الصين .. حكاية نجاح ملهمة وحلم عمر تحقق في الوقت المناسب
موقع الصين بعيون عريية ـ
بكين ـ محمود سعد دياب*:
على الرغم من حداثة عهدي في الكتابة عن الصين “تقريبًا منذ عام 2012″، إلا أنني أعتبر نفسي الآن واحداً من الناس الذين استطاعوا أن يبحروا في ذلك المحيط الكبير لمسافة بعيدة قليلًا عن الشاطئ، وأعتبر نفسي تلميذًا نجيبًا وسباحًا ليس سيئًا وأتمنى من الله أن يمد لي العمر كي أستكمل اكتشاف ذلك العالم الغني، ومحاولة نقلها لكي تستلهم شعوبنا العربية تلك التجربة الفريدة التي بدأت من الصفر حتى وصلت لأن تكون الصين حاليًا القوة المحركة الأولى للنمو الاقتصادي العالمي بنسبة تقدر بـ 30% ومن المنتظر أن تتزايد مع تطبيق تكنولوجيا الجيل الخامس.
ومع اقترابي من عامي الأربعين، أتذكر نفسي منذ نعومة أظافري، وأنا مغرم بالصين عندما قرأت حديث الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصححه الترمذي عندما قال: “يأتيكم ناس من المشرق فاستوصوا بهم خيرًا”، والمقولة الشهيرة التي راجت وقت ازدهار التجارة بين العرب والصينيين على طريق الحرير: “اطلبوا العلم ولو في الصين”، باعتبار أنه نهاية العالم، وفي بلدي مصر نطلق على الصين “كوكب الصين الشقيق”، نظرًا لبعد المسافة الكبير، فتولدت لدي رغبة جامحة في استكشاف الجانب الآخر من العالم، في ذلك الوقت “الثمانينات والتسعينيات” كان إيجاد كتب تتحدث عن الصين أمرًا صعبًا، فلم يكن أمامي إلا كتاب “حول العالم في 200 يوم” لأنيس منصور، ولم أستطع أن أستقي منه الكثير نظرًا لأن رحلة الكاتب الراحل إلى الصين اقتصرت على هونج كونج.
لكني ظللت مولعًا بالصين والثقافة الصينية، وحكايات التنين الأسطورية والأباطرة القدماء وطريق الحرير، خصوصًا وأنها ثقافة ثرية وغنية ومتنوعة مثل الثقافة المصرية، كما أن تاريخ الصين طويل مثل مصر، حتى توفرت لي الفرصة للتواصل مع المركز الثقافي الصيني بالقاهرة ومتابعة نشاطاته والكتابة عنها، فقد أردت أن أنقل تجربة الصين في التطور والنمو وكيف وصلت إلى هذا المستوى المتقدم لكي تحتل المرتبة الثانية عالميًا وتنافس على الصدارة خلال 70 سنة فقط من ثورتها على الظلم والفساد، وفي 2019 سنحت لي الفرصة للغوص في أعماق الصين والمكوث لمدة عام تقريبًا في العاصمة بكين، ومنذ أن وطأت قدمي أرض بلاد التنين الأسطورية عزمت على استكشاف ثقافة ذلك البلد العريقة وعادات وتقاليد شعبها وتاريخه لكي أجد نفسي في النهاية أمام حكاية مشابهة للتاريخ والثقافة المصرية مع بعض الاختلافات.
الصين مثلها مثل الشعوب العربية، أمة مظلومة مقهورة، لم يخرج جيشها لمحاربة جيرانها، ولم يشهد التاريخ احتلالها أي دولة، لذلك فإن جيشها كان فقط للدفاع عن الأراضي الصينية، ولعل سور الصين العظيم في العاصمة بكين خير شاهد على رغبة الصينيين في السلام وحماية أنفسهم من شر المخاطر الخارجية دون الاعتداء على أحد، في الماضي تعرضت الصين لاحتلالات مختلفة مثلها مثل العرب، كان أكبرها احتلال جنكيز خان لأجزاء كبيرة من الصين وقت اجتياح المغول دول الشرق قبل أن يوقفهم الجيش المصري ويدحر جيوشهم في عين جالوت، وانتهت بالاحتلال الياباني التي يعتبر الأبشع في تاريخ الشرق نظرًا لما ارتكبه من مجازر وقتها يندى لها الجبين.
