الصين والعرب .. تاريخ ثقافي حافل وآفاق مستقبلية مشرقة
محمود سعد دياب:
جاء كتاب موسوعة “تاريخ التبادلات الأدبية الصينية العربية”، لكي يؤرخ لحركة التبادل الثقافي بين الدول العربية والصين، ويرصد رحلة التبادلات بين الأدباء العرب والصينيين منذ القدم من الحضارات الصينية والعربية، والترجمات الصينية الأولى للأدب العربي، كما يسلط الضوء على الأدب الصيني في الدول العربية، والأحداث التاريخية التي واكبت محطات حركة التبادلات الأدبية بين الجانبين، حيث ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور حسين إبراهيم، المستشار الثقافي والتعليمي والعلمي السابق لدى سفارة مصر بالصين، بالتعاون مع الدكتورة نجاح أحمد عبد اللطيف.
طريق الحرير تلاقح ثقافي وتبادل تجاري وتعاون اقتصادي
وقد تميّزت خطوة “خروج” حقوق النشر للنسخة العربية للموسوعة، خلال فعاليات معرض بكين الدولي للكتاب (12 – 26 أغسطس 2019)، التي تعتبر إنتاجا مشتركا بين مؤسسة بيت الحكمة ومؤسسة دار نشر شاندونغ التعليمية، وإصدارها بأهمية كبيرة في تعزيز توريث روح التعاون الودي لطريق الحرير ودفع التواصل والتبادل الثقافي بين الصين والدول العربية، خصوصًا وأن طريق الحرير قديمًا لم يكن فقط مجرد مشروعات اقتصادية وتبادل تجاري، ولكن كان أيضًا تلاقح ثقافي وتبادل معرفي علمي وأدبي عمل على التقريب بين الشعوب العربية والشعب الصيني المحب للخير والسلام، وهي نفس الفكرة التي استدعتها مبادرة الحزام والطريق بعد أن أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج عام 2013، بهدف تحقيق تنمية اقتصادية ومنفعة مشتركة متواكبة مع تبادل ثقافي يعمل على التقريب بين شعوب الدول النامية ويوحد أفكارهم وأحلامهم في مستقبل مشرق يحقق الرفاهية والتقدم المنشودة.
في هذا التقرير؛ نرصد من خلال آراء خبراء ومثقفين عرب ماضي التلاحم العربي الصيني ثقافيًا وحاضره، فضلا عن استشراف لما سيحدث في المستقبل.
الدكتور حسين إبراهيم، المستشار الثقافي والتعليمي والعلمي السابق لدى سفارة مصر بالصين، قال إن الأمة العربية أمة ذات حضارة عريقة عرفت الشعر منذ زمن بعيد، وأن “المعلقات” خير شاهد على ذلك، مؤكدًا أن درجة النضج والإتقان التي كانت عليها المعلقات، تكشف عن أن تاريخ الشعر العربي يسبق المعلقات وأن هناك مراحل نمو وتطور قد سبقتها، مضيفًا أن افتقار العرب آنذاك لوسائل تسجيل متقدمة هو ما حال بينهم وبين تسجيل أشعارهم الأولى، وأن القومية العربية قد اختلطت بقوميات أخرى واستوعبت ثقافاتها وأضافت إليها فحققت بذلك إنجازات باهرة في مختلف العلوم، وقدمت للحضارة العالمية إسهامات غير مسبوقة.
المبعوث الصيني الإمبراطوري ضربة البداية
وأضاف أن للأمة العربية تاريخ طويل من التواصل التجاري والثقافي والأدبي بينها وبين الصين، وأن الصين قد عرفت العرب منذ القرن الثاني قبل الميلاد، منذ رحلة المبعوث الصيني تشانغ تشيان إلى الغرب في عصر الامبراطور هان وو دي، ثم كان بناء طريق الحرير المعروف، ثم تبعه طريق الحرير البحري أو ما يعرف باسم طريق التوابل ليتدفق التجار على الصين بأعداد كبيرة وتشهد التجارة بين الأمتين ازدهارا عظيما، وأنه كان من البديهي أن يحمل التجار من الجانبين مع بضائعهم ثقافة بلادهم وآدابها لينتعش التبادل الأدبي والثقافي يوما بعد يوم.
