“باتشاي” في الصين..
موقع الصين بعيون عربية ـ
فيصل ناصيف عبدالرحمن صالح*:
يتركّز غالبية مسلمي الصين في المناطق الغربية من هذه الدولة المتعددة القوميات. هناك بالذات يكون لباتشاي طعمٌ خاص ونكهة متميزة ضمن الاحتفالات به وفي باقي مناطق الصين التي يسكن فيها مسلمون بأعداد متفاوتة، ويبقى عدد هؤلاء قليلٌ تبعاً لنسبتهم في مجموع عدد السكان العام في جمهورية الصين الشعبية التي يزيد عدد مواطنيها على المليار ونصف المليار نسمة، بحسب إحصاءات صينية مختلفة.
مفردة “باتشاي” تعني “إسم شهر رمضان” المبارك باللغة الصينية، حيث يَحتفل به الصينيون من القوميات الىي غالبها أو كلها تدين بالإسلام بشعائر متشابهة أو متطابقة مع إخوانهم في الدين في مختلف الدول الأخرى بقارات العالم، لكن وتبعاً للعادات الصينية المحلية، وعادات بعض القوميات هناك، يختلف الاحتفال بعض الشيء عن الاحتفال في الدول العربية والاسلامية، إلا أن القاسم المشترك واحد، وهو الصلاة في المساجد كل ليلة كفريضة إلهية.
في رمضان – باتشاي، يُمارس المسلم الصيني تلاوة القرآن الكريم في فترة ما قبل صلاة المغرب، وفي صلاة التراويح يرفع صوته بالدعاء لله بعد انتهاء كل ركعتين ويبتهل: “يا مقلب القلوب والأبصار، يا خالق الليل والنهار، اللهم قوِّ إيماننا لنثبت على طريق الحق والإيمان..”.
المسلم الصيني منفتح بطبعه وطبيعته على غيره من الناس من أصحاب القوميات واللغات والتقاليد والعادات المختلفة. ففي “باتشاي”، يُهنِّىء المسلمون وغير المسلمين بعضهم بعضاً بحلول باتشاي، ويتناولون طعام الإفطار سوياً كشكلٍ من أشكال التضامن الوطني والانساني، ما يعني وحدة وطنية واسعة تضم مختلف أطياف المجتمع الصيني، وبخاصة قومية (هان) التي هي أكبر القوميات الصينية، وهذه القومية تتيح للجميع ضمن القانون الصيني الواحد المطبق على الكل، أحتفالية واسعة بباتشاي، يُشارك فيها مسؤولون عن الجمعية الاسلامية الصينية والجمعيات المماثلة وفروعها المحلية، بالإضافة الى مشاركة مسؤولين محليين وممثلي المجتمع عامة ومنظمات المجتمع المدني.
وبالرغم من أنني لم أزر مناطق المسلمين في الصين سابقاً، وبودّي ذلك من خلال دعوة صينية مستقبلية، لأتخصص بالكتابة عن أحوالهم وواقعهم في وجه المد المناهض للصين من جانب جهات مغرضة في هذا العالم على خلفية دينية – سياسية، إلا أنني أقرأ كثيراً عن هؤلاء المسلمين، وعن ماضيهم وحاضرهم، وكيفية قبولهم للإسلام، وحياتهم وعلاقاتهم مع العالمين العربي والإسلامي وبقية مسلمي الكرة الارضية.
واللافت للانتباه أن في الصين التي دخلها الاسلام منذ أكثر من 1300 سنة، يوجد ويعمل عدد كبير من المساجد في كل مناطقها. وتقول بعض الاحصاءات بأن عددها أكثر من 35 ألف مسجد، غالبيتها مساجد عريقة وذات سِمات صينية خاصة، وأخرى أقيمت حديثاً تتسم بامتزاج وتناغم ما بين المساجد العربية والصينية بخاصة لجهة ألوان البناء القومي للقوميات المسلمة في الصين، وهي تتألق بأنوار التبادل الثقافي المتواصل ما بين الصين وبلاد عالم العرب. فغالبية المساجد تشتمل على كتابات مُمَوّهة بالذهب من الآيات القرآنية الكريمة، وصورة للبيت الحرام على المِحراب، تعلوها “البسملة” أو”الكلمة الطيبة”، وتزخرف بكتابات من المواعظ والأمثال الحسنة على جانبيها، إضافة إلى انتشار الرسومات الجميلة التي تعرض لكتابات عربية على الأسقف والجدران..
واللافت الآخر لمساجد الصين هو تخصصها بالعديد من الفعاليات والانشطة، ولقد أقيمت لتبرز وتشتهر بهذه الفعاليات، ومنها تدريس القرآن الكريم واللغة العربية، والاهتمام بإعداد السيدات المسلمات الصينيات في المجتمع بتعليمهن بعض المهن الأنفع لهن والأنسب اجتماعياً، وبعضها كما يُقال يُعلم الرسم.. والعديد من المساجد تتزين بأنواع من الزهور والآيات القرآنية الكريمة بالخطوط العربية الجميلة، زد على ذلك أن عدداً كبيراً من المساجد قد بُني باسلوب معماري صيني كلاسيكي لكنه يتجمّل بأُسلوب إسلامي عموماً.
ومواقع العبادة الإسلامية التي تغص بالمؤمنين في باتشاي – رمضان والأعياد الإسلامية الأخرى هي مواقع ومساجد تقوم الدولة الصينية وحكومتها المركزية والحكومات المحلية المتفرعة عنها، بضمان صيانتها والحفاظ عليها وعلى الإرث التاريخي والديني فيها من خلال ميزانيات خاصة، لكونها ـ كما يؤكدون رسمياً ـ كنزاً وطنياً لا يُقدّر بثمن، وكنزاً إنسانياً لا مثيل له في بلدان العالم الأُخرى.
وفيما يخص مائدة الطعام الصينية، فهي مصممة بأسلوب دائري ومتحركة كما هي العادة في كل الصين. وتتنوّع أصناف الطعام عليها وفي بيت كل مسلم صيني. واللافت أن المسلمين الصينيين، ككل الصينيين، يتناولون الشاي الأخضر بكميات كبيرة لأنه مفيد للجسم، ويشربون الماء الدافىء بدلاً من البارد.
أطباق رمضان في معظمها أرز مسلوق بعملية تبخير، والحلويات والمشروبات فهي تمور وفواكه إستوائية شهيرة غير متوافرة في غالبية بلداننا العربية، ومنها: قشطة، دوريان، موز حلو المذاق وصغيرة الحجم، أفاوكاتو، مانغوستين، الرامبوتان، كاكا، وأناناس وهو معروف لدينا على نطاق واسع.
في الصين أيضاً، في باتشاي يتردد عدد كبير من المسلمين على المطاعم العربية والآسيوية التي تقع في العاصمة بكين، وفي عواصم المدن الاقليمية، ولقد أصبحت هذه المطاعم شهيرة جداً وشعبية، وهي بالتالي إضافة نوعية ل “باتشاي رمضان” والأعياد الاسلامية هناك، وهي تعني أيضاً تلاقحاً ثقافياً وحضارياً من خلال مائدة الطعام المشتركة الصينية – العربية، والصينية – الاسلامية.
ومن أسماء المطاعم العربية والاسلامية في الصين: “مطعم ومقهى الخليل”، “مطعم السندباد”، “مطعم المائدة”، “مطعم ألف ليلة وليلة”، “مطعم ومخبازة سبأ” اليمني، “مطعم البيت الشامي”، “مطعم السلطان” التركي، “مطعم السفير” الفلسطيني، “مطعم الأكلات العربية الشعبية”، “مطعم الحلال”، “مطعم العرب”، “المطعم الفارسي” و “المطعم الهندي”، وحين يمشي العربي والمسلم في الشوارع التي تغرق بهذه المطاعم، تلفت الانتباه اللغة العربية التي تعج بها، والتي يتحدث بها زوار تلك المطاعم بصوت عالٍ، فتشعر بأنك في بلد عربي أو إسلامي، وتندفع إلى داخل أحدها بخاصة خلال شهر باتشاي، فهناك كل شيء عربي من الأطعمة إلى اللغة والأغاني وطبيعة تحضير القهوة والشاي والأجواء العامة..
لكن أشهر صاحب مطعم عربي في الصين، مزج بين الحضارتين الصينية والاردنية والعربية، صار الشاب الاردني “مهند”، بشهادة الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2014، فقد أُوردت وكالة الأنباء الأردنية بترا، والصحف الاردنية والعربية والصينية قصة هذا الشاب العِصامي، الذي تحدّث عنه الرئيس الصيني نفسه مُستشهداً بقصة نجاحه في الخطاب الدولي للرئيس “شي” الذي ألقاه في حفل إفتتاح الاجتماع الوزاري السادس لِ “منتدى التعاون الصيني العربي”، بحضور شخصيات رسمية واجتماعية وعالمية بارزة من الجانبين الصيني والعربي، وأكد القائد “شي” في خطابه هذا، بأن العلاقات الصينية العربية بتطورها السريع “جعلت حياة أبناء شعوبنا أكثر ترابطاً، فهناك قصة حيّة حدثت في مقاطعة جرجيان حيث عَلمتُ بها، مفادها أن التاجر الأردني الذي إسمه “مهند”، انشأ مطعماً عربياً أصلياً في مدينة “إي وو” التي يجتمع فيها عدد كبير من التجار العرب”.
جاءت شهادة الرئيس شي جين بينغ هذه لتعني على رؤوس الأشهاد أن الدبلوماسية الشعبية لهذا الشاب العصامي ناجحة وإن بعد 37 سنة من إقامة العلاقات الدبلوماسية ما بين البلدين الاردن والصين، وتأكيداً على نفع هذه العلاقات الشعبية التي تساهم بشكل مَحسوس وواقعي في تدعيم العلاقات عموماً بين بلدان العالم، ودور الافراد الفاعل والمنتج فيها.
وهكذا، فإن العلاقات الأردنية والعربية الصينية تخطو خطوات كبيرة إلى الأمام، وبضمنها وفي إطارها الحرص من لدنِ قادتنا على تنميتها في ظل تنامي العلاقات الثنائية والمتعددة المجالات ما بين العرب والصينيين دولاً وقيادات وشعوباً، ما يمكّن من إنجاز خطوات أوسع في المستقبل القريب، تضمن تجذيرها ومنحها ديمومة أبدية لا نكوص عنها.
…
#*فيصل_ناصيف_عبدالرحمن_صالح: كاتب وخبير #تصوير محترف و#مصوّر إعلامي مُعتمد وخاص بالإتحاد #الدولي للصحافيين والإعلاميين والكتّاب #العَرب أصدقاء (وحُلفاء) #الصين، ومتخصص بفنون #نباتات الـ”#بونساي” والبيئة والانسان.