في الذكرى السبعين لتأسيس الجمهورية… الصين تنهض بصمت
موقع الصين بعيون عربية ـ
د. شاهر إسماعيل الشاهر:
تحتفل جمهورية الصين الشعبية بالذكرى الـ 70 لتأسيس الجمهورية الذي يوافق في الأول من أكتوبر لهذا العام. وكان المؤرخ البريطاني الشهير “أرنولد توينبي” قد تنبأ بأن القرن التاسع عشر سيكون قرناً للمملكة المتحدة، والقرن العشرين قرن للولايات المتحدة الأمريكية، أما القرن الحادي والعشرون فسيكون قرناً صينياً، هذا التنبؤ جلب القلق والخوف للكثير من الغربيين، وتسبب جزئياً في نظرية “التهديد الصيني”، والخوف من أن نهضة الصين ستجعلها مهيمنة على غرار سلوك الدول الغربية بعدما أصبحت قوة عظمى. والصين اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وحققت إنجازات لفتت أنظار العالم في السنوات الأخيرة بفضل سياسة الإصلاح والانفتاح وتبني اقتصاد السوق الاشتراكي، وهناك الكثير من التجارب في هذا المجال.
لقد تركت “ثقافة الانسجام” بصمات عميقة في الشخصية القومية للشعب الصيني المحب للسلام والوفاق، وطريق الحرير قديماً يشهد على تاريخ الصين في السعي إلى التواصل الودي والتعاون المشترك مع شعوب العالم، فقد كان طريقاً للتجارة، ومجالاً للتفاعلات الثقافية، ورسالة سلام من الشعب الصيني لجميع البلدان الأجنبية، على أساس الاحترام المتبادل وحسن الجوار والتعاون والصداقة
ويمكن تلخيص نظرة الصين إلى العالم بمايلي:
– “الشرق الأوسط” شكل مقبرة للدول الكبرى، لذا فالحكومة الصينية شديدة الحذر، تركز دائماً على لعب دور الوساطة لا أكثر، تماماً كما فعلت خلال مفاوضات الولايات المتحدة الأمريكية مع إيران. وترى أن قدرة الولايات المتحدة على الهيمنة على “الشرق الوسط” ضعفت وأصبح من الصعب الاعتماد عليها. وهذا الوضع سوف يدفع دول المنطقة إلى التعاون مع الصين.
– التركيز الصيني على دول جنوب أوروبا، لأنها دول ضعيفة اقتصادياً منذ تعرضت لأزمة اليورو وبالتالي هي الأرخص في ثمن الأراضي والعقارات والشركات.
– أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لإفريقيا على مدى 9 سنوات متتالية.
– سيكون للصين منطقة تجارية واقتصادية تنافس في مساحتها وقوتها الاقتصادية منطقة الأطلسي التجارية التي أخضعت العالم كله لإرادتها وأنظمتها ولقنته مفاهيمها التجارية والثقافية على امتداد ثمانين عاماً هي عمر الجماعة الأطلسية.
– الصين تدافع في المقام الاول عن مصالحها، ولا تولي مسألة المعاملة بالمثل إلا النذر اليسير من اهتمامها.
واليوم، تقود الصين اتجاهاً جديداً بديلاً للعولمة الغربية كما تقول، هذا الاتجاه يمكن أن نسميه “العولمة الصينية”، التي تقوم على نشر قيم وخصائص الثقافة الوطنية الصينية من خلال الاستناد إلى مجموعة مرتكزات، أهمها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فالسيادة من وجهة نظر الصين هي القيمة المعيارية الأعلى. فتسعى إلى نشر نموذجها للعولمة عبر مشروع الحزام والطريق الذي يعتمد على التمدد من خلال اقناع دول العالم بهذه الفكرة، لا عبر الاكراه والاستغلال، بل عبر تحقيق المصالح المشتركة. فالصين تطرح فكرة التعاون بديلاً لفكرة الاستغلال، واستراتيجية الفائدة للجميع بدلاً من فوز طرف وخسارة آخر، وبالتالي الانتقال من النظرية الواقعية في العلاقات الدولية إلى النظرية الاعتمادية. ولعل دعوة الرئيس الصيني إلى الاسراع في تبني نموذج العولمة دليل واضح على التحول في نمط التفكير الصيني من نيوليبرالية السوق الى نيوليبرالية الدولة، وبالتالي الانتقال من رأسمالية تنظمها آليات السوق إلى رأسمالية تنظمها الدولة.