وأشار إلى أن كتاب «سجلات تاريخية» لسي ما تشيان، أورد كلمة تياوتشي، والتي كان يقصد بها العرب، وهي ترجمة صوتية للفظة “تاجيك” أو “تازي” أو “طازي”، وكلها ترجع إلى لفظة “طيء”، وهي القبيلة التي هاجرت من اليمن إلى شمالي الجزيرة، وتعد هذه هي أقدم التسجيلات عن العرب، وأنه في كل من الكتب القديمة سواء العربية أو الصينية تسجيلات عن الآخر، ومن الكتب الصينية القديمة هناك «كتاب هان» و«كتاب هان الأخيرة» و«سجل الاستدراكات» و«تونغ ديان» و«كتاب تانغ القديم»، وأنه من الكتب العربية التي جاء فيها ذكر للصين هناك «مروج الذهب» للمسعودي، «ورحلة ابن بطوطة» و«رحلات سليمان السيرافي» ، وكتاب «الفهرست» لابن النديم، وأن الأخير فيه جزء مهم يتناول التبادلات الثقافية والأدبية بين الأمم القديمة، مثل الترجمة العربية للأدب الهندي، كما أشار الكتاب أيضا إلى ترجمة الأدب الصيني، ولكن مع الأسف لم يرد به إلا القليل جدا، وبهذا يكون «الفهرست» هو الكتاب العربي القديم الوحيد الذي أشار إلى الأدب الصيني تاركا لنا مساحة من البحث.
ألف ليلة وليلة والعجائب
ولفت إلى أنه في قصة «صاحبة خان الجسر الخشبي»، والتي فيها تستخدم صاحبة الخان الخدم، لحرث الأرض وبذر البذور وسقي الزرع وجمع عيدان القمح وعجن الدقيق وصناعة الفطائر، ثم تضعها للضيوف فيتحولون جميعا بعد أن يأكلوها إلى حمير، أن هذه القصة جاء بها التجار العرب إلى الصين، ويمكن العثور على أدلة على ذلك في الأدب العربي، مؤكدًا أن الباحثون الصينيون يرون أن هذه القصة دليل على تأثر الأدب الصيني بالعربي، وأنه بالمثل تأثر الأدب العربي بالصيني، مشيرًا إلى أن قصة «سو إي يحصل على الذهب من بيت الأشباح» والواردة في كتاب «العجائب» لصاحبه قو شينتسي لها مثيل في ألف ليلة وليلة، وأن بعض الباحثين يرون أن هذه القصة الصينية قد وصلت إلى العرب مع الصورة المشرقة لمدينة تشانغ آن في عصر أسرة تانغ.
عرب تولوا مناصب رفيعة في الصين
وأكد المستشار الثقافي والتعليمي والعلمي السابق لدى سفارة مصر بالصين، أنه لم يقتصر الأمر بين العرب والصين على التبادلات الثقافية والتجارية والأدبية، بل حتى على صعيد الأفراد كان هناك تواصل بين الجانبين؛ فمن العرب من شغل مناصب رفيعة في الصين، مثل العربي لي يان شينغ الذي عاش في عصر أسرة تانغ والذي بلغ به إتقانه للصينية وبلغ به نبوغه أن اجتاز الفحص الامبراطوري، وأنه كان هناك أيضا الأخوان بوشو تشينغ، وبوشو قينغ واللذان عاشا في الصين فترة طويلة، والأخير تولى إدارة السفن، بل وشارك في إدارة البلاد، وشغل مناصب عديدة، فكان صينيا تماما.
وأضاف أن بوشو تشينغ كان أيضا شاعرا وله كتاب معروف اسمه «علم النقاء» كتبه في عصر أسرة تانغ، وفي عصر أسرة يوان كان هناك العربي البارز السيد الأجل شمس الدين عمر، وكان الإمبراطور تاي تسونغ (627-639 هجرية/1229-1241م) قد عينه في سنة 627 هجرية (1229م) رئيساً تنفيذياً (والياً) على ثلاث ولايات مهمة، والعائلات التي تحمل لقب دينغ، ونا هم أحفاد هذا الرجل العظيم، وأن هناك عرب آخرون ليسوا بالعدد القليل شغلوا مناصب رفيعة وشاركوا في إدارة الصين، هذا بالطبع بخلاف الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة الذي زار الصين وسجل مشاهداته فيها في كتابه المعروف.