وبعدما ودعت أوروبا عصر الظلمات وسعت لاحتلال الدول أصحاب الحضارات في الشرق مثل مصر والصين والعراق والهند واليمن، فشلت بريطانيا العظمى في اختراق الصين واحتلالها لأن أباطرتها في ذلك الوقت أحكموا قبضتهم على البلاد، وفطنوا إلى أن مساعي إنجلترا لتدشين تجارة مع الصين، ما هي إلا وسيلة للاختراق، فقررت إيقاف تجارة الشاي الذي كانت تحتكر الصين إنتاجه عالميًا وقتها وذلك قبل اكتشاف الأمريكتين وزراعة الشاي في دول أمريكا الجنوبية، فقررت الملكة البريطانية تدمير الصين من خلال حرب الأفيون الأولى والثانية، وأطلقت حربها من الهند المستعمرة بريطانيًا وقتها، لكي تغرق الشعب الصيني في المخدرات، ولذلك كان من السهل عليها أن تحقق هدفها وتحتل أجزاء من الصين التي استطاعت أن تسترد أراضيها بالتفاوض، لكن بريطانيا ظلت حتى وقت قريب متحكمة في بعض تلك المناطق مثل هونج كونج، وعن طريق التجارة أيضًا احتلت البرتغال مكاو. إذن فإن التجارة التي تجلب منافع وتجعل الاقتصاد مزدهرا، استغلها الغرب للاحتلال ونهب ثروات وخيرات البلاد والعباد، عكس ما عهدناها مع طريق الحرير القديم، وحتى مع مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس شي جين بينج عام 2013، تجلب الخير والمنفعة المشتركة لجميع الأطراف.
في كتب التاريخ، درسنا كيف كان طريق الحرير يصل الشعوب العربية وفي مقدمتها مصر بالصين، حيث كانت القوافل التجارية قديمًا تمر من البحر الأحمر لكي تستقر في مدينة السويس ثم تتجه الرحلة غربًا إلى مستقرها النهائي في مدينة الإسكندرية عاصمة مصر وقتها، حيث كانت الملكة المصرية كليوباترا ترتدي الحرير الصيني قبل قرابة 3000 سنة، وعملت بالتعاون مع الصينيين على تأسيس أول تعاون صيني مصري مشترك، بتدشين صناعة الحرير في مصر، واستقدمت العمال الصينيين المهرة لكي يؤسسوا مصانع الحرير في العاصمة الإسكندرية، وعندما قدمت إلى الصين لم أستغرب استخدام زهرة اللوتس بكثرة في الأماكن العامة كشعار، وتأكدت وقتها أن زهرة اللوتس رمز الحضارة المصرية القديمة، قد جاءت إلى الصين عبر هذا التلاقي الثقافي والإنساني، وفي عهد الحضارة الإسلامية، ازهردت التجارة على طريق الحرير، وتواجد العرب في كل مكان في الصين وتركزوا في مدينة شيان العاصمة وقتها في محافظة شانشي حاليًا، وفي محافظة نينغشيا.
نظام اقتصادي رحيم
ولعلي من المحظوظين أن أكون في الصين هذه الأيام وأشهد أكبر احتفالية في تاريخ الصين بذكرى تأسيسها وهي الذكرى الـ 70، فخلال السبعين عامًا الماضية، شهدت البلاد تحولات جذرية أنهت حالة المعاناة والظلم التي ضربت طول وعرض هذه الدولة على مدار قرون طويلة تركت الصين أمة منهكة معدمة تقريبًا، قبل أن يعلن الزعيم ماو تسي تونج تأسيس جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام 1949، هذا الرجل الذي أسس للنهضة الحديثة من الصفر، ولأنه ورفاقه الـ 12 خرجوا من بين الفلاحين والعمال فقد شعروا بمعاناة الفقراء والمظلومين، وأسسوا دولة اشتراكية تساوي بين الناس وتنهي الفوارق بين الطبقات، ومع مرور الوقت اكتشفت الصين أن الاقتصاد الاشتراكي بمعناه المفهوم لا يتناسب مع تطورات العصر، فلم تكابر وقررت تعديل الفكرة إلى نظام اقتصادي رحيم يتضمن الرأسمالية والتي تعني الربح والثروة مع عدم نسيان البعد الاجتماعي للاشتراكية وعدم ترك المواطن فريسة تحت عجلات الرأسمالية التي لا ترحم، لذا فقد أطلق عليها الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.
