الحرب الإلكترونية الباردة بين بكين وواشنطن.. الصين تنتصر
السفر إلى الصين يختلف عن السفر إلى كثير من الدول، فالثقافة الصينية تختلف بشكل كبير عن نظيرتها العربية، خاصة فى الطعام، ما يجعل كثيرين يفكرون فى البحث عن مطاعم عربية فى الصين أو فى المعلبات التى يتوجب عليهم أخذها معهم فى سفرهم، والحقيقة أن هذا الأمر لا يعنينى على الإطلاق، ما يعنينى ويعنى الكثيرين غيرى هو القدرة على التواصل مع العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعى مثل فيس بوك وتويتر التى تحجبها بكين، وتضطرنى لشراء برنامج VPN يسمح لى باستخدامها فى الصين.
منذ مطلع الألفية الثالثة، فرضت الصين جدارًا إلكترونيًا استوحت اسمه من سور الصين العظيم وأطلقت عليه «الجدار أو (السور) النارى العظيم»، والحقيقة أن الاسم نفسه له مغزى، فكما بنى الإنسان الصينى قديمًا سور الصين العظيم كجدار دفاعى عسكرى، طور الصينى الحديث الجدار النارى العظيم، كجدار دفاعى إلكترونى، ضد التكنولوجيا الغربية، فى إطار ما يمكن تسميته الحرب الإلكترونية الباردة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
وصلت الصين للمرة الـ15، وفيما كنت منهمكا فى التسوق داخل أحد المحال التجارية فى مقاطعة تشيجيانغ الصينية، لفت نظرى مغادرة أحد المتسوقين بسلة كاملة من البضائع دون أن يدفع من جيبه يوانًا واحدًا. كان الأمر غريبًا بالنسبة لى، إلا أننى أقنعت نفسى بأن الرجل قد يكون دفع دون أن ألاحظ ذلك. واصلت التسوق وإذا بى أجد معظم المتسوقين يغادرون المحل دون أن يضع أى منهم يده فى جيبه، فقط يضغط على أزرار الموبايل الخاص به، ثم يغادر.
تقول ليشا شينج، مديرة أحد المكاتب السياحية فى الصين: «تقريبًا لم نعد نحمل محفظة النقود فى الصين. أغلب معاملاتنا المالية الآن تتم عبر برنامج وى تشات: بيع، شراء، حجز فنادق، شراء تذكرة سينما، أو حتى فى الشراء من الباعة الجائلين فى الأسواق الليلية. معظم عمليات الدفع التى يقوم بها زبائن شركتى تتم الآن عبر وى شات. كل ما علينا فعله ببساطة هو ربط حسابنا البنكى بتطبيق وى تشات ليكون بمثابة بنك متنقل معنا أينما ذهبنا».
الأمر بات مثيرًا للدهشة بالنسبة لى، ليس للتطور التكنولوجى الذى تشهده الصين، وإنما لاعتماد الصين على نفسها فى هذا التطور، وعدم اعتمادها على التكنولوجيا الغربية. ما أشاهده الآن جعلنى أرجع بالذاكرة إلى 8 أعوام مضت، وقتها كنت فى رحلة إلى الصين عندما حدثت الأزمة بين الدولة الشيوعية وعملاق الإنترنت العالمى، جوجل، والتى انتهت بـ«الخروج الكبير» للأخيرة من الصين.
فى 2010 اتهمت جوجل، التى نجحت فى الاستحواذ على 30% من سوق الإنترنت الصينية خلال 5 أعوام فقط، بكين، بأنها تقف وراء عمليات قرصنة على برنامجها الخاص بالتشفير وحسابات بعض النشطاء الصينيين، وقررت تحويل عمليات البحث إلى محرك البحث الخاص بشركة جوجل هونج كونج كى لا تقع تحت رقابة الحكومة الصينية.
من جانبها، رفضت الحكومة الصينية اتهامات جوجل، مشيرة إلى أن الشركة خالفت القوانين الصينية التى التزمت باحترامها عند توقيع عقد دخولها السوق الصينية، ورغم اللغة الدبلوماسية التى ميزت الخطاب الصينى فى الأزمة، والتى كانت تؤكد طوال الوقت أن الأزمة مع جوجل غير مرتبطة بالعلاقات بين بكين وواشنطن، إلا أن الصين كان لها موقف حازم حيث قررت حجب كافة خدمات جوجل فى الصين، التى يزيد عدد مستخدمى الإنترنت فيها على 770 مليون شخص.
قبل حجب خدمات جوجل فى الصين (بريد إلكترونى، خرائط، جوجل بلاى، وغيرها)، بعام واحد، حجبت بكين موقع يوتيوب التابع لجوجل هو الآخر، بسبب نشره فيديوهات منسوبة لأحداث عنف فى التبت، لكن الحجب لم يتوقف على ذلك، حيث اتسع ليشمل العديد من المواقع والتطبيقات، خاصة وسائل التواصل الاجتماعى، مثل فيس بوك، تويتر، واتس آب، إنستجرام وغيرها.
قطيعة مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بهذا الشكل من شأنها أن توقف آلة الزمن بشكل كبير فى كثير من الدول، إلا أن الوضع فى الصين كان مختلفًا تمامًا، فمنذ اللحظة الأولى تدرك الصين تمامًا مدى قوتها البشرية، وتعرف تمامًا كيف تستفيد منها، فسوق مثل السوق الصينية يزيد عدد مستخدمى الإنترنت فيها على عدد مستخدميه فى أوروبا كلها، كفيلة بالنهوض بأى صناعة وإنجاحها طالما توافرت فيها شروط النجاح.
لم يشعر المواطن الصينى على الإطلاق بتراجع فى خدمات الإنترنت، أو بصعوبة فى مجاراة وسائل التواصل الاجتماعى الغربية التى تتطور يومًا بعد يوم، بالعكس تمامًا، نجحت بكين فى توفير البديل باقتدار، فموقع «يو كيو» أصبح البديل الأمثل لموقع الفيديو الشهير «يوتيوب»، ومحرك البحث «بايدو» بديلًا لمحرك بحث جوجل، وموقع «ويبو» أصبح بديلًا لتويتر، فيما تربع الـ«وى تشات» على عرش تكنولوجيا الاتصال الصينية، وأصبح بديل مثالى للعديد من وسائل التواصل الاجتماعى مثل فيس بوك، واتس آب، إنستجرام، وغيرها.
بعد عام واحد من «الخروج الكبير» لجوجل من الصين، أعلنت بكين عن شبكة تواصل اجتماعى جديدة باسم «وى تشات». فى رحلات لى إلى الصين بعد هذا التاريخ، كنت وغيرى قادرين على فتح تطبيقات مثل فيس بوك وواتس آب، عبر برامج الـVPN، إلا أننى فى الحقيقة كنت مضطرا طوال الوقت لاستخدام تطبيق «وى تشات» للتواصل مع أصدقائى الصينيين، الذى أغناهم عن كافة تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعى الأخرى.
لا يسمح تطبيق وى تشات بالتواصل مع الصينيين فقط، وإنما يسمح لك بالتواصل مع الصينيين حتى وإن كان كل منكما لا يعرف لغة الآخر، فضغطة طويلة على الرسالة التى تصلك باللغة الصينية من الطرف الآخر، ستظهر لك خيار ترجمة، حيث سيتم ترجمة الرسالة المكتوبة بالصينية إلى اللغة التى قمت بضبط البرنامج بها سواء كانت العربية أو الإنجليزية أو غيرها.
بعد 7 سنوات فقط، نجح وى تشات فى جذب أكثر من 900 مليون مشترك، وتتم مشاركة أكثر من 38 بليون رسالة على منصته الاجتماعية يوميًا. ولم يقتصر التطبيق على تبادل الرسائل، وإنما طورها لتبادل الصور والفيديو والمكالمات الصوتية والمرئية، وكذلك يسمح لك التطبيق دون أن تغادره بلعب الألعاب، ودفع الفواتير، وحجز مواعيد فى عيادات الأطباء، وعمل تقارير عن ملفك فى الشرطة، واستدعاء سيارات الأجرة، وعمل فيديو كونفرنس، والدخول على الخدمات البنكية، كذلك تمتلك الهيئات ومؤسسات الدولة فى الصين حسابات رسمية على وى تشات للتفاعل مع المستخدمين بشكل مباشر.
أصبح وى تشات جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للمواطن الصينى، خاصة بعد دمجه بتقنية الـQR Code، وهى باختصار عبارة عن مربعات صغيرة وكبيرة داخل مربع أكبر، مسجل فيها بيانات ومعلومات، فقط تحتاج لقراءتها فتح ماسح الأكواد على وى تشات وتوجيه كاميرا تليفونك المحمول نحو مربع الكود. فى كل مكان هنا فى الصين، ستجد مربعات الـQR Code، فى السوبر ماركت، فى المحال التجارية، الباعة فى الأسواق الليلية، والتاكسى، وغيرهم.
تحول وى تشات إلى محفظة إلكترونية تغنيك عن محفظة نقودك، حيث تستطيع ربطه بحسابك البنكى، أو شحن حسابك فيه، لتستخدمه فى الدفع لأى شخص وفى أى مكان، عبر تقنية الـQR Code المدمجة فيه، الآن فقط أستطيع أن أتفهم ثورة مربعات الـQR Code التى باتت تغزو كل شىء وكل مكان فى الصين، فمن خلال أحد هذه المربعات تستطيع الدفع، ومن خلال مربع آخر تستطيع معرفة كل المعلومات عن الشخص صاحب الكود، مثل سائق التاكسى الذى تستقله.
استوعبت عمليات الدفع بـ»وى تشات» فى المحال والتاكسى وكل مكان، إلا أن الصين تأبى إلا أن تبهرك أكثر.. فى مطعم شعبى بمقاطعة شنزن، جاء شحاذ مسن، يتسول من الناس بعضا من يواناتهم، وعندما هم عبدالرحمن العربى، المصرى، المقيم فى المقاطعة، بإعطائه يوانًا فوجئ بالرجل يخرج ورقة مطبوعا عليها الـQR Code الخاص بتحويل الأموال على الـ»وى تشات» الخاص به. الموقف قد يكون غريبًا، لكن المدهش حقًا هو معرفة إلى أى مدى نجحت التكنولوجيا الصينية فى اقتحام حياة كل مواطن فى الصين مهما كان وضعه الاجتماعى.
يقول عبدالرحمن العربى لـ«المصرى اليوم»: «لم يعد أحد يحمل فلوس كاش الآن، الجميع يمشى بأمواله فى وى تشات، حتى لو ضاع موبايلك، فإن النظام آمن تمامًا لأن الدفع يكون بكلمة سر أو بالبصمة، وتستطيع أيضًا أن ترسل رسالة إدارة وى تشات لإغلاق الحساب أو إغلاق الدفع، وبالتالى هو نظام آمن تمامًا».
لم تتجاوز التكنولوجيا الصينية نظيرتها الغربية فى جعل حياة المواطن أكثر سهولة فى أمور البيع والشراء ودفع الأموال فقط، وإنما فى كل ما يتعلق بإثبات الهوية، حيث بدأت الصين فى مطلع العام الجارى بتطبيق نظام «الهوية الرقمية» عبر تطبيق وى تشات، الذى تم تطويره من قبل معهد الأبحاث التابع لوزارة الأمن العام الصينية، ليكون بديلًا للبطاقة الشخصية، ويتيح للمواطنين تأكيد هويتهم عبر تكنولوجيا تحديد الهوية بمسح ملامح الوجه، ويمكن استخدامه فى كافة المعاملات التى تتطلب وجود البطاقة الشخصية.
يقول لى تشينج لـ«المصرى اليوم»: «مع بداية هذا العام تحديدًا لم أعد بحاجة لحمل محفظتى الشخصية، لا أحتاج إلى حمل الأموال ولا أوراق الهوية وإثبات الشخصية. يمكننى الآن عبر تطبيق وى تشات، ليس فقط الدفع لأى شخص أريد، وإنما أيضًا إجراء معاملاتى الحكومية أو حجز فى فندق أو السفر عبر الطيران الداخلى، وأى معاملة تتطلب وجود بطاقتى الشخصية، التى أصبحت بطاقة رقمية الآن عبر وى تشات».
لم تعد الصين تخشى منافسة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والذكاء الاصطناعى الغربية لتكنولوجيتها الناشئة، فتطبيق واحد مثل وى شات أصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة الصينية لدرجة أن انسحابه لحساب مواقع أو تطبيقات أخرى بات أمرا غاية فى الصعوبة، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن التسهيلات والدعم الذى تقدمه الحكومة الصينية لهذا التطبيق مثل الدفع الإلكترونى والخدمات البنكية وكذلك تحوله إلى بطاقة رقم قومى، لن تكون متاحة لأى تطبيق آخر.
وتولى الحكومة الصينية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى أهمية كبيرة، تشير إلى أنها فى طريقها لإزاحة الولايات المتحدة عن عرشها فى هذا المجال، فى إطار ما يمكن أن نطلق عليه، الحرب الإلكترونية الباردة بين البلدين، وهو الأمر الذى حذر منه مؤخرًا إريك شميدت، رئيس شركة ألفابت المالكة لجوجل، والذى أكد فى تصريحات خلال قمة الذكاء الاصطناعى والأمن العالمى، أن قيادة الولايات المتحدة للتكنولوجيا الحديثة ستستمر حتى عام 2025، حيث ستلحق بها التكنولوجيا الصينية، التى ستتجاوزها بسرعة كبيرة فى 2030.
نجحت إذن سياسة الصين فى سياسة الاعتماد على الذات فى المجال الإلكترونى مثله مثل غيره، والقضية الآن بالنسبة لبكين لم تعد سماحها بعودة التكنولوجيا الغربية إلى الصين بشروطها، لمنافستها على أكبر نسبة من مستخدمى الإنترنت فى دولة فى العالم، وإنما أصبحت الانطلاق لمنافسة التكنولوجيا الغربية وخاصة الأمريكية فى العالم كله، وفى الولايات المتحدة نفسها.