«البردة» للبوصيري على ألواح خشبية بالصينية
وأشار إلى أنه في عام 1890 ترجم ما آن لى «البردة» للبوصيري، ونشرها في مدينة تشينغ دو نسخا مطبوعة على ألواح خشبية باللغتين العربية والصينية، وبسبب تقليد ترجمة القصيدة لكتاب الشعر الصيني الكلاسيكي «كتاب الشعر» وطريقته في تقسيم الشعر إلى أربع شطرات أطلق على النسخة الجديدة من ترجمة «البردة» «كتاب الشعر العربي». وكانت هذه هي أول قصيدة عربية تترجم إلى الصينية.
العصر الحديث
وبالنسبة للعصر الحديث، أوضح الدكتور حسين إبراهيم، أنه لأسباب دينية، سافر بعضٌ من أشقائنا الصينيين المسلمين في ثلاثينيات القرن العشرين إلى مصر للدراسة في أزهرها، وأن هؤلاء الطلاب الذين صاروا علماء أجلاء قدموا إسهامات جليلة في التبادلات الثقافية الصينية العربية، منهم من ترجم «ألف ليلة وليلة»، ومنهم من ترجم «الأرض» للشرقاوي، ومنهم من ترجم أعمالا أدبية صينية بارزة مثل رائعة ماودون «منتصف الليل» ومنهم من ألف الكتب ومنهم من أفنى عمره في ترجمة معاني القرآن الكريم.
الإصلاح والانفتاح دفع التبادلات إلى الذروة
وأشار إلى أنه قد شهدت الدول العربية ولاسيما مصر ولبنان وسوريا والعراق تطورا وازدهارا في الأدب الحديث والمعاصر، إذ ظهر أدباء كثيرون، ليس هذا فحسب بل كان من بين هؤلاء الكتاب نجيب محفوظ الذي استطاع أن يحصل على جائزة نوبل في الآداب، وأن الأدب العربي بلا شك جزء مهم من الأدب العالمي، مضيفًا أنه عندما نتأمل تاريخ التبادلات الأدبية بين الصين والعرب، سوف نكتشف أن الصين قد ترجمت، وقدمت، وبحثت في الأدب العربي في فترات زمنية مختلفة، وأنه بعد تأسيس الصين الجديدة، وبسبب الروابط السياسية والدبلوماسية والاقتصادية الوثيقة بين الجانبين، تطورت التبادلات الثقافية والأدبية لتصل إلى ذروتها بعد الإصلاح والانفتاح.
وأضاف أنه بعد الإصلاح والانفتاح، تطور تعليم اللغة العربية في الصين بسرعة شديدة، وأقبل عدد من أساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين ومحبي الأدب العربي، على ترجمة الأدب العربي ترجمة مباشرة، بعد أن كانت ترجمة النصوص العربية يعتمد معظمها على الترجمة من الروسية والإنجليزية.
ونوه إلى أنه في عام 1956، غزت القوات البريطانية والأمريكية لبنان، فهب الشعب العربي كله ثائرا مناضلا، وانتفضت شعوب العالم -بما فيها الشعب الصيني- تدعم الشعب العربي في نضاله العادل، وأنه في تلك الفترة، نشرت الصين عددا كبيرا من المجموعات القصصية والقصائد العربية، وشرعت في التعريف الجاد بالأدب العربي، وأنه في الوقت نفسه، راح الكثيرون من الكتاب الصينيين المعروفين والشخصيات الثقافية ذات الشأن تدعم بإبداعها الأشقاء العرب فضلا عن تواصلهم مع جمعيات الكتاب العرب، ومن ثم كانت هذه الفترة فترة خاصة جدا في التبادلات الأدبية بين الصين والعرب.
قواسم مشتركة
ولفت الدكتور حسين إبراهيم إلى أنه هناك قواسم مشتركة كثيرة بين المسيرة التاريخية للصين والمسيرة التاريخية للبلدان العربية، وأنه لذلك عندما نشرع في اختيار الأعمال الأدبية العربية التي نقدمها للقارئ الصيني، لابد وأننا سنصادف موضوعات تلقى تعاطفا وتجاوبا منه، مثل النضال من أجل التحرير الوطني، وقضايا الريف والأرض، والأعراف الإقطاعية، والقيود على النساء تلك الأعمال الأدبية التي تصور المجتمع والأسرة والحياة، وتستكشف الفلسفة والرمزية وغير ذلك.
