الشاعر شوتساي، رحلة في عالم القصيدة بحثا عن ماهية الحياة
صحيفة الشعب الصينية ـ
وليد عبدالله، وانغ جينغ:
يعد الشاعر شوتساي، واحد من الشعراء المرموقين في الساحة الأدبية الصينية. حيث استطاع أن يجد أسلوبه الخاصة وشخصيته الشعرية من خلال نقل تجربته الذاتية وتأملاته الفلسفية إلى كتابة القصيدة. ويتطرق شوتساي في أشعاره إلى العديد من المسائل الوجودية والروحية التي تؤرق كل شاعر ومفكر يرغب في معرفة ماهية الحياة.
ولد شوتساي في الريف الصيني بمقاطعة تشجيانغ في عام 1956، وبدأ كتابة الشعر منذ مرحلة الطفولة. نشر 10 دواوين شعرية، كما ترجم لعدة شعراء فرنسيين كبار، مثل بيير ريفردي وريني شار وايف بونفوا، وحصل في عام 2008 على وسام “الفارس” للإبداع من الحكومة الفرنسية.
رغم أن شوتساي لا يتحدث اللغة العربية، إلا أن لديه اهتمام كبير بالشعر العربي، وقد سبق له أن ترجم عدة قصائد لمحمود درويش وأدونيس والشاعر المغربي جلال الحكماوي من اللغة الفرنسية إلى الصينية.
التقى الموقع العربي لصحيفة الشعب اليومية أونلاين الشاعر شوتساي مؤخرا، وأجرى معه الحوار التالي.
هناك سؤال دائما ما يطرح على الشعراء: لماذا يكتبون الشعر؟ فلماذا يكتب شوتساي الشعر؟
لماذا أكتب الشعر؟ لم يكن لدي هدف محدد من كتابة الشعر، كان في البدء هواية، ثم تحول إلى حب، ثم إلى طموح. كان لديّا منذ الصغر توق إلى التعبير، ولم أكن أعرف ماذا أريد تحديدا، لكن كانت هناك أشياء تعتمل في داخلي. وبعد مسيرة طويلة، اكتشفت أنني أكتب الشعر من أجل الحياة، من أجل أن يكون لحياتي معنى.
أول عهد لي بالشعر كان في سبعينات القرن الماضي. كنت حينها تلميذا في الثانوية، أعيش في الريف، ولم يكن لدي أي إطلاع على الشعر الحديث. لذلك كنت أكتب الشعر الصيني القديم. لجوئي إلى الشعر له علاقة بوفاة أمي وأنا في السنة الرابعة من العمر. كان ذلك يشعرني بأنني مختلف عن بقية الأطفال، كنت أشعر بوحدة وحرمان من حنان الأمّ، وهذا جعلني أكثر حساسية للأشياء المحيطة بي، وزرع في داخلي رغبة في التعبير عن الكثير من الأشياء. لذلك، أحببت الكتابة منذ الطفولة، فقد كان المعلم يطلب منّا تقديم نص واحد في الإنشاء كل أسبوع، لكنني كنت أكتب له نصّا كل يوم، والآن أرى بأن الكتابة كانت ملاذا بالنسبة لي أثناء الطفولة.
في عام 1983 التحقت بجامعة الدراسات الدولية ببكين، لم يكن ذلك أمرا سهلا بالنسبة لأطفال الأرياف الصينيين في ذلك العهد، وهو ما فتح أمامي افاقا جديدة للتعلم. كانت حقبة الثمانينات ذروة الصخب الثقافي في الصين، مع بدء سياسة الإصلاح والانفتاح. وكان الشباب يحمل تطلعات وطموحات كبيرة نحو المستقبل، وتأثرت بالجدل الساخن الذي أثاره “شعراء الغموض” في تلك الفترة في الصين. طبعا دراستي للفرنسية، زادت اهتمامي بالشعر أيضا، ومنذ المرحلة الجامعية كنت نشطا على مسرح الشعر بالجامعة. ونشرت أول ديوان لي في عام 1997 تحت عنوان “الوحيد”.