محاربة الفقر
كانت إحدى الانتصارات الرئيسية هي جهود محاربة الفقر، حيث رفعت بكين 750 مليون شخص فوق خط الفقر، فقط خلال 40 عامًا فقط في الفترة من 1987 حتى الآن، وهي فترة تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على يد الزعيم دنج شياو بينج، ما حاز تقدير الأمم المتحدة، حيث وفرت الصين الحاجات الأساسية لهؤلاء المواطنين وأعلنت أنها في طريقها لإعلان الصين أمة خالية من الفقر عام 2030، حيث انخفضت نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر في البلاد من 97.5% عام 1978 إلى 3.1% بين سكان الريف في نهاية عام 2017، ورغم ذلك ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي متوسطه 8.1% وفقًا لتقرير صادر عن المكتب الوطني للإحصاء.
وأدى التقدم الصيني في القطاعين الزراعي والصناعي إلى تغيير نمط التجارة العالمية وأصبح أملاً للدول النامية، خصوصًا مع إطلاق مبادرة الحزام والطريق، حيث شاركت الصين في تطوير البنية التحتية لعدد كبير من الدول في آسيا وإفريقيا وحتى شرق أوروبا، لبناء شبكة طرق وسكك حديدية ومواني ومطارات تسهل حركة التجارة.
معركة الصحراء
وشهدت الصين تحولا تاريخيا آخر، يتمثل في “اتساع المساحات الخضراء وانخفاض المساحات الصحراوية”، وتمكنت من وقف زحف التصحر بمعدل سنوي 10.4 ألف كيلومتر مربع في نهاية القرن الماضي، إلى انخفاض الصحراء سنويًا بمعدل 2.424 ألف كيلومتر مربع في الوقت الحالي، محققة الهدف المقترح من الأمم المتحدة للقضاء على تدهور الأراضي قبل الموعد المحدد عام 2030، وهو ما كشف عنه تشانج جيان لونج مدير المصلحة الوطنية للغابات والمراعي في الصين لجريدة الشعب اليومية، خلال اجتماع الاحتفال باليوم العالمي الـ 25 لمكافحة التصحر والجفاف الذي عقد يوم 17 يونيو في هوهيهوت بمنغوليا الداخلية.
زيادة معدل الأعمار
أعتقد أن زيادة متوسطات الأعمار، يمثل تحديًا كبيرًا أمام الصين خلال الفترة المقبلة، حيث تسببت سياسة “الطفل الواحد” بتقليل النمو السكاني، في قفزة هائلة في متوسط عمر المواطن الصيني، فبدلا من 35 سنة عام 1949، أصبح الآن 77 سنة، وذلك بسبب انخفاض عدد المواليد، وانخفاض عدد الوفيات أيضًا بفضل الرعاية الصحية المتطورة ومستوى الخدمات الطبية المزود بالأساليب التكنولوجية الحديثة، ما يشكل خطرًا على مستقبل الصين إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، خصوصًا أن ذلك سيؤدي إلى نقص الأيدي العاملة بالإضافة لزيادة أعداد المسنين، ما يؤدي لإرهاق كاهل الدولة التي تتكفل بتوفير معاشات وتأمين طبي واجتماعي لهم.
