مقالة: مسيرة 40 عاما من الإصلاح والانفتاح في الصين… أين يكمن سر ّ النجاح؟
صحيفة الشعب الصينية ـ
كاتب المقال: البروفيسور جانغ وي وي رئيس مركز ابحاث الصين في جامعة الفودان ـ
مترجم المقال: مهندس محمد السلامي باحث في الشئون الصينية:
في مثل هذا اليوم من شهر ديسمبر عام 1978 يكون قد مضى أربعون عاما على اطلاق صافرة الإصلاح والانفتاح في الصين، حيث انتهجت الصين خلالها صيغة مغايرة للوصفة الغربية للنهوض مكّنتها من النهوض بسرعة فائقة أذهلت العالم، وبحسب مؤشر تعادل القدرة الشرائية فإن الصين قد أصبحت اليوم أكبر اقتصاد في العالم، ناهيك عن كونها الاقتصاد الثاني من حيث الحجم بعد الولايات المتحدة الامريكية ، واستطاعت ان تكوّن اكبر قاعدة صناعية مؤسسية على مستوى العالم ، وتمكنت من تكوين اكبر طبقة متوسطة الثراء على مستوى العالم ، وأصبحت الدولة الأكثر تصديرا للسياح في العالم ، وتمكنت من نسج اكبر شبكة ضمان اجتماعي وصحي لجميع مواطنيها البالغ عددهم 1.4مليار نسمه ، لتصبح بذلك المحرك الرئيسي لنمو الاقتصاد العالمي .
والتساؤل المطروح: كيف استطاعت الصين تحقيق ذلك النجاح العظيم؟ وللإجابة على هذا التساؤل نحتاج الى اجراء مقارنة معيارية ودولية من عدة أوجه.
اولا: الوجه الاول
بالمقارنة مع دول العالم النامية (دول العالم الثالث)، فإن معظم تلك الدول خلال العقود القليلة الماضية قد اختارت سلوك أحد طريقين وصيغتين للتغيير، الصيغة الاولى وهي الاقتداء تماما بالنموذج الغربي لا سيما فيما يخص صيغة النظام السياسي والاقتصادي، والصيغة الثانية التي رفضت النموذج الغربي جملة وتفصيلا، ورفعت راية القومية، وفرضت عزلة عن كل ما هو غربي، وسلكت طريقا معاكسا ومنعزلا عن الطريق الغربي، وما لبث كل من سلك الطريقين ان اكتشف بعد حين ان لا فائدة ومصلحة من سلوك اي من هذين الطريقين…
حيث سقطت معظم الدول النامية التي اقتدت بالنموذج الغربي في دوامات وصراعات سياسية وتناقضات عرقية ودينية وقبلية، في ظل عدم تحسن الوضع المعيشي للناس، وبقيت قلة قليلة من الدول التي نجت من تلك الاضطرابات، الا انها لم تستطع تحقيق نهضة صناعية او تتفنّن في تقنية عصرية …
بينما وقع النموذج الاخر من الدول التي رفضت النموذج الغربي جملة وتفصيلا فريسة للإفرازات القومية والنازية المتخلفة، وواجهت مشاكل لا حصر لها في عجز الميزانية وجفاف السيولة النقدية، وشلل السوق، وانعدام التقنية، وتردي الاحوال المعيشية للناس، ومواجهة الكوارث والأزمات …
الصين تجنبت اختيار ايّ من هذين الطريقين المتطرفين، ومنذ إطلاق الصافرة الاولى للإصلاح والانفتاح قررت الصين تعلّم كل ما هو مفيد من تجارب الحضارات الاخرى، لكنها خلال هذه العملية الطويلة والمعقدة لم تتخلّ أبداً عن خصوصيتها الذاتية والحضارية ….
في شهر مايو 1988 زار أحد رؤساء دول افريقيا الصين، وعند لقاءه بالزعيم دنغ شياو بينغ عرّاب الإصلاح والانفتاح سأله سوالا: كيف نتعامل مع الغرب؟ فكانت اجابة دنغ مختصرة في أربع كلمات: خُذ الحسَن ْ واترك السئ …. وعندما طلب من الزعيم دنغ ان يشرح له عن تجربة الإصلاح والانفتاح التي لم يكن قد مضى على إطلاق صافرتها سوى عشر سنوات، أجابه دنغ: تحرير الفكر، والتفكير المستقل، ورسم السياسة وفق الواقع الحقيقي لنقطة الانطلاق ولا يقتصر ذلك على الاقتصاد بل والسياسة ايضا ….