سبق أن كتبت بأن الشعر هو حركة للزمن وحركة للحياة. وأن القصيدة نوعان، قصيدة تكتب من وحي اللحظة، وأخرى تستغرق وقتا طويلا في الإصلاح والتهذيب. كيف تمر القصيدة بمخاض الولادة، وكيف يعيش الشاعر هذا المخاض؟
كتابة الشعر هي عملية ولادة، تشبه مخاض الأم بوليدها، فالأم تمرّ بعملية طبيعية داخل الزمن، تأخذ 9 أشهر، وتنتهي بالولادة، التي تعبر عن الحياة. كتابة القصيدة شيء مشابه، فهي سلوك يتحرك داخل الزمن، وولادة القصيدة تعبر عن حياة جديدة للّغة والفن. وهذه الولادة، أحيانا تكون سريعة من وحي اللحظة وأحيانا تكون بطيئة. ففي البداية تتحرّك مكونات القصيدة داخل ذهن الشاعر في شكل طيف متدفق من الإلهام والصور البلاغية، ثم يلتقط الشاعر اللحظة الحاسمة ليخرج زبدة التزاوج بين الإلهام واللغة، فتولد القصيدة المرتجلة. وهنا تكون العلاقة بين زمن وحياة القصيدة علاقة حب من النظرة الأولى، تلتقي فيها عناصر الولادة بشكل سريع وطبيعي، لكن مثل هذه القصائد تبقى قليلة ونادرة. ليس بالضرورة ان تكون كل القصائد وليدة اللحظة جيدة، لكن أغلبها قصائد جيدة. القصائد المرتجلة عادة ما تكون قصيرة وتأتي في شكل ومضات خاطفة لا تستمرّ طويلا، أما القصائد الطويلة فتحتاج إلى وقت وتفكير وبنية للكتابة.
– هل يرافق الكتابة شيء من “العذاب” بالنسبة للشاعر؟
الكتابة الشعرية قد ترافقها أحيانا عذاب داخلي، لكن أنا لست من هذا النوع من الشعراء. وإذا شعرت بأنه ليس من الممكن أن أكتب القصيدة بالطريقة التي أريد، أرميها في درج المسودات، لأنني دائما أعتقد أنه بالإمكان كتابة قصيدة أفضل. بعد رميها في الدرج، أنتظر اللحظة القادمة المناسبة للكتابة، ولا ألحّ على القصيدة أو أتعارك معها. فالكتابة الشعرية بالنسبة لي تجربة ممتعة ومسليّة.
أنا أؤمن بالتدفق الطبيعي للغة الشعرية، وليس استخراجها عنوة أو التسلّط على القصيدة. لذلك لدي الكثير من القصائد التي بدأت كتابتها ولم أنهيها. وإذا كان لابدّ من الحديث عن عذاب الشاعر مع الكتابة الشعرية. فليست القصيدة هي من تعذب الشاعر، وانما الحياة هي من تعذبْه، فتكتب في داخله قصيدة تنتظر الكلمات واللحظات الزمنية المناسبة للخروج إلى الحياة. لذلك أنا أكتب في كل وقت ومكان: أكتب في القطار، وفي الطائرة، أكتب على أوراق علب السجائر وعلى تذكرة الطائرة. فلا أشعر بأنني أعجز أمام القصيدة أو أُعذّب من أجلها، لأنني أعرف دائما بأن في داخلي الكثير من القصائد التي تنتظر الكتابة. لكن بعد كتابتها، أمارس عليها الكرّ والفرّ للإصلاح والتهذيب، وقد أتركها عشرة أيام أو شهر ثم أعود إليها من جديد. وحتى إذا كتبتها، ووجدت أنني لا أستطيع ان أهذبها إلى المستوى الذي أريد، أرميها في الدرج أيضا. لأنني أقدّر في الكتابة الشعور بالقصيدة، فإذا استطاعت القصيدة أن تخرج كل ما أريد، أعطيها تأشيرة العبور، وإذا فشلت في ذلك حبستها في الدرج. طبعا، بعد كتابة القصيدة، أنا لا أعرف إن كانت قصيدة جيدة أم لا. لكن المهم بالنسبة لي أن تُخرج القصيدة الشعور الذي دفعني لكتابتها.
“العذاب” بالنسبة للشاعر لا يترتب عن الكتابة، وإنما عن عدم القدرة عن الكتابة حينما يشعر أن في داخله شيء يرغب في البوح به. هذا هو العذاب الحقيقي الذي يشعر به الشاعر.