الطفل الثاني
ورغم تطبيق سياسة “الطفل الثاني” عام 2016، والتي تسمح للأسر الصينية بإنجاب طفلين، إلا أن معظم الصينيين عازفون عن إنجاب الطفل الثاني، لعدة أسباب أهمها تغير نظرة المواطن الصيني، حيث أصبح يرغب في استثمار أمواله في طفل واحد يمنحه تعليما متميزا بما يتضمن الإنفاق على تعليمه خارج الصين، ورعاية طبية عالية لكي يكون فردا ناجحا في المجتمع، فضلا عن ارتفاع تكلفة التعليم والرعاية الصحية، وانشغال الأب والأم بالعمل، وعدم وجود جد أو جدة يستطيعان رعاية طفلين دفعة واحدة في ظل غياب الأبوين.
وخلال السنوات السبعين الماضية، ارتفع إجمالي عدد سكان الصين من 540 مليون شخص في عام 1949 إلى ما يقرب من 1.4 مليار شخص في عام 2018، مسجلا معدل نمو سنوي بحوالي 1.4%، وتقول البيانات الرسمية، أن مستوى الخصوبة قد انخفض بشكل حاد في السبعينات حتى وصل إلى أقل من 3.0، عام 1977، ثم 1.8 نهاية القرن العشرين، ما أدى بالبعض إلى إطلاق لقب “الأمة العجوز” على الشعب الصيني، وذلك مع انخفاض عدد المواليد وكذلك انخفاض عدد الوفيات.
قفزة في التعليم
حققت الصين قفزات كبيرة في تطوير التعليم الأساسي والعالي على مدار الـ70 عاما الماضية، حيث أدرك ماو ورفاقه مبكرًا أن تطور أي دولة مبني على ثقافة مواطنيها ومستوى تعليمهم، بهدف إحداث طفرة تنموية شاملة تتوافق مع شعب واع قادر على مواكبة هذا التطور ودفعه إلى الأمام، حيث أعطت البلاد أولوية إستراتيجية للتعليم وضمت التعليم الإجباري إلى التشريع.
كما ترعى الحكومة منح دراسية مجانية لطلابها المتفوقين، في الجامعات العالمية في الولايات المتحدة وبريطانيا وإستراليا وروسيا وغيرها، ومن المقرر أن يدخل التعليم العالي في الصين مرحلة جديدة ستشهد قدرة أكثر من نصف من هم فى سن الالتحاق بالتعليم الجامعي، على الحصول على تعليم عالي متميز يتمتع بدعم حكومي شامل.
ولعل وجود أكثر من جامعة صينية، ضمن قائمة أفضل 50 جامعة في العالم، أحد أهم إنجازات الصين المرتبطة بتطوير التعليم ارتباطًا بالعلوم والتكنولوجيا وأهداف التنمية، خصوصًا أن الصين الرائدة في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة وتحديدًا الجيل الخامس، ربطت بين تلك الجهود وتطوير التعليم، ما جعل التعليم يحدث طفرة غير مسبوقة، ودفع الأجيال الجديدة من الطلاب إلى عدم الخروج للدراسة بالخارج، والاكتفاء بالدراسة في إحدى الجامعات الصينية.
صناعة الخدمات كلمة السر
وقد سجل حجم صناعة الخدمات في الصين، نموا مستمرا فى السنوات السبعين الماضية، منذ تأسيس الصين الشعبية، حتى تحولت إلى أكبر صناعة في الاقتصاد الصيني في الوقت الحالي، فحسب البيانات، ارتفعت القيمة المضافة لصناعة الخدمات من 19.5 مليار يوان في عام 1952 إلى 46.9575 تريليون يوان في عام 2018، بمعدل نمو سنوي 8.4%.
وسجلت نسبة مساهمة صناعة الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعا متسارعا، حيث بلغت النسبة 59.7% في عام 2018، كما مثلت صناعة الخدمات 68.1% من الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين في عام 2018، مما يجعلها المجال الأكثر تفضيلا بالنسبة للاستثمار الأجنبي، بالإضافة إلى ذلك، وصل عدد العاملين في صناعة الخدمات في الصين إلى 359.38 مليون شخص في نهاية عام 2018، ما يجعلها الصناعة الأكثر توظيفا في البلاد.
