حروب التجارة تشعل حماسة الصينيين للاعتماد على الذات
موقع الصين بعيون عربية ـ
د. خالد رمضان عبد اللطيف*:
دفعت الحرب التجارية المريرة مع الولايات المتحدة المشتعلة منذ نحو 18 شهراً، الصينيين إلى المضي قدما في طريق الاعتماد على الذات، حيث عملت بكين بطريقتها الخاصة، على إيجاد حلول عملية خارج الصندوق لمواجهة تداعيات اقتصادية مرعبة، أهدرت مليارات الدولارات.
في خضم المواجهة، وجدت الصين نفسها أمام تحدٍّ غير مسبوق، فقررت تفعيل عدة أسلحة ذاتية، من بينها سلاح الاستهلاك المحلي كمحرك أساسي للاقتصاد، والذي يمكن أن يعوض تراجع الصادرات المتباطئة، مستغلة ميزة العدد السكاني الهائل الذي يتجاوز 1.4 مليار نسمة، أو عبر إطلاق المناطق التجارية الحرة، حيث تستهدف في الوقت الراهن إنشاء 18 منطقة حرة في عموم المقاطعات الصينية، الأمر الذي يدعم سوقا نشطة لتصريف المنتجات الصناعية بعيدا عن الأسواق الأمريكية، بالإضافة إلى تشجيع الدعم الائتماني لمشتريات السيارات العاملة بمصادر الطاقة الجديدة والأجهزة المنزلية الذكية.
رغم أن العولمة باتت قوة لا يستهان بها خلال العقود الماضية، إلا أن التنافس الشرس بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، جعل “العولمة” في مهب الريح، وحل محلها سياسة “فك الارتباط”، بعدما سعت كلا القوتين إلى تقليل الاعتماد على الطرف الآخر، وقد دفعت الاستثمارات والتجارة الدولية والصادرات فاتورة باهظة جراء اعتماد تلك السياسة المتهورة.
خلال ثلاثة عقود مضت، فقد ملايين الأمريكيين وظائفهم في قطاعات التصنيع المختلفة، وانتقلت الكثير من وظائف التصنيع إلى الصين، ما يجعل بعض الناس يشعرون بأن بكين سبب فقدان هذه الوظائف، ولكن