2021 ، 2049 عامان ينتظرهما الصينيون :
وكان الرئيس شي جي بينغ منذ أن استلم مقاليد الحكم في 14 آذار 2013، وضع تصوراً لما يجب أن تكون البلاد عليه، وفق جدول زمني تألف من مرحلتين: تنتهي الأولى في العام 2021 وتكون فيها الصين “مجتمعاً معتدل الرفاه” وهي الذكرى المئوية الأولى لولادة الحزب الشيوعي. وتنتهي المرحلة الثانية في العام 2049 ذكرى المئوية الأولى لقيام الجمهورية وتكون فيها ” دولة متطورة بالكامل”. فواصلت الصين التركيز على سياساتها الناجحة في مكافحة الفقر، فازداد معدل نصيب الفرد من الدخل القابل للصرف في البلاد فعلياً بنسبة 6.3 بالمائة. وانخفض عدد الفقراء في المناطق الريفية بنسبة ـ12.4 مليون نسمة، وبلغ عدد الفقراء الذين تمت مساعدتهم عبر إعادة توطينهم في أماكن جديدة أكثر من 2.4 مليون نسمة. وتمّ إصلاح أكثر من 6 ملايين وحدة سكنية متداعية في مناطق الأحياء الفقيرة المكتظة، وإصلاح البيوت المتداعية في الريف لصالح أكثر من 3.8 مليون عائلة. ورفع 400 مليون صيني من الفقر بين عامي 1978- 2000. لكن لازالت هناك بعض التفاوتات الإقليمية بين المناطق الساحلية الغنية والمقاطعات الداخلية الفقيرة، وهنا برزت المعجزة الصينية في إعادة تعريف شرعية الحكومة، وتنشيط مرونة الدولة بحيث لا تفقد السيادة والسلطة، وصياغة واستنساخ مجموعة خاصة من العلاقات لإنتاج عولمة على الطريقة الصينية باستخدام القوة الناعمة التي أثبتت نجاحها.
وفي العام 2016 استضافت الصين قمة مجموعة العشرين في مدينة خانجو الأمر الذي عزز مكانة الصين الدولية ورسخ زعامة الرئيس شي جين بينغ الداخلية وعلاقاته الدولية. وساهم انخراط الصين في تنظيم أعمال هذه القمة والتفكير بطرق انجاحها بترسيخ قناعات الصين في ميدان الحوكمة الاقتصادية العالمية، فأصبحت تطرح نفسها زعيمة للتيار العالمي للتجارة الحرة والحوكمة العالمية، بينما نصب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه مدافعاً عن الحمائية التجارية، وهذا أمر مثير للاهتمام، أي كيف تحولت الصين “الشيوعية” إلى متزعم لتيارات العولمة، بينما الولايات المتحدة “زعيمة العالم الحر” تعمل على مناهضة العولمة والليبرالية الجديدة ؟
فالصين تدرك أنها لن تحقق التكافؤ العسكري مع الغرب إلا إذا حققت التكافؤ الإقتصادي والتكنولوجي معه، وبالتالي فإن مصلحة أمنها القومي الاستراتيجي تتطلب أن تحافظ على علاقات تبادل تجاري وتكنولوجي مع الغرب وأن تتحفظ في ردود أفعالها أمام استفزازاته المستمرة إلى أن تصل إلى المستويات التي ترغب بها لنفسها اقتصادياً وتكنولوجياً ومن ثم عسكرياً.
ويعود السبب في مبالغة الصين في ضبط نفسها سياسياً، أمام استفزازات الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، إلى النظرة الاستراتيجية العميقة التي تنظر الصين عبرها إلى نفسها وإلى العالم الخارجي.
وإذا كانت برلين قد شهدت ولادة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، فإن دمشق شهدت ولادة التحوّل التاريخي في السياسة الخارجية الصينية. فقد اتسم الموقف الصيني بشأن الأزمة السورية برفض التدخل الخارجي بصفة عامة، والتدخل العسكري على وجه التحديد، ومن ثم رفـض أي إجـراء فــي مجـلس الأمــن مــن شـأنــه أن يفـتــح الـطــريق أمام احتمال هذا التدخل، وهو ما يفسر استخدامها الفيتو مرات متتالية ضد قرارات بشان سورية. وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها الصين حق النقض من أجل دولة عربية. كما أن سورية هي الدولة الوحيدة التي استخدمت الصين من أجلها حق الفيتو /7/ مرات. فسوريا تُعد رصيداً إستراتيجياً للصين، لا من ثروتها الطبيعية، بل من زاوية ثقلها الجيوسياسي على صعيد الموقع الجغرافي والمكانة الحضارية، والدور الذي تلعبه في معادلات السياسة الشرق أوسطية. وترى بكين أن الفيتو الروسي-الصيني المشترك سيفتح “نافذةً من الفرص” لحلّ الأزمة السورية….
أستاذ في كلية الدراسات الدولية
جامعة صون يات سين- الصين