وكان الاستثمار أحد المحركات الرئيسية للتنمية الاقتصادية في الصين، حيث ارتفع معدل تكوين رأس المال الوطني (نسبة إجمالي تكوين رأس المال إلى الناتج المحلي الإجمالي) من 38.9% عام 1978 إلى 48.5% في عام 2011، وهو أعلى مستوى منذ عملية الإصلاح والانفتاح في الصين.
قطار الرصاصة
على مستوى النقل أطلقت الصين “قطار الرصاصة فوشينج”، ويعتبر أسرع قطار ركاب في العالم بعد زيادة سرعته إلى 350 كلم في الساعة، ويمكن له أن يسير بسرعة وبشكل مستقر ومريح للركاب، حتى أنه أمكن وضع قطع نقدية بشكل أفقي في القطار لم تسقط.
أطول جسر بحري في العالم
كما شيدت جسر “هونج كونج ـ تشوهاي ـ ماكاو”، والذي يجمع بين الجزر الثلاثة وباقي الأراضي الصينية لكي يعتبر أطول جسر عبر البحر في العالم، باستخدام أكثر من 400 ألف طن من الفولاذ ليساوى 60 برج إيفل من حيث الوزن الفولاذى، ويتكون من نفق تحت البحر طوله 6.7 كم وجسر عابر للبحر طوله 22.9 كم، فضلا عن جزيرتين اصطناعيتين على جانبى النفق، فضلا عن إنجاز مشروع ميناء يانجشان العميق في شانغهاي، وهو مشروع تجاري يهدف إلى التعامل مع أكبر سفن الحاويات في العالم بحلول عام 2024، ومشروع نقل المياه من الجنوب إلى الشمال في الصين الذي يعتبر أكبر وأحدث مشروع في الحفاظ على الماء في العالم.
المعجزة التي تحققت في الصين، بأن بدأت من الصفر حتى وصلت إلى القمة خلال العقود السبعة الماضية، يقف وراءها العمل الجماعي وروح الفريق والخوف على مصلحة البلد، والمتمثلة في قيادات الحزب الشيوعي الصيني، فمنذ أن أسس الزعيم ماو تسي تونج الجمهورية الجديدة، والحزب يخطط باستمرار من خلال خبراء أكفاء وعقول مستنيرة لا تكل ولا تمل، من أجل مستقبل أفضل للصين، وزاد من وتيرة التقدم جهود محاربة الفساد في عهد الرئيس الحالي شي جين بينج، لكي تقف الصين حاليًا في مصاف الدول الكبرى عالميا، وتصبح قطبا فاعلا في السياسة الدولية والاقتصاد العالمى.
نصير الفقراء
التنمية الصينية تمثل الآن قاطرة النمو العالمي، والمساعد الأبرز للدول النامية والفقيرة في تحقيق أهدافها التنموية، حيث أصبحت اليوم الدولة الأولى عالميا من حيث التجارة والاستثمار بإفريقيا، وهو ما أثار غضب الغرب الذي يرغب في إيقاف تلك المسيرة الملهمة، والاستمرار مهيمنًا على الاقتصاد العالمي ومتحكمًا فيه ومهيمنًا على خيرات الشعوب الفقيرة وناهبًا لثرواتهم، ما جعلني واثقًا أن الصين سوف تخرج منتصرة في الحرب التجارية مع أمريكا، خصوصًا وأن السياسة الصينية تتميز بحكمة كبيرة ولعل كان ذلك واضحًا في إدارتها لأزمة هونج كونج، حيث أن القانون يخول لها الدخول بالجيش وإنهاء الأمر في أقل من ساعات معدودة، ولكن الدولة التي لم تحارب يومًا غازية أو تستخدم سلاحها في الحرب إلا ضد الأعداء المهاجمين، قررت أن تستخدم الحكمة.