تكثيف الترجمات
وألمح إلى أنه قد بدأ عالَم الأدب الصيني ينتبه للأدب العربي الحديث في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، فترجمت أعمال لجبران خليل جبران، وطه حسين، ومحمود تيمور وقليل من الأدب القديم والحديث، وأنه في الخمسينيات ترجمت رواية الكاتب اللبناني جورج حنا «كهان الهيكل»، والمجموعة القصصية «دماء لا تجف» للكاتب المصري عبد الرحمن الخميسي، ثم «عودة الروح» للكاتب المصري توفيق الحكيم، و«الأرض» للمصري عبد الرحمن الشرقاوي، و«هاتف المغيب» للمصري جمال الغيطاني، و«المصابيح الزرق» للسوري حنا مينة، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للسوداني الطيب صالح، و«رجال تحت الشمس» للفلسطيني غسان كنفاني، و«الخبز الحاف» للمغربي محمد شكري، و«ريح الجنوب» للأديب والروائي الجزائري المعاصر عبد الحميد بن هدوقة في الثمانينات، والمجموعة القصصية «طرب» للكاتبة السعودية الأميرة مها محمد الفيصل وغيرها.
العرب أمة شعر
وأكد ان الأمة العربية أمة شعر؛ وأنه بخلاف المعلقات التي أشار إليها من قبل، فإن إنجازات العرب من الأدب العربي في القرون الوسطى كان أعظمه من الشعر والذي ينافس في جماله الشعر في عصر أسرة تانغ في الصين، حيث كتبت أعداد كبيرة من القصائد، وظهر شعراء عظام كثيرون مثل أبي نواس، والمتنبي، وأبي العلاء المعري.
وأضاف أن الشعر قد استمر بعد ذلك متألقا متطورا في مختلف البلدان العربية، وأنه بالتزامن مع اهتمام المترجمين الصينيين بترجمة القصة، أولوا أيضا عناية بترجمة الشعر العربي وتقديمه إلى الصين، فصدرت «مختارات من الشعر العربي القديم»، و«مختارات من الشعر العربي الحديث»، وأنه قد ترجمت قصائد شعراء قدامى، كما ترجمت جنبا إلى جنب أشعار البياتي وسعاد الصباح وأدونيس وفاروق جويدة وغيرهم من الشعراء العرب المعروفين.
النثر .. إنجازات أخرى
وبالإضافة إلى الإنجازات العظيمة في مجال الشعر العربي القديم، قال الدكتور حسين إبراهيم أن النثر حق أيضا إنجازات واضحة سواء على صعيد الأدب المكتوب أو الأدب الشعبي، فعلى صعيد الأدب الشعبي هناك قصص شعبية طويلة مشهورة تطورت بالتزامن مع تطور الأدب المكتوب ولاسيما الشعر، وأن كل ما هنالك أن الشعر وجد من يسجله كتابة أما القصص الشعبية فقد جرى تناقلها جيلا بعد جيل شفاهةً، وأنه كما عنيت الصين بترجمة الأدب العربي القديم والتعريف به، ترجمت أيضا القصص الشعبية وقدمتها إلى القارئ الصيني ومنها كليلة ودمنة، وعنترة بن شداد، وحي بن يقظان ورحلة ابن بطوطة وسيف بن ذي يزن وغيرها.
على بابا والأربعين حرامي ورحلات سندباد
وأشار إلى أنه ليست هناك تسجيلات دقيقة عن تاريخ أول مرة قُدمت فيها رواية «ألف ليلة وليلة» مترجمة إلى الصينية، إلا أنه منذ بداية القرن الثامن عشر، وبعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية واجتياحها العالم، بدأت منذ بداية عصر أسرة تشينغ، هذه التحفة الأدبية الفريدة إلى الصين، وأنه مع ذلك، ظهرت أول ترجمة صينية لـ «ألف ليلة وليلة» في عام 1903، حين ترجم تشو تسوا رين قصة “على بابا والأربعين حرامي”، وفي عام 1917 علق يان يان على قصة «رحلات سندباد» والتي سبق ترجمتها، وفي عام 1930، ترجم وانغ يوان فانغ مقتطفات من «ألف ليلة وليلة» “الليالي العربية”، وفي عام 1948، ترجمت تشينوا «الحمال والبنات الثلاث»، و «الفانوس السحري» وغيرهما من القصص.