وبنظرة مستدركة للماضي القريب فيما يخص تصدير الغرب للعولمة، والتي هي في الاساس عولمة الليبرالية الجديدة التي تتضمن ما يعرف ب (التحرر، والخصخصة، واقتصاد السوق، ونشر الديموقراطية او ما يعرف بالدمقرطة)، أدركت الصين بنظرة ثاقبة أنّ عولمة الاقتصاد اصبح اتجاها تاريخيا لا يمكن الا السير معه في نفس الاتجاه ، لكن العولمة بحد ذاتها سلاحٌ ذو حدين اذا تم استخدامها بشكل صحيح فانها ستكون سببا لرخاء وسعادة الشعوب، واذا لم تستخدم بشكل صحيح فانها ستجلب الكوارث على الشعوب والأوطان، ولذلك فقد كانت عملية الإصلاح والانفتاح في الصين على الخارج عملية استراتيجية تقوم على جلب النافع ودرء الضار ، ولهذا فقد ادركت الصين ذلك بوضوح جلي عندما تعاملت مع العولمة وجعلتها محصورة على العولمة الاقتصادية لا العولمة السياسية.
وبالتالي فإن الصين لم تفرط ابدا في الاشتراكية، بل استفادت من خبرتها الجيدة بالاشتراكية في تطويع النموذج الغربي لعولمة الليبرالية الجديدة لتتفوق بذلك على الرأسمالية الغربية، وتخرج في النهاية منتصرة في معركة العولمة بنتائج عمَّ خيرها ومغانمها على الشعب الصيني.
الأمر الذي اختلف تماما بالنسبة للدول النامية الأخرى التي احتضنت العولمة ولم تستطع تطويعها للأسف فوقعت ضحية لها وسقطت في شراك الأزمات والاضطرابات.
وللأسف الشديد فإن تلك الدول لم تحسن استغلال الاستثمارات الأجنبية في صالح الاقتصاد الوطني، بل أضحى عصب اقتصاد تلك البلدان تحت رحمة رأس المال الأجنبي ومؤسساته المالية التي تحكمت بكل شئ لمصلحتها الخاصة، وتمت تصفية ثروات تلك الدول وضخ مدخرات شعوبها الى أسواق المال في وول ستريت بواسطة كبار تماسيح المال العالميين.
-ثانيا: الوجه الثاني
بالمقارنة مع الدول الاشتراكية ودوّل اقتصاد البروسترويكا في شرق اوروبا، فتجدر الاشارة الى ان هذه الدول قد اتخذت احدى صيغتين للتغيير والإصلاح، الاولى صيغة إصلاح منفتحة وتقدمية، والثانية صيغة إصلاح محافظة وحذرة.
حيث تتميز الصيغة الاولى للتغيير بطريقة الإِبطال المزدوج، بمعنى اتخاذ النموذج السياسي الغربي كمرجعية شاملة، واستبدال نظام الحزب الواحد بنظام التعددية الحزبية، واتخاذ النموذج الاقتصادي الغربي كمرجعية شاملة، وما بين عشية وضحاها يتم خصخصة الاقتصاد، الأمر الذي أدّى إلى نتائج كارثية لصيغة الإِبطال المزدوج التي اختارها الزعيم السوفيتي الأسبق جورباتشوف، وكانت النتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي السريع، وانهيار الاقتصاد السوفيتي بشكل شامل، وانهيار مستوى المعيشة للشعب بشكل عام.
أما الصيغة المحافظة للتغيير فإن اهم ما يميزها هو المحافظة على أسس النظام السياسي والاقتصادي السابق، بمعنى ان الاقتصاد يظل اقتصاد تخطيطي اشتراكي بشكل رئيسي مع تعديلات واجراءات محدودة في السوق وذلك لما يتغشّى تلك الدول من رهبة وخوف كبيرين من اقتصاد السوق، وموجة العولمة، وفتح السياج امام ثورة الاتصالات والمعلومات والإنترنت.
وفي نهاية المطاف لم تستطع الدول التي سلكت هذه الصيغة انشاء وتأسيس نموذج سياسي واقتصادي ناجح وحقيقي يستطيع ان يعيش وينافس، الأمر الذي جعل تحسين مستوى معيشة شعوب تلك الدول أمرا صعب المنال
لقد تجنبت الصين اختيار اي من هاتين الصيغتين للإصلاح والتغيير، واتخذت من (صيغة الإصلاح الاستقرارية البنّاءه) طريقة جديدة للنهضة والإصلاح.
ولعل اهم ما يميز هذه الصيغة الجديدة هو التغيير الجذري والشامل للإقتصاد مع ما يتطلبه من اصلاح سياسي ضروري وذلك لتمهيد الطريق امام متطلبات الإصلاحات الاقتصادية الشاملة والتي ستؤدي الى تحسين مستوى حياة ومعيشة الناس في نهاية المطاف.
ولو اتخذنا من تجربة الإصلاح الاقتصادي الصينية كمثال للبحث والدراسة، فإننا سنجد أن الصين استطاعت استغلال التفوق الغربي في اقتصاد السوق لاستنفاد ما يدعم السوق من موارد متاحة بفعالية عالية، غير انها من جهة اخرى استطاعت استغلال واستنفاد الميزة الكبرى للإشتراكية في تحقيق التوازن الكلّي لتجعل الصين الدولة الوحيدة في العالم التي لم تقع في فخ ّ الأزمات المالية والاقتصادية، وها هو الاقتصاد الصيني اليوم يقف على اعتاب الثورة العالمية الصناعية الرابعة بعد ان تمكن من إبهار العالم في رفع مستوى معيشة ربع سكان الارض من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 156 دولارا عام 1978 الى زهاء 10الاف دولار بعد أربعين عاما (وفقا لبيانات البنك العالمي).