شاهد عيان
لقد كنت شاهدًا على عظمة الاقتصاد الصيني، عندما تابعت العام الماضي انطلاق قطار البضائع من مدينة أورومتشي عاصمة مقاطعة شينجيانج شمال غرب الصين، إلى أوروبا، من خلال مركز أورومتشي لتجميع البضائع، الذي يعتبر النقطة الأخيرة في الصين على طريق الحرير الجديد، حيث شاهدت كيفية تجميع البضائع في ذلك المركز في 41 “كونتنر” عملاق، وتحميلها على القطار قبل أن ينطلق لكي يقطع 8000 كلم إلى بريطانيا مرورًا بدول وسط آسيا، بواقع 600 كلم في اليوم، وتقول الأرقام إن المركز منذ إنشائه في 26 مايو 2016 نجح في تسيير قرابة 1400 قطار، ويغطي حاليًا 23 مدينة خارج الصين في مختلف الاتجاهات، حيث تحمل القطارات بضائع مختلفة قادمة من جميع أنحاء الصين، عبر قطارات أخرى وسيارات النقل الثقيل على الطرق السريعة التي مهدتها الحكومة الصينية، من مدن شمال شرق وجنوب ووسط بلاد التنانين الأسطورية، إلى منطقة التجميع النهائية في مركز أورومتشي بمقاطعة شينجيانج، وتتضمن البضائع أنواعًا شتى من قطع غيار السيارات والصناعات الثقيلة إلى البلاستيك والورق والأدوية وخلافه.
نان جون نائب مدير مركز قطارات تجميع البضائع في أورومتشي، قال لي في حوار صحفي، إن 3 رحلات يومية تخرج من ذلك المكان حاملة البضائع إلى محطات على طول طريق الحرير الجديد، وصولاً إلى دول أوروبا الغربية، فضلاً عن قطارات أخرى تذهب بالبضائع الواردة من خارج الصين إلى المدن الصينية المختلفة، وذلك من خلال نظام تشغيل حديث، ومعتمدًا على ما أبرمته الحكومة الصينية من اتفاقيات تسهيلات جمركية مع عدد من الدول، خصوصًا في معبري هوحوس والأشانكو، مشيرًا إلى أن قطاعات الجمارك في الصين وشركائها تعمل على دفع الابتكار في التفتيش والحجر الصحي والبيطري، من أجل تقديم تسهيلات تعمل على تطوير رحلات القطارات وسيارات النقل الثقيل.
نائب مدير مركز قطارات تجميع البضائع في أورومتشي، قال لي أيضًا إن المركز أيضًا مرتبط مع طريق الحرير البحري، الذي يربط أوروموتشي في شينجيانج مع مدينة ليليانون قانج جنوب الصين ثم ميناء غوادر في باكستان، والذي من المقرر أن يستكمل بالإبحار غربًا في المحيط الهندي إلى ميناء جبل علي في الإمارات ثم رأس الخيمة عند مضيق هرمز ثم العودة إلى شرق إفريقيا جيبوتي والصومال وإريتيريا ثم قناة السويس في مصر، وصولاً إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط ثم قلب أوروبا، وأنه تُستخدم طرق سريعة وخطوط سكك حديدية في هذا الطريق، لافتًا إلى أن قطاع السكك الحديدية الصيني، يخطط لزيادة حجم مركز قطارات تجميع البضائع، بما يعمل على توسيع حجم التجارة عبر طريق الحرير الجديد، وإدخال خدمات لوجستية أكبر، بحيث يتحول المركز إلى أكبر محطة تجميع بضائع وتوزيع البضائع على طول الطريق، وأكبر ميناء بري في العالم، بهدف الوصول إلى إطلاق 700 قطار في العام بين الصين وأوروبا في 2025.