وأوضح أن العالم الصيني المسلم ناشوين، يعتبر أول من ترجم «ألف ليلة وليلة» في ثلاثة مجلدات، والتي ظلت هي النسخة المتداولة في الصين زمنا طويلا حتى ترجمها مرة أخرى في عام 1982 كاملة في ستة أجزاء، ولأن الطلب عليها كان أكثر من العرض أعيد طباعتها عدة مرات، وأنه بعد ترجمة ناشوين لألف ليلة وليلة توالت ترجمتها من قبل مترجمين آخرين، وأنه في خلال مائة عام بلغ عدد التراجم المختلفة لـ«ألف ليلة وليلة» نسخة مختلفة على الأقل، وأن ترجمة «ألف ليلة وليلة» إلى الصينية، تعتبر جزءً مهما من التبادلات الأدبية بين الصين والعرب.
الوعي الوطني بعد ثورة 1919
وأكد أنه في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، ظهرت مدرستان أدبيتان مهمتان في العالم العربي؛ المدرسة المصرية الحديثة، ومدرسة أدب المهجر الأمريكي، فبعد الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً بعد ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني من أجل الاستقلال، استيقظ الوعي الوطني المصري، وتعززت العوامل الواقعية في الإبداع الأدبي، وتشكل ما عرف باسم المدرسة الأدبية الحديثة والتي اختلفت عن النغمة الرومانسية السابقة.
تأثير أدب المهجر
وأوضح أنه قد انضم إلى المدرسة الجديدة -التي استمرت حتى السبعينيات- توفيق الحكيم ومحمود تيمور وغيرهما، وبسبب الاحتلال والقمع العثماني في لبنان، هاجر عدد كبير من سكانها إلى الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وأستراليا، فأسس جبران وميخائيل نعيمة مدرسة المهجر في أمريكا في إبريل عام 1920 ليهب نسيم الأدب العربي من بلاد العم سام، ويتجاوب مع الأدب العربي الأم ليأخذ به إلى مرحلة جديدة على صعيدي الشكل والمضمون.
مكانة جبران خليل جبران
ولفت إلى أنه يبقى جبران ونجيب محفوظ هما أشهر الكتاب العرب على الإطلاق؛ لذلك فإن الأعمال الأدبية التي ترجمت لهذين الكاتبين العظيمين كانت هي الأكثر على الإطلاق، وأنه بفضل ما كان لجبران من شهرة، بدأت الصين في ترجمة أعماله منذ زمن بعيد، وأن كل أعماله على اختلاف فترات إبداعه من رواية ونثر وشعر حظيت باهتمام المترجمين الصينيين.
وأضاف أنه في عام 1931 ترجمت الكاتبة الصينية المعروفة بين شين رائعته «النبي»، والتي كان لها صدى عظيم بين القراء بما فيها من فلسفة شرقية وما تتميز به من لغة سهلة، وترجمت بين شين لجبران أعمالا أخرى منها على سبيل المثال «الأجنحة المتكسرة» و«الروح المتمردة» و«العاصفة» و«الدموع والضحك»، وأن المثير للانتباه هو صدور تراجم مختلفة في الآونة الأخيرة للمجموعة الكاملة لجبران، بل إن بعض هذه الأعمال ضمت صورا لجبران ورسائل بخط يده، وكان رواج أعمال جبران في فترة ما يكشف عن اهتمام دور النشر بأعماله وشغف القراء الصينيين به.
فضل صاحب نوبل نجيب محفوظ
وأشار إلى محطة مهمة في تاريخ الأدب العربي في الثالث عشر من أكتوبر عام 1988، عندما حصل الأديب المصري نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب، حيث عم الفرح في ربوع مصر كلها، خصوصًا وأن محفوظ هو أول كاتب عربي يحصل عليها؟، مضيفًا أنه استطاعت روايات محفوظ وقصصه القصيرة ببراعتها وحرفيتها العالية أن تصل إلى مستوى عالمي متميز، جاء هذا نتيجة لمزج نجيب محفوظ بين تقاليد الرواية العربية الكلاسيكية وروح الأدب الأوروبي، وحرفيته العالية في الكتابة.