القارئ لشعرك، يلاحظ دائما وجود مفردات غامضة ومتشائمة، مثل الموت والوحدة، السكون، الروح. وقد سبق أن نشرت ديوان شعري تحت عنوان “وجهين للروح” وأخر تحت عنوان “الوحيد”. ومن بين المفردات التي ترددت في قصائدك ولفتت انتباهي، هي الموت والوحدة. ربما يختلف مقصد الشاعر من الموت في القصيدة عن فهم الإنسان العادي. فماذا تقصد بالموت في لغتك الشعرية؟ ولماذا نشعر من خلال قصائدك بنفس حزين يسكن داخلك؟
الجميع لديه نفس المشاعر من الموت، سواء الشاعر أو الإنسان البسيط. لكن ربما أن هذا المفهوم يثار بشكل مبكر عند الشاعر. الموت هي الشيء الطبيعي والحتمي على كل الأشياء، أما الحياة فهي الاستثناء. لذلك كل من كتبت له الحياة على وجه الأرض، هو شخص محظوظ، لأنه كان يمكن ألا يكون. وحينما ننظر من هذه الزاوية إلى الحياة والموت، نجد أن الأحياء هم الأشخاص الناجون من الموت بمحظ الصدفة. سواء تعلق الأمر بالولادة، لأننا لسنا نحن من نقرر مجيئنا إلى الحياة أو سواء تعلق الأمر بالبقاء على قيد الحياة.
– هل تستعمل عبارة “الموت” في قصائدك في شكل مجاز؟
لا…! ليس مجازا، وإنما هي الموت التي تعني فناء وتلاشي الجسد. وهو شيء مخيف بالنسبة لكل إنسان. في البوذية يرمز إلى الموت بعبارة “شنغ مييه” وهي عبارة تتألف من رمزين صينيين: ” حياة وانطفاء”، والرمز الذي يعني “الإنطفاء” يتكون من رسم للنار يعلوه غطاء. لذا فإن الحياة من وجهة نظر أخرى هي شرارة نار موقدة، والموت، هو ذلك الغطاء الذي يأتي ليكتم أنفاس هذه الشرارة ويطفؤها. فالنار تعني النور، وانطفاؤها يعني الظلام، والشاعر أكثر حساسية للظلام الذي يسكن الإنسان، الأشياء المرهقة للحياة، والأشياء التي تنطفئ داخل الإنسان فتترك بقعا معتّمة. نحن دائما ما نرمز للحب بالنار، فنقول نار الحب او شرارة الحب. لذلك نهاية الحب هي أيضا إنطفاء لحياة ما ونار ما داخل الإنسان. لكن من حسن حظ الإنسان أن بإمكانه أن يحب مرة اخرى.
– هل لهذه اللغة الشعرية علاقة بتجربتك الذاتية كإنسان قبل أن تكون شاعرا؟
نعم…! أعتقد أن تجربتي الذاتية قد أثرت كثيرا على كتابتي الشعرية، في الصين نعتقد بأن هناك 3 مصائب كبرى يمكن أن تحل بالإنسان خلال حياته، وأنا مررت باثنتين. توفيت أمي في وأنا في الرابعة من عمري، فعشت طفولتي يتيما في الريف الصيني محروما من حبّها، وحينما كبرت فقدت ابنيّا الوحيدين. عندما رمت الحياة بهذه الأثقال على عاتقي، كان عليّ أن أصمد، ولا أخرج عن طور الإنسان السوي. والشعر كان اللغة التي من خلالها يمكنني أن أعبر عمّا أشعر به.
كان لدي صديق أقدم على الانتحار، وأنا قد سبق لي أن فكرت في ذلك أيضا. لكن في النهاية لم أقدم على الانتحار، وكتبت مرثية في صديقي، تحت عنوان ” هايزي إلى الأبد” (هايزي: اسم علم، ومعناه ابن البحر). الانتحار هو لحظة اندفاع، لكن هذا الاندفاع نحو الموت يجب أن يتغلّب عليه الاندفاع نحو الحياة. بعد ذلك تخليت نهائيا عن هذه الأفكار، رغم مروري بتجارب حياتية أكثر قساوة ومرارة بفقداني لابني وابنتي، وقررت أن أحيّا إلى أخر لحظة.