هناك ميناء بري أخر لم أوفق لزيارته اسمه ميناء شيآن الدولي، ويقع بمدينة شيآن المعروفة باسم “تشانغآن” في العصور القديمة، وهي إحدى نقاط انطلاق طريق الحرير، حيث تحول إلى أكبر ميناء داخلي للصين اليوم ويربط بين الصين وأوروبا مارًا عبر روسيا ودول أخرى ويصل إلى روتردام بهولندا، قاطعا مسافة تبلغ 9850 كيلومتر. حيث يعد “قناة ذهبية” على الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وبخلاف الميناءين، شكلت الصين شبكة نقل شاملة تشمل السكك الحديدية والطرق والنقل المائي والنقل الجوي، تلك الجهود التي ترافقت مع مجال نقل المعلومات، حيث احتل إجمالي طول خطوط الكابلات الضوئية في الصين المرتبة الأولى في العالم بحلول نهاية عام 2018، مما يدل على التأثير البارز للاستثمار في صناعة المعلومات.
الفضاء والتكنولوجيا
أحرزت الصين عدة أهداف في مجال التكنولوجيا وهندسة الفضاء، حيث أسست محطة فضاء متطورة لكي تنافس المحطات العالمية ذات السمعة الكبيرة مثل “ناسا” الأمريكية، وأطلقت مشروع مشروع إكتشاف القمر، حيث تم إطلاق المسبار “تشانج آه” لهذا الغرض، على متن أحدث الصواريخ الحاملة الثقيلة لونج مارش-5، كما حصل جهاز صن واي تايهو لايت الصيني على لقب أسرع حاسوب خارق في العالم مجددا.
ومع النمو المستمر لقوتها الاقتصادية، بدأ الهيكل الصناعي في الصين في التحرك نحو الصناعات المتطورة، وبدأ الاستثمار في صناعات التكنولوجيا الفائقة ينمو بسرعة، فمنذ عام 2013 حتى عام 2018، نمت استثمارات الصين في صناعات التكنولوجيا الفائقة بمعدل سنوي بلغ 16.9%، بزيادة 6.2 نقطة مئوية عما كان عليه الحال في الصناعة بأكملها، وزاد أيضا الاستثمار في الخدمات ذات التقنية العالية بنسبة 20.3% في المتوسط، بزيادة 8.2 نقطة مئوية عن إجمالي الاستثمار في قطاع الخدمات.
كما ذكرت تقارير إن بعض الصناعات عالية التقنية، بما في ذلك الفضاء، والملاحة عبر الأقمار الصناعية، والهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر والاتصالات الإلكترونية، قد شكلت نظاما صناعيا متكاملا ومجهزا جيدا، قادرا على التحرك نحو قمة السلسلة الصناعية العالمية، وأن حجم عائدات صناعة الاتصالات بالصين في النصف الأول من 2019 مثل 97.7 مليار دولار.
أكبر تلسكوب فى العالم
كشف مجموعة من العلماء الصينين أنهم انتهوا من بناء أكبر تلسكوب لاسلكي في العالم، لتدخل به عالم البحث عن الكائنات الفضائية الذي سبقتها فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وكشف العلماء أن التلسكوب الجديد سيكون أكثر فعالية من أي دولة أخرى في التقاط أي رسائل مهما كانت ضعيفة من الفضاء الخارجي، والتي يمكن أن تكون مرتبطة بحياة أخرى للكائنات الفضائية، وهو يمتد على مسافة 500 متر بتصميم كروي، ويمتلك تقنيات لاسلكية متطورة بداخله وأجهزة استشعار أخرى تساعد في رصد أي إرسال أو رسائل من الخارج، ويمكنه التقاط أي إشارات غير مفهومة مرسلة من الفضاء الخارجى، والتي إذا تم البحث وراءها ستعود إلى كائنات فضائية.
أتوبيسات تعبر فوق السيارات
كما طور عدد من مهندسى الصين أوتوبيس قادرا على التغلب على مشكلة الزحام، والذى يحمل اسم TEB ويمكنه العبور فوق السيارات، وقد تم تجربته خلال الأسبوع الماضى على الطريق في مقاطعة خبى بشمال الصين، ويبلغ طول الأوتوبيس 22 مترا وعرضه 7.8 متر وارتفاعه 4.8 متر، كما يمكنه حمل أكثر من 300 راكب بسهولة وسرعة فائقة مع إتاحة الفرصة للسيارات بالمرور أسفله.