-ثالثا وأخيرا
بالمقارنة مع الدول الغربية التي ظلت خلال العقود القليلة الماضية تسوّق لدول العالم دمقرطة الأنظمة، وتحرير اقتصاد الاسواق في إطار أيدولوجي بما يعرف بالأصولية الديموقراطية وأصولية اقتصاد السوق، وغير ذلك من الحيل والبدع الغربية والتي كانت بمثابة طعم خدع الكثيرين لينتهي بخداع الغربيين أنفسهم في نهاية المطاف، وانزلق الجميع الى منزلقات متعددة ، وأبدع الغرب في اختراع مسميات لا حصر لها لما يعرف بالمنزلقات والانتكاسات، مثل منزلق ( دخل الطبقة المتوسطة) ، ومنزلق ( تاسيتس و ثوسيديس) … وغير ذلك من المنزلقات والتسميات .
وفي الحقيقة فإن أكبر منزلقين خلال العقود القليلة الماضية هما منزلق (الأصولية الديموقراطية)، ومنزلق (أصولية اقتصاد السوق)، فمن استطاع التغلب على هذين المنزلقين فقد نجا ونجح كالصين مثالا، ومن وقع في هذين المنزلقين فقد فشل وهلك كدول غربية غير قليلة ودوّل غير غربية كثيره.
فقد أدخلت (أصولية اقتصاد السوق) الكثير من الدول الغربية أزمات مالية وأزمات ديون وأزمات اقتصادية متلاحقة، ولم تجدي محاولات هذه الدول خلال أكثر من عقدين في رفع مدخولات الناس ورفع مستوى معيشتهم.
أما بالنسبة (للأصولية الديموقراطية) فكانت وما زالت شعارا وذريعة غربية للتدخل في شئون الدول الاخرى حيث عمل الغرب مؤخرا من خلال تسخيره تقنية الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي في التدخل في شئون الدول وتغيير الأنظمة،
والغرب بذلك العمل يكون كمن حمل حجرا ثم رماه على قدميه، فقد تحول الربيع العربي الى شتاء عربي قارس وطويل مما أدى الى تدفق الملايين من اللاجئين باتجاه اوروبا.
وكما يقال فإن السحر في النهاية سينقلب على الساحر، فقد حدثت تغيرات هائلة في الساحة السياسية الامريكية وذهب بعض المراقبين للقول بأن النظام السياسي الامريكي يعيش حالة احلال وتغيير ذاتي، وما كان ذلك ليحدث بدون الدور المحوري الذي لعبته تقنية المعلومات واعلام مواقع التواصل الاجتماعي.
وخلاصة القول فإن الصين قد نجحت في تجاوز (منزلقي الأصولية المذكورين)، ففي اشكالية اقتصاد السوق فان الصين قد أصرّت على اعتماد اقتصاد السوق الاشتراكي الذي يربط بين دور السوق ودور الحكومة بشكل تكاملي وتناسقي، وعلى الرغم من أن هذه الصيغة الجديدة لا زالت في إطار النضج والاكتمال، إلا انها قد حققت للصين نهضة شاملة وسريعة.
أما ما يتعلق بإشكالية الديموقراطية، فإن هناك إنجازات ايضا، وبالرغم من ان الصين لا زالت تتلمس وتستكشف الطريق في هذا الجانب إِلَّا اننا نستطيع ان نجزم بأن صيغة نظام (الاختيار +الانتخاب) في مجملها تتفوّق على الصيغة الغربية لنظام (الانتخاب) فقط.
والديموقراطية الصينية التي تنساب من أعلى إلى أسفل بشكل عملي وتوافقي في مجملها أفضل من الديموقراطية الغربية التي ما زالت تتكشف عن وجهها القومي النازي البغيض أكثر فأكثر وما بروز تيارات الشعوبية الان في اوروبا وامريكا الا إثبات لذلك.
كما أن التخطيط الاستراتيجي والقدرة التنفيذية الصينية وكذلك القدرة على إعادة تشكيل وإدارة المجتمع تتفوق على نظيرتها الغربية.
وبالعودة الى استقراء مسيرة 40عاما من الإصلاح والانفتاح، فإن الصينيين قد اجتهدوا وناضلوا وثابروا، ولا يعني أنهم لم يجدوا صعوبات ومخاطر في الطريق، كما لا يعني انهم لم يخطئوا خلال تلك المسيرة، إلا ان ثمة امر ما يتعلق باختيار الطريق الاستراتيجي لتنمية البلاد فإنهم وبلا شك قد اختاروا الطريق الصحيح، الذي مكنهم من تحقيق نهضة شاملة في كافة المناحي والأصعدة، وأصبحت الصين العظيمة احدى الدول القلائل التي وجدت بحق طريق النجاح والازدهار.