اهتمام الصين بأديب نوبل
وأوضح أن دور النشر والمترجمون الصينيون، قد انتبهوا لأهمية محفوظ وأحبوا أعماله من قبل حصوله على نوبل بزمن طويل، فترجموا له ما يقرب من عشرة أعمال، مضيفًا أنه في بداية عمل محفوظ بالكتابة كانت قصصه مستمدة من التاريخ المصري القديم ثم تحول بعد ذلك إلى الكتابة الواقعية، وأنه قد صدرت له في الخمسينيات “الثلاثية” وهي روايات “بين القصرين – قصر الشوق – السكرية”، والتي بلغت قمة الإبداع الأدبي، مضيفًا أن أعمال محفوظ تتميز بالتنوع والثراء وكثرة شخصياتها وتنوعها، ويتطرق نجيب محفوظ في أعماله إلى وصف طبقة بعينها، ووصف الأسرة، وحتى أشخاص المجتمع بشكل منفرد مستقل؛ فشكلت أعماله لوحة للحياة الاجتماعية المصرية واسعة امتدت قرابة نصف قرن من الزمان، وأنه بعد حصول نجيب محفوظ على نوبل ترجم له الصينيين كثيرا من أعماله مثل «رادوبيس»، و«بداية ونهاية»، و«القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق»، و«الكرنك»، و«ملحمة الحرافيش» و«حضرة المحترم» و«اللص والكلاب» و«دنيا الله» وغيرها.
كلمة محفوظ للقارئ الصيني في الثلاثية
وأضاف أنه إن كانت «أولاد حارتنا» عملا بارزا من أعمال نجيب محفوظ، إلا أن الثلاثية تظل عمله الأهم، وأن هذا العمل الأدبي الذي يعد علامة في تاريخ الأدب المصري بل في تاريخ الأدب العربي الحديث كله، حيث ترجمت الثلاثية في عام 1986 إلى الصينية على أيدي تشوكاي، ولي واي تشونغ، ولي تشن تشونغ، وأنه في مقدمة الجزء الأول من الثلاثية «بين القصرين»، كتب نجيب محفوظ بخط يده كلمة بعنوان “إلى القارئ الصيني” أعرب فيها عن سعادته بترجمة ثلاثيته إلى الصينية وتقديره لهذا العمل الذي من شأنه أن يعزز بين التواصل الأدبي بين البلدين راجيا ألا يتوقف هذا التواصل، وأنه قد حصلت هذه النسخة المترجمة للثلاثية على الجائزة الثانية للكتب المميزة في دورتها الأولى، وكان هذا سابقا لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وأنه بعد ذلك ترجمت الثلاثية مرة أخرى، وأن هذه المرة ترجم ليتسون تسي جزءٌ، ويانغ ناي قوي جزءٌ وتشن تشونغ ياو الجزء الأخير.
ترجمة موجز تاريخ الأدب
وأكد أنه إلى جانب تراجم القصة والشعر والأعمال الشعبية كانت هناك أيضا تراجم لتاريخ الأدب، على سبيل المثال ترجمة لوشياو شيو وياو جيون ده لكتاب هاميلتون كيب «موجز تاريخ الأدب العربي» عن الإنجليزية، وترجمة لي تشن تشونغ كتاب «تاريخ الأدب المصري المعاصر» للعالم المصري شوقي ضيف، وترجمة تشي بو هاو لكتاب حنا الفاخوري «تاريخ الأدب العربي» وترجمة وانغ وينهو، ويوان يي فن لكتاب أحمد هيكل «الأدب القصصي والمسرحي في مصر».
معاني القرآن الكريم
وأضاف أنه قد استمرت تراجم النصوص الدينية إلى الصينية، وكان أهمها ترجمة معاني القرآن الكريم، وأن أشهر التراجم ترجمة ماكين والتي أقرتها المملكة العربية السعودية وطبعتها مطابع الملك فهد جامعة فيها بين القرآن وترجمة معانيه في كتاب واحد، وأنه لأن القرآن فيه إيقاع وقافية يشبه الشعر فقد راعى ذلك العالم الصيني لين سونغ في ترجمته لمعانيه فتفوق على ماكين قليلا، مبررًا حديثه عن إدراج تراجم القرآن والسنة في كتاب موسوعة تاريخ التبادلات الأدبية العربية الصينية، أنه كتاب يعنى بالأدب العربي تقديمه وترجمته؟، ولأن القرآن والسنة فيهما من الأدب قدر كبير يستحق الاهتمام.