تعديل الجينات الوراثية
كذلك أعلن فريق علمى من جامعة “سيتشوان” الصينية، عن البدء فى خطة يمكنها تعديل الجينات البشرية باستخدام تقنية معينة، فيما كشف الفريق أنهم سيستخدمون هذه التقنية لوقف وتعطيل الجينات المسؤولة عن تعطيل الاستجابة المناعية لدى البشر، بهدف علاج المصابين بسرطان الرئة، إذ يمكن لهذه التكنولوجيا العثور على القطاعات المعطوبة أو المصابة بخلل جيني داخل الخلية، ومن ثم إبدالها بأخريات لا تحمل تشوهات.
اعتراف أمريكي
خبراء أمريكيون مشاهير في مجال التكنولوجيا، قدروا الإنجازات التي حققتها الصين في الابتكار التكنولوجي، وذكرت مجلة فوربس الأمريكية، إن التكنولوجيا الفائقة في الصين تبتكر ما هو جديد ورائد في التكنولوجيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والطاقة الخضراء والروبوتات والاتصالات المتنقلة ذات السرعة الفائقة والكفاءة الوظيفية العالية.
واعترفت المجلة في تقرير لها، أن الصين لا تنسخ ما تبتكره الولايات المتحدة من تكنولوجيا، ولكن العكس هو الصحيح، فتطبيق التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، قلد تطبيق “وي تشات” الصيني في الرسائل الجماعية الخاصة والمحادثات الجماعية بالفيديو من تطبيق الفيديو “تيك توك”، فيما قلدت شركة “أمازون” شركة “علي بابا” في مجال البيع الإلكتروني بالتجزئة، وشركة “لايم” الأمريكية قلدت شركات “موبايك” و”هالوبايك” و”أوفو” و”ديدي” وغيرهم في مجال تشارك الدراجات.
تفوق عسكري أقضّ مضاجع الغرب
التفوق التكنولوجي والاقتصادي، ترافق معه تفوق عسكري، حيث تطور بكين أسلحتها بشكل مستمر وتصدر أجيال جديدة ما جعل خبراء الحروب يقولون إنها تهدد التفوق الأمريكي، في ملعب كانت تحتكره واشنطن قبل عقود، وأن الجيش الصيني ربما تفوق على نظيره الأمريكي في بعض نقاط القوة العسكرية.
وبعد كل هذا السرد، أرى باختصار أن التنين الصيني قادم بقوة، ليس لابتلاع العالم كما يزعم الغرب، ولكنه قادم وفي يده غصن زيتون يدل على السلام ونواياه الطيبة، وفي اليد الأخرى منجلا وقادوم، هما شعار الحزب الشيوعي الصيني، كدليل على الرغبة في العمل والبناء والتنمية ومساعدة الشعوب الفقيرة.
ولعل تلك اليد هي لب فكرة الحزام والطريق، والتي تقدم الخير للشعوب الإفريقية والأسيوية الفقيرة، وتساعدهم في تطوير البنية التحتية وتحقيق قفزة اقتصادية توفر الرفاهية التي تتمناها الشعوب، والتي حرمهم الغرب منها إما بالاحتلال المباشر قديمًا والنهب المستمر للثروات واستعباد البشر وإهانتهم، أو بالسيطرة عليهم فيما بعد من خلال افتعال الأزمات وإثارة النعرات العرقية والدينية والطائفية، وسكب الزيت على النار حتى تقوم حرب أهلية تقضي على الأخضر واليابس كما حدث في رواندا، أو حرمانهم من حلم تحقيق الرفاهية من خلال التحكم في النظام المالي ومنع البنك الدولي من منحهم قروض بهدف تطوير البنية التحتية، لكن على النقيض تمامًا قررت الصين تأسيس البنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية، بهدف تمويل تلك المشروعات المهمة، والتعامل التجاري مع الدول بالعملات المحلية للخروج من سيطرة الدولار الأمريكي..
*محمود سعد دياب: صحافي مصري من مؤسسة الأهرام، مقيم في بكين