– هل جعلت منك تجربتك الذاتية القاسية شاعرا متشائما؟
أثناء طفولتي كانت لدي مشاعر متشائمة من الحياة، لكن لاحقا تعرفت على مذهب الزن (مذهب بوذي). ورغم أنني لم أعتنق البوذية، لكنني أحببت مفهوم الزن للحياة والعالم، فقد كان مفهوما قريبا من موقفي من الحياة. فمهما تكن حياة الإنسان ممتعة، يبقى جوهرها في الداخل رماديا ومؤلما. وهذا الجوهر يتحدد من طبيعة حياة الإنسان نفسها، فالإنسان يولد دون خيار ويرحل دون خيار أيضا. لذلك، على الإنسان أن يجد معناً لوجده وحياته، لكي يجعل من حقيقة الوجود المأساوية ممتعة. طبعا يمكن للإنسان ان يعيش دون التفكير في هذه المسائل، فيحيّ حياة تراوح بين التفاؤل والتشاؤم. لكن كل من يفكر في حقيقة الحياة، لا يمكن إلا إن يكون متألما، لأنه أدرك الحقيقة، وهذا نراه مثلا في فلسفة نيتشه وشوبنهاور. فحقيقة الوجود، هي من تجعل المتفكر فيها متشائما، لكن رغم ذلك، يمكن للإنسان أن يكون متفائلا، وهنا تكمن أهمية ايجاد الهدف والمعنى من الحياة والوجود. لأن معرفة حقيقة الوجود يمكن ان تغير موقفنا المتشائم من الحياة، فحينما ننظر إلى الحياة من زاوية الموت، نصبح أكثر حبا وحرصا على حياتنا، وأكثر تثمينا لكل يوما نعيشه. فمعرفة حقيقة الحياة، تبدو في ظاهرها سلوكا متشائما، لكنها هي من تلهب في الإنسان جمرة التوق إلى الحياة، بشكل يفوق التوق المتولّد عن متعة الحياة. مثلا أنا عملت دبلوماسيا، ولو بقيت في الدبلوماسية لصرت الآن سفيرا، كما عملت في مجموعة كبيرة للإنشاء وكان لدي فرصة كبيرة لكي أصبح رجلا ثريا، لكن في النهاية اخترت الشعر. اخترت الشعر لأنني وجدت أن أصبح سفيرا أو رجلا ثريا هو أسهل من أن أكون شاعرا. فأنا لست شاعرا متشائما أو شاعرا وجوديا، أنا “شاعر حياتي”، شاعر محب للحياة، ليس لما تمتلكه الحياة من جاذبية، وإنما لأهمية قيمة الحياة بالنسبة للإنسان، بصفتها استثناء وسط الحقيقة المطلقة التي هي الموت. فنحن محظوظون بأننا جئنا إلى الحياة، وعلينا أن نقدّر هذه الفرصة ونجد لها معنى.
-تحتفل الصين خلال العام الحالي بمرور 40 عاما على سياسة الإصلاح والانفتاح. شهدت الثقافة الصينية نقلة كبيرة خلال العقود الأربعة الأخيرة. خاصة مع موجة “حمىّ الثقافة” التي ظهرت في ثمانينات القرن الماضي. خلال 40 سنة، تغير وجه الثقافة الصينية والأدب الصيني بشكل كبير. بصفتك شاعر، وأيضا باحث في الأدب العالمي، كيف ترى تأثير الأدب الأجنبي على الأدب الصيني خلال فترة الإصلاح والانفتاح، وأين تتجلّى هذه التأثيرات بشكل خاص؟
عقد الثمانينات من القرن الماضي، كان عقدا استثنائيا، لأن الثقافة الصينية عرفت ما سمّي بـموجة “حمّى الثقافة”. لقد عشت ذلك العقد الثقافي الصاخب خاصة في مجال الشعر، لقد كان عقد التحرر الفكري. وهناك العديد من المثقفين والكتاب الناجحين في الوقت الحالي، قد نشأوا في تلك الحقبة.
الأدب والفكر الأجنبي، كان الخلفية الملهمة لـ”حمّى الثقافة”، في ذلك الوقت. هذه الافكار التي كنا ننظر إليها على أنها افكار بورجوازية في السابق، أصبحنا لاحقا ننظر إليها بأكثر انفتاح. وقد لعبت الترجمة دورا كبيرا في هذا الجانب، حيث نجح الصينيون في ترجمة العديد من المؤلفات الأجنبية القيّمة، خاصة المؤلفات التي نحتاجها بإلحاح.
وفي الشعر مثلا، إذا نظرنا إلى المئة عام الماضية من الشعر الصيني، نجد أن الشعر في الصين قد تأثر كثيرا بالشعر الأوروبي وخاصة الفرنسي، وسيما المدرسة الرمزية في بداية القرن الماضي. وحتى قصيدة “لم أعد أهتم” التي كتبها هوشي، واعتبرها بداية الشعر الصيني الحديث، أثبتت بعض الأبحاث أنها ترجمة لقصيدة “فوق السقوف” للشاعرة الأمريكية سارة تيسديل. وفي فن الرواية كان هناك تأثير كبير أيضا للأدب الأجنبي على الرواية الصينية، وهذا يمكن أن نراه في اعمال مويان ويوهوا وغيرهم.
– أين يظهر هذا التأثير بالضبط؟
كان التأثير أساسا في أسلوب الكتابة، الأدب الغربي جعلنا نعيد التفكير في العلاقة بين اللغة والأشياء المراد التعبير عنها. في السابق لم نكن نهتم كثيرا باللغة، كنا نستعملها كوسيلة. لكن بعد الانفتاح على الأدب العالمي، انتقلت اللغة من التعبير عن السلوك الجماعي، والذي عادة ما يصور في “الشعب”، إلى التعبير عن الفرد. ويمكن القول إنه لو لم يكن هناك “الانفجار الأدبي” في أمريكا اللاتينية خلال القرن الماضي، ربما لن ينجح مويان في كتابة أعماله بتلك الطريقة.
ولوم لم يتأثر الأدب الصيني بالأدب الأجنبي، واعتمد فقط على الطرق التقليدية وكتابه الملحيين، ماكان باستطاعته تحقيق الاستنارة، وإذا لم يحقق الأدب استنارة، فمن الصعب أن يحقق نجاحا.
في الحقيقة، إن كل الشعراء والكتاب الصينيين الذين حققوا نجاحا خلال مسيرة الاصلاح والانفتاح، قد استفادوا كثيرا من اطلاعهم على الأدب الأجنبي في تطوير اسلوبهم. لذلك فإن الأدب الأجنبي كان معينا ثريا، نهل منه الأدب الصيني لتحقيق الإبداع. وحتى الكاتب الصيني المشهور لوشون، لو لم يكن مترجما جيدا، ما كان ليكون أديبا جيدا. إذ لا شك في أن الانفتاح على الأدب العالمي، له الفضل في المكانة التي بات يتمتع بها الأدب الصيني في الوقت الحالي، وفي إحراز الرواية الصينية لنوبل للآداب.
لذا، إذا أردنا أن يستمر الأدب الصيني في التطور، فيجب الحفاظ على روح الانفتاح والتبادل مع الأدب العالمي.
علينا أن نوحد بين الجذور الثقافية للأدب الصيني والانفتاح على الادب العالمي. فاليوم لا يمكننا القفز على مئة سنة من التأثر بالثقافة الغربية، ولا يمكن أن نضع الأدب الصيني في مقابل الأدب الغربي. لقد استفدنا من الثقافة الغربية وهذه الاستفادة قد دخلت التراث الأدبي الصيني المعاصر. فالقضية ليست استعمال أو توظيف التقنيات الأجنبية في الثقافة الصينية، وإنما عملية انفتاح طوعي على العالم، فأنا انسان كوني وانادي بالكونية. وفي الحقيقة أنا ما زلت أحن لعقد الثمانينات لأنه كان عقد الإلهام والمُثل بالنسبة للكاتب الصيني. والان هناك شعراء صينيون يشعرون بفقدان الدافع نحو مواصلة الكتابة، لأنهم لم يعايشوا تلك المرحلة.
رغم أنك لا تتحدث اللغة العربية، لكنك على احتكاك دائم بالشعر العربي. وقد سبق لك أن ترجمت لمحمود درويش وأدونيس قصائد من اللغة الفرنسية. ودائما ما تشارك في الأمسيات الشعرية التي ينظمها قسم اللغة العربية بجامعة الدراسات الدولية ببكين. فكيف اكتشفت الشعر العربي، وكيف وجدته؟
أنا لا أتحدث اللغة العربية، لكنني تعرفت على اللغة العربية في مرحلة مبكرة من عمري. لأنني حينما درست في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، كان قسم اللغة الفرنسية بجانب قسم اللغة العربية. وكان لدي العديد من الأصدقاء الذين يدرسون اللغة العربية، وكنت على معرفة بالخصائص الصوتية للّغة العربية. وأثناء عملي دبلوماسيا في السنغال، تعرفت على عادات المسلمين وأعيادهم، مثل شهر رمضان وعيد الأضحى. وحينما زرت المساجد في داكار استمعت لتلاوة القران، وقد ترك ترتيل القران في نفسي أثرا عميقا حول روحانية هذه اللغة. كان هذا أول احتكاك لي باللغة العربية قبل أن اتعرف على الشعر العربي.
بداية اطلاعي على الشعر العربي كان مع جبران خليل جبران، وقد أحببت أشعاره كثيرا. أما بالنسبة للشعر العربي المعاصر، فقد تعرفت عليه خاصة من خلال ادونيس. أناوأدونيس لدينا صديق فرنسي مشترك، وهو الشاعر الفرنسي ايف بونفوا. وحينما طلبت من بونفوا أن يرشّح لي شاعرا فرنسيا اخر لأقرأ له وأترجم له. رشّح لي ادونيس دون شعراء فرنسا. لكن حينما قرأت الاسم، سألته: هذا ليس اسما فرنسيا؟ قال: نعم! انه شاعر يكتب باللغة العربية، وأشعاره ترجمت إلى الفرنسية، كان ذلك في عام 2000. وفي عام 2004، قامت مجلة “الأوديسا” اللبنانية بدعوتي أنا وشاعرين صينيين اخرين، وقامت بنشر بعض قصائدنا بعد أن ترجمتها من الفرنسية.
في هذه المجلة اكتشفت قصيدة لأدونيس، بالعربية والفرنسية، فترجمتها إلى اللغة الصينية. ثم اعاد ترجمتها الأستاذ شيوه تشينغ قوه من العربية. كانت قصيدة جميلة كتبت على اسلوب سؤال وجواب.
لاحقا قام الأستاذ شيوه تشينغ قوه بدعوة أدونيس إلى جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، فحضرت تلك الندوة وتعرفت عليه. طبعا، يعد الأستاذ شيوه تشينغ قوه المترجم الرسمي لأدونيس، وقد ترجم له ديوان “عزلتي حديقة”، الذي وجد صدى واسعا داخل الصين. بعد ذلك، تعدد زيارات أدونيس إلى الصين، وحصل على جائزة “الأيل التبتي الذهبي” في مهرجان الشعر الدولي بالصين. وبتلك المناسبة، طرحت على المترجم شيوه تشينغ قوه التعاون في ترجمة مجموعة شعرية لأدونيس احتفاءا بحصوله على الجائزة. قبل ذلك، كنت قد قرأت له العديد من قصائده الشعرية المترجمة إلى الفرنسية. كما تعرفت من خلال أدونيس على وضع الشعر العربي القديم والمعاصر، ووضع الثقافة والمجتمعات العربية. وقد أعجبني في أدونيس أنه أعاد قراءة الشعر العربي القديم من منظوره الخاص.
كما تعرفت على الشعر العربي من خلال محمود درويش أيضا. وقد عرفت من خلال اللغة الفرنسية، القيمة التي كان يتمتع بها محمود درويش في فرنسا. فعندما زرت مدينة ارل الفرنسية، أخبرني أحد الشعراء هناك بأن درويش قد قام بأمسية شعرية في المسرح الروماني بالمدينة، وحضرها جمهور غفير.
قرأت شعر درويش باللغة الفرنسية، وكان حقا شاعرا عظيما. لكن للأسف، في النهاية لم تنجح عمليته الجراحية وفارق الحياة. لذلك، وللتعريف به طلبت مني “مجلة الأدب العالمي” الصينية ان أترجم بعض قصائده. ورغم أن قصائده المترجمة إلى اللغة الصينية ليست كثيرة، لكنني قرأت له الكثير الأشعار المترجمة إلى اللغة الفرنسية، وأحتفظ له بديوان كبير. الشاعر المغربي جلال الحكماوي، كان أيضا نافذة أخرى للتعرف على الشعر العربي، وقد زارني في بكين، وترجمت له بعض القصائد إلى اللغة الصينية.
الشعر العربي يمتلك تقاليد كبيرة، مثل الشعر الصيني، لكنه شهد عدة تغيرات عبر التاريخ. أما الشعر العربي المعاصر فرغم المشاكل التي يواجهها، لكنه يجتهد من أجل تحقيق طفرة واختراق جديد، والاندماج بشكل أعمق مع مشاعر الإنسان الحديث، وامتلاك حساسية حديثة في التعبير. لذلك أرى أن الشعر العربي الحديث يمر بفترة تغيرات كبرى في الوقت الحالي.