الأعمال البحثية في الأدب
وأشار إلى أنه تزامنا مع زيادة التراجم يوما بعد يوم، شهدت الأعمال البحثية بدورها ازدهارا وتعمقا، وزخما بدأ بعد الإصلاح والانفتاح، حيث كانت فرق البحوث في اللغة العربية تضم أساتذة ومتخصصين على أعلى مستوى، والأبحاث التي قاموا بها، والكتب التي ألفوها لا يتسع لها الحصر، منها دراسة تشي مينغ مين: «مقارنة بين “شعر الزهد” في العصر العباسي و “شعر الرهبنة ” في عصر أسرتي تانغ وسونغ»، وأطروحة قان لين جيوان «جبران في الصين»، وأطروحة شييه يانغ «دراسة في الأسلوب اللغوي عند نجيب محفوظ»، وكتاب شيوه تشينغ قوا «بستان الأدب العربي الكبير»، وكتاب دينغ شوهونغ «الأدب الشعبي العربي»، وأطروحة يوء يوء «ابن المقفع و الفكر الإصلاحي»، وكتاب تشونغ جيكون «تاريخ الأدب العربي» وغير ذلك كثير من المؤلفات ، وهذا بخلاف عدد لا بأس به من المعاجم في اللغتين الصينية والعربية.
وأكد أنه مع ذلك، فإن ما نشرته الصين عن الأدب العربي وإن كان كثيرا إلا أنه يظل قليلا لا يمكن مقارنته بما نشر من أبحاث في الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية؛ هذا لأن خطواتنا بدأت متأخرة نسبيا، وليس لدينا عدد كافٍ من الباحثين، ولكن على كل حال العجلة قد دارت وسوف تستمر.
كنوز أدبية صينية
وأشار إلى أنه في الأدب الكلاسيكي الصيني كنوز معروفة في العالم كله، وقد أولى العلماء العرب اهتماما كبيرا بالكلاسيكيات الصينية؛ فقد ترجموا «محاورات كونفوشيوس» و«كتاب الطاو» عدة مرات على أيدي مترجمين مختلفين. كما ترجموا كتاب «تشوانغ تسو»، و«كتاب التغيرات»، و«كتاب «فن الحرب لسون تسي بين»، و«كتاب الشعر»، وترجموا أيضا أشعار لي باي ودوفو، وبايجيو يي، وتاو يوان مينغ، ولي تشينغ تشاو، ووانغ واي، ولي شانغ يين وغيرهم من الشعراء، وهناك أيضا تراجم مبسطة لـ«قصص الأساطير الصينية» و«الأساطير الصينية القديمة» و«رحلة إلى الغرب» و«على حافة الماء» و«حلم المقصورة الحمراء».
ترجمة الأدب الحديث
أما ترجمة الأدب الحديث فحدث ولا حرج، حيث قال إنه في البداية كانت هناك ترجمة «تشيو يوان» لقَوَه موَه روَه والتي كتب لها المقدمة الكاتب المصري المعروف عبد الرحمن الشرقاوي، كما قدمت إلى القارئ العربي ثلاثية باجين «التيار الجارف»، و«المقهى» للاوشي، و«منتصف الليل» لماو دون، و«عاصفة رعدية» و”شروق الشمس” لتساو يو، وأن معظم أعمال لوشيون قد ترجمت إلى العربية أيضا مثل: «سيرة أكيو»، و«كونج إي جي»، و«يوميات مجنون»، و«الدواء» وغيرها، وأنه قد انتبه الباحثون العرب لأهمية ترجمة الأعمال الأدبية الصينية المعاصرة في التعريف بالمجتمع الصيني وحياة شعبه وسلوكياته فترجموا «أغنية الشباب» لتشانغ شيان موا، و«زهرة السوسن» لرو تشي جيوان و«الحب لا ينسى» لتشانغ جييه، و«المرأة نصف الرجل» لتشانغ شيان ليانغ و«جنازة مسلم» لهدى وغيرها من الروايات الصينية المعاصرة.
الأدب الصيني القديم الأكثر رواجًا عربيًا
ولقد استهوى الأدب الصيني القديم قطاعا كبيرا من القراء العرب والباحثين، حتى إن الكاتب الكبير جمال الغيطاني قال عن كتاب الطاو ما معناه: “إن هذا الكتاب يشبه الفلسفة العربية الصوفية؛ إذ يبحث في جوهره عن الحقيقة، وسواء كان كتاب الطاو أو الكتب الصوفية فأنا أجد في كليهما بيتي الروحي”.
تطور التراجم عن الصينية
وأكد أنه بسبب اختلاف الدول العربية في ظروف كل دولة وقوتها، كان هناك تفاوت من دولة لأخرى في حجم الأبحاث وتراجم الأدب الصيني؛ فتراجم مصر ولبنان وسوريا والعراق للأدب الصيني ودراساتها فيه كثيرة نسبيا وجيدة إلى حد كبير، أما في سائر الدول العربية فالأمر ليس كذلك، وأن التراجم عن الصينية شهدت تطورا ملحوظا محققة إنجازات لا بأس بها ولا تزال، وعلى الرغم من عدم التكافؤ بين التبادل العربي الصيني في الأدب، إلا أنه يبقى “تبادلا” بما تعنيه الكلمة.
تبادل زيارات
وأشار إلى أنه هناك تبادل على صعيد الأشخاص أيضا فكم من باحثين صينيين زاروا البلاد العربية وشاركوا في فعالياتها الثقافية مثل “مهرجان مربد للشعر في العراق، و”مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث” بالمملكة العربية السعودية، و”ندوة العلاقات الصينية العربية والحوار بين الحضارتين الصينية والعربية” بالمملكة العربية السعودية أيضا، و”المؤتمر العربي الصيني في لبنان”، و”المؤتمر الدولي الثالث عن جبران” والذي أقامته جامعة ميريلاند الأمريكية، “ومنتدى اللغة والثقافة المصرية الصينية” الذي أقامته جامعة قناة السويس في مصر، وغيرها من الفعاليات التي غطتها في حينها وسائل الإعلام العربية والصينية.
زيارات أدباء عرب للصين
وأضاف أن أهم الزيارات التي قام بها أدباء عرب إلى الصين هي زيارة الكاتب المصري الكبير جمال الغيطاني في عام 2007 والشاعر السوري المعروف أدونيس عام 2009، وأنه قد التقى كل واحد من الأديبين العربيين خلال زيارته بالكاتب موايان والكاتب يانع ليان وغيرهما من الكتاب والباحثين الصينيين، وجمعت بينهما ندوات ومناقشات.
جمعية بحوث الأدب العربي الصيني
ولفت إلى محطة مهمة في سياق التبادلات الصينية العربية، عندما تم تأسيس جمعية بحوث الأدب العربي الصيني وأنشطته، والتي نظمت العديد من المناقشات الأدبية الوطنية وأجرت مناقشات حول الظواهر الأدبية والكتاب، والأعمال العربية المهمة مما أدى إلى تعميق فهم الأدب العربي ودراسته، وظلت الجمعية على اتصالٍ منتظم بالكُتاب العرب، وكثيرا ما وجهت لهم دعوات للمشاركة في الأنشطة ذات الصلة بالتبادلات الأدبية الصينية العربية.
التكنولوجيا مفتاح مستقبل مشرق للتبادل الثقافي
من ناحيته قال الدكتور أحمد السعيد رئيس مؤسسة بيت الحكمة للاستثمار الثقافي والنشر، إن الصين مهتمة بالتكنولوجيا في نقل المعرفة، موضحًا أن ذلك كان واضحًا في معرض بكين للكتاب الأخير، حيث خصصت إدارة المعرض جناحًا لأول مرة للنشر الإليكتروني والروسم المتحركة والنشر الرقمي والتعليم الرقمي، وأن مؤسسة بيت الحكمة قررت الاستفادة من تلك التكنولوجيا الجديدة، وحصلت على أول مكتبة رقمية صينية من 300 ألف عنوان سوف تتاح في المكتبات العربية، وأنها بدأت بالمكتبة الرئاسية في الإمارات بأبوظبي باللغة الصينية على موقعها الإليكتروني.
النشر الرقمي
وأضاف السعيد أنه في مجال النشر الرقمي هناك أكثر من شركة صينية تحول المحتوى العربي الورقي لمحتوى رقمي، وأن مؤسسة بيت الحكمة، نجحت في تقديم أول مكتبة عربية رقمية تتاح في الصين تحوي حتى الآن 50 ألف عنوان، مشيرًا إلى أنها كتب عربية أصلية تتاح للطلبة الصينيين الدارسين اللغة العربية، خصوصًا وأن هناك 43 جامعة في الصين تدرس اللغة العربية.