العربي الفلسطيني فيها وإلغاء تاريخها وتهويده وصهينته سياسياً وإحلال آخر مكانه (تماماً كما حاول الاستعمار في تايوان وهونغ كونغ وماكاو)، إلى محو مقدساتها وتحويلها إلى بلد واحد اللون والهوية واللغة والثقافة، وهي ممارسة مناقضة للقوانين الدولية والوضعية والمنطق والتاريخ.
قليلاً ما يُنصف القانون الدولي شعوب العالم، لكنه في هذه “المرة الصينية” أنصف الصين تاريخاً ودولةً وشعباً ومستقبلاً، ولا مفر الآن من وحدة الصين بالكامل، لا سيّما بعد عودة ماكاو وهونغ كونغ للشرعية الصينية من خلال شرعية دولية وإرادة عالمية وإتفاقات صينية غربية. لكن بقي أن تتراجع بعض الدول عن ما يُسمّى بـ “أحقيتها” بالتراب الصيني في بحري الصين الشرقي والجنوبي، حيث توترات دولية تُثيرها بعض القوى الاجنبية رغبة منها بالاستيلاء على تلك الجُزر وعودتها مُدجّجة بالأسلحة إلى تلك المنطقة، بعد عشرات السنين من انحسار الاستعمار عن الصين، وتمهيداً من جانب قوى أجنبية إلى فرض حصارات بحرية على الدولة الصينية التي صارت كبرى وقوية تحمي مبادرة الحزام والطريق من الفشل، فهذه المبادرة ستربط دول وشعوب العالم بعضها ببعض من خلال طُرقٍ برية وبحرية متعددة لبُنية تحتية كبرى ومتقدمة، تتيح لتبادلية سلعية وإنسانية نشطة وعميقة بالاتجاهين، والارتقاء بمستويات حياة شعوب آسيا التي عانت من استعمار وفقر وقهر لأُلوف السنين، لكن تلك الشعوب باتت تستعيد الآن إرادتها متحالفة أو متصادقة مع الصين وقيادتها ورئيسها شي جين بينغ، الذي اقترح مبادرة الحزام والطريق لتغيير وجه العالم، ولتأكيد رفض التسلط عليه من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والسلاح والعقوبات والتهديدات.
يُخطىء مَن يَظن ان أهم نجاحات الصين هي التجربة الاقتصادية فقط، إذ أن كل نجاحات الصين اليوم في مختلف الحقول، إنما هي تجارب ناجحة تفرّعت عن حركة الاصلاح والانفتاح، إذ يُميّز الصين بتقدمها سعيها إلى حلول أعمق لقضاياها الداخلية ورفض تأليه النصوص، بل تطويعها من أجل خدمة الإنسان، لكن بدون التخلي عن القواعد والمبادئ والفكر والتراث الفكري والمسيرة الطويلة العظيمة، وبدون الابتعاد عن العقل وإعماله والمنطق وطريقة التفكير السوي التي تنعكس في إنتاج أفكار لمصلحة الناس الصينيين أولاً، ولمصلحة شعوب العالم كذلك، لأن الصين والعالم مترابطان ووحدة واحدة، يتأثران بمختلف التطورات والظواهر بالقدر نفسه.
بعد ست سنوات على الاعتراف العالمي بالصين وشرعيتها وقانونية الدولة الصينية، وعدم قانونية تايوان المسلوخة عنوة عن الصين الأم، تطورت الصين بخطى واسعة في كل مجال، ولم يكن يدور بخلد الغرب آنذاك أن الصينيين سوف يصبحون منافسين لهم في الاختراعات والاكتشافات والتطور الشامل والمنطق والفكر والتعاملات والشخصية المتميزة والجاذبة دولياً، ولم يدركوا بأن صعود اسم الصين وطغيانه على أسماء دول غربية عريقة كثيرة كان يمكن أن يكون، أو أن يكون كما هو “اليوم عليه”، فقد كان لحركة الاصلاح والانفتاح الفضل في إيصال الصين إلى هذا الموقع المتقدم عالمياً، وبذكاء المُصلح دنغ شياو بنغ وأفكاره التي رفضت الجمود، فكان التقدم الأسرع حليف الصين وطغى على تاريخ كل تقدّم أخر، وغدت الصين بنظامها الاشتراكي بألوان صينية الأُمثولة العالمية التي خلّفت غيرها من الأمثولات الغربية وراءها بعيداً..
تميزت سنوات ما بعد 1978 بنشاط شامل لتطوير الصين من خلال أربع مراحل، كل مرحلة تميزت بخصائص معينة وتطبيقات مرحلة كانت الأهم لجهة نقل الصينيين لحياة أكثر رغادة من ذي قبل، وحلت بالتالي مسألة الغذاء والكساء، إلى حلول المرحلة الرابعة في عام 2002 المتواصلة إلى اليوم، والتي تتحدث عنها الأدبيات الصينية كحدث حدّد “الاتجاه التاريخي للصين والحزب الشيوعي الصيني في “العصر الحاضر” بصورة أوضح على أساس نقطة انطلاق تاريخية جديدة، ورفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية بصورة أعلى للشروع في بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل”.
في هذه المرحلة، تم تحقيق تحرير القوى المُنتجة، وتتجسد في “الحفاظ على نمو مستقر برقم مزدوج للحجم الاقتصادي الإجمالي خلال السنوات السبع الأولى من القرن الحادي والعشرين، وصعود البنية التحتية للاقتصاد الوطني والمشاريع العملاقة للقطاع الحكومي إلى درجة جديدة كبيرة، وارتفاع مستوى معيشة الشعب إلى درجة جديدة كبيرة أيضاً، وإيلاء المزيد من الاهتمام للعدالة والإنصاف في حين تسريع التنمية، والدخول إلى مرحلة جديدة كل الجِّدة للعمل بوعي أعلى على التنمية العلمية والمتناغمة والسلمية، وتحسين وإكمال نظام اقتصاد السوق الاشتراكي بصورة شاملة، ودفع عملية إصلاح الهياكل الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية على نحو أكثر تناسقاً”.
شكّل الاعتراف الدولي بالصين من خلال مجلس الأمن انفتاحاً واسعاً من العالم بالذات على الصين، وبعدها جاءت حركة الإصلاح والانفتاح التي عزّزت هذا الانفتاح العالمي والإصلاح الداخلي، من الصين تجاه نفسها والعالم، لا سيّما في مجال الاقتصاد الصيني الذي أصبح أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات الهيكلية التي يعرفها الاقتصاد العالمي، فالكسب الأسرع في إحراز موقع متقدم للصين فيه. وقد قسّم أحد مستشاري الأمين العام السابق للحزب الشيوعي زهاو زيانغ الدول إلى أربع مجموعات، من حيث القدرة على التعامل مع المتغيرات التي تصيب المجتمع الدولي في جوانب عدة، فأفضى ذلك بالصين الى إدراك المتغيرات العالمية ومكانتها فيها، والمواءمة ما بين الاشتراكية واقتصاد السوق، تحت مراقبة وحماية الحزب والدولة، فكان النجاح وتسريع التقدم وحل المُعضلات الصينية والانتقال حالياً إلى إشتراكية بألوان محلية وتحقيق مرحلة أعلى من ذي قبل، فرسخت مكانتها الإقليمية والدولية إلى غير رجعة.
في المؤتمر/ المنتدى السنوي ل “بوآو” في هاينان مؤخراً والذي حضره نيابة عن الاتحاد الدولي أمين السر الاتحادي والنائب الأول لرئيس الاتحاد الدولي الخبير السياسي والآسيوي محمود ريا، قال الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، شي جين بينغ، إن الصين بدأت رحلتها التاريخية للإصلاح والانفتاح في عام 1978، وقد أضاف الشعب الصيني فصلاً مشرقاً لملحمة تنمية الدولة والأمة خلال العقود الأربعة الماضية، فأطلق الشعب الصيني العنان لتعزيز الإنتاجية بشكل هائل في الصين، من خلال العمل الجاد بروح لا تنضب، مستنداً إلى طريق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية من خلال استكشاف الطريق بروح رائدة ولمواكبة تقدم العصر، فساهمت الصين بنصيبها للعالم بنشاط من أجل توفير مُغيرات أيجابية تؤثر بشكل حاسم على مصير البشرية السلمي المنشود، فالإصلاح والانفتاح هو “الثورة الثانية للصين”، كما أسماها الرفيق شي، حيث أنها لم تغيّر البلاد الصينية بشكل عميق فحسب، بل أثرت أيضاً على العالم بكليته بشكل كبير، لهذا نؤكد على فائدتها التنموية والسلمية ولتأكيد مستقبل جديد ومزدهر للعالم.
أعتقد شخصياً بأن اختصار نجاحات حركة الإصلاح والانفتاح يمكن تلخيصها بعددٍ من الكلمات التي ذكرها الرئيس “شي”، إذ نوّه إلى أن تلك الحركة التاريخية قد قدّمت الكثير من الإلهام القيّم، لكن الأهم هو أنه يجب على أية دولة أو أمة لتحقيق التجديد أن تتبع منطق التاريخ واتّجاه العصر في سعيها للتقدم والتنمية، والإصلاح والانفتاح الصيني “يُلبي تطلعات الشعب الصيني في التنمية والإبتكار، وتطلعه إلى حياة أفضل.. كما أنه يُلبّي متطلبات التوجّه العالمي للتنمية والتعاون والسلام”، وهي رسالة الصين الرئيسية التي تختزن في ذاتها كل تقدم وإبداع على الطريق الثابت للإصلاح والانفتاح ومسيرتها الطويلة الوطنية والعالمية تاريخياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً .
…
#مارينا_سوداح*: كاتبة وناشطة وقيادية في #الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب #العرب أصدِقاء وحُلفاء #الصّين.
مقالات جميلة ورائعة شكرا للاعضاء الاتحاديين