المسلمون في الصين: مسيرة عابرة للتاريخ
موقع الصين بعيون عربية ـ
أ.د. جهاد حمدان:*
كثيرة هي الكتابات التي تناولت العلاقة بين العرب والصين، وبعضها استند إلى اقتباسات ظلت محلّ جدل مما حدّ من انتشارها. ومن ذلك عبارة “اطلبوا العلم ولو في الصين”. فهناك مَن تحمّس لها وعدّها حديثاَ نبوياَ حسناَ ليثبت أنّ العلاقة بين العرب والصينيين قديمة، بدليل ورود إسم هذا البلد على لسان النبي، إذ حثّ أصحابه على طلب العلم حتى لو بعِدت مصادره. وهناك من قال إنّ هذا حديث ضعيف وأعفى نفسه من الاهتمام بهذه العلاقة. ونظرفريق ثالث في مدلولات العبارة ونأى بنفسه عن نقاش مدى قدسيتها. ويأتي مقالنا هنا في هذا الإطار. فالعرب كانوا تجارا تصل قوافلهم قبل الإسلام بلاد فارس والرومان، ولابدّ أنهم تواصلوا بشكل غير مباشرعبر شَراكاتهم التجارية مع هذه الأقوام مع الحضارة الصينية. وأهمية العبارة أنها تومىء إلى علوم دنيوية موجودة في بلاد بعيدة، وأنّ هذه العلوم مطلوبة للعرب والمسلمين، بحيث تستحق الترحال بعيداً في طلبها وما ينطوي على ذلك من مخاطر. ولم يكن لأحد أن ينطق بهذه العبارة لو لم تكن أخبار عظمة الصين وعلومها قد وصلت شتّى أرجاء المعمورة ومنها جزيرة العرب.
ولكن لا توجد رواية واحدة توثّق بداية علاقة العرب والمسلمين بالصين. فعدد من الروايات الواردة في المصادر التي تؤرّخ لهذه العلاقات نسجها خيال الرواة فغلّفوها بصور دينية ليسهّلوا قبولها. ومنها أنّ الملك تايتسونج Tai Tsung الذي حكم من 627م إلى 644م رأى في منامه وحشاً مفترساً خلّصه منه رجل يلبس عمامة بيضاء ويحمل سبحة، فأرسل وفداً صينياً للقاء النبي محمد، والطلب منه إرسال بعثة لنشر الإسلام في الصين. وجاء في رواية ثانية أنّ الملك ونتي Wen Ti رأى نجما قيل له إنّه يرمز إلى رجل مهم في بلاد العرب، فأرسل وفدا طلب من النبي أن يسافر إلى الصين، فاعتذر وأرسل معه أربعة من أصحابه. وهناك روايات أخرى لا تقلّ تهافتا عن هاتين الروايتين، لذلك لن أتطرق إليها.
ويرجّح كثير من الباحثين أنّ بداية دخول الإسلام إلى الصين تبعت زيارة أول وفد عربي – إسلامي إلى الصين، في عهد الخليفة عثمان بن عفان سنة 651م. وتوالت بعد ذلك زيارات الوفود العربية إلى الصين واعتناق مزيد من الصينيين للإسلام. وساهمت السفن التجارية في نشر هذا الدين في المناطق الصينية الساحلية.
وهناك رواية فتح قتيبة بن مسلم الباهلي لمدينة كاشغر الصينية سنة 96 هجري (714م)، في خلافة الوليد بن عبد الملك. ومنها بعث إلى ملك الصين رُسلاً، إذ تهدّده، وأقسم بالله أن لا يرجع حتى يَطأ أرض الصين، ويختم زعماءها، ويُدفّعهم الجزية أو يدخلوا في الإسلام. والقصة هنا طويلة وممتعة ولكنّ ملخصها يقول إنّ ملك الصين لجأ إلى الدهاء والحيلة، فبعث لقتيبة ذهباً وشيئاً من تراب الصين ليطأه قتيبة حتى يبرّ بقسمه وبعض الغلمان ليختم رقابهم. وتضيف القصة، أنّ قتيبة قبل ذلك ووضع الحرب جانباً. ولكنّ الأحداث عاجلته إذ مات الوليد بن عبد الملك، وقُتل قتيبة بعد خروجه على سليمان بن عبد الملك في السنة نفسها. ويَظل هناك مَن يرى أنّ بعض أجداد الصينيين المسلمين اعتنقوا الدين الجديد أثناء حملة قتيبة.
وفي الواقع، ليس من السهل أن يجد القارىء مرجعاً عربياً أو صينياً يُحدّد بشكل علمي ودقيق شخصاً أو وفداً بعينه ذهب إلى الصين بتاريخ محدد، ودعا الناس وحكامهم إلى الإسلام وتبعوه. وجاء في كتاب (الإسلام في الصين، تأليف إبراهيم فنغ يوان، تعريب محمود يوسف لي هواين – دار النشر باللغات الأجنبية، بكين، الطبعة الأولى، سنة 1991م، ص4): “وبهذا يُعْلَمُ أنه لا يوجد دليل يُعتَمَد عليه في تحديد وقت معين لدخول الإسلام إلى الصين، ولا على مَن أول من دخل الصين من المسلمين”.
ولا تتوفر إحصاءات دقيقية حول عدد المسلمين في الصين، ولكنّ بعض المراجع تُقدِّر عددهم بخمسة وعشرين مليوناً. ويوجد في الصين حوالي ثلاثة وأربعين ألف مسجد في مختلف مناطق الصين، أولها مسجد مدينة كانتون الذي بني قبل حوالي 1350 عام، ويُعرف بإسم “مسجد الحنين إلى النبي عليه الصلاة والسلام”، أمّا مسجد “نوجيه” في بكين فعمره يزيد عن 700 عام، ويُعتبر هذان المسجدان من أقدم المساجد في الإسلام، بالإضافة إلى غيرها من المساجد التي بُنيت على الطراز الحديث في مختلف مناطق الصين مع انتشار المسلمين هناك.
يتمتع المسلمون في الصين بحقوق متساوية مع جميع المواطنين الآخرين، بغض النظر عن دينهم وعِرقهم، وذلك في إطار المبادىء العامة للسياسة الصينية للشؤون الدينية، التي أرساها الحزب الشيوعي الصيني. وتؤكد هذه المبادئ على حق جميع مواطني جمهورية الصين الشعبية في التدين من عدمه. كما تؤمّن مكانة متساوية لجميع الأديان التي يجب أن يكون من أهدافها تعزيز الوحدة الوطنية الصينية والوقوف في وجه المحاولات الخارجية للتأثير على الأنشطة الدينية في البلاد. وتشدّد هذه المبادئ على فصل الدين عن التعليم والسياسة.
ولشهر رمضان “باتشاي” مكانة خاصة عند الصينيين المسلمين إذ تغصّ المساجد الكبرى بالمصلين في صلاة المغرب وصلاة التراويح. كما تزداد صِلات التواصل والتراحم بين الأقارب والأصدقاء، وبين المسلمين وغير المسلمين. وتضم مائدة الإفطار مختلف صنوف الطعام والشراب، ولكن بمقادير لا تزيد عن حاجة الصائمين. وبعد أذان المغرب يتناول الصائم الشاي الأخضر أو الأحمر المليء بالسكر، وبعدها يتناول البطيخ، ثم وجبة الإفطار بعد أداء الصلاة. وتعتمد أغلب الأطباق على الأرز المسلوق، ويُشكّل التمر والفواكه الاستوائية النصيب الأكبر من الحلويات.
وتحدث أستاذ الثقافة العربية والإسلامية في جامعة بكين، “جنواكي باوين سنياوو”، لرصيف22 عن مشاهداته الخاصة برمضان وقال: “في هذا الشهر، وبرغم أنّي غير مسلم، أتواصل مع المسلمين في عدد من المساجد، وما يلفتني هو أن هناك عدداً كبيراً من غير المسلمين يشاركون المسلمين في عاداتهم وتقاليدهم وشعائرهم الدينية”.
وفي شهر رمضان من كل عام، يُرسل الأزهر الشريف إلى جامع “نوجيه” قارئ قرآن من جمهورية مصر العربية. كما يُرسل عدداً مِن المُقرئين والخطباء، ويتم توزيعهم على المدن والأحياء المسلمة. وللمسلمين مطبوعاتهم الخاصة. ومن المَجلات الإسلامية التي تصدر بشكل شهري مجلة أخبار المسلمين “مسلم بونشونغ”، وهي الأكثر انتشاراً بين المسلمين الصينيين، وتوزّع نحو مليوني نسخة شهرياً تقريباً، ومثل مجلة الفتح، ومجلة المسلمين.
…
*#جهاد_حمدان: أكاديمي وباحث ورئيس جمعية أساتذة اللغة الإنجليزية وآدابها والترجمة في الجامعات العربية وعضو ناشط في الاتحاد الدولي للصحافيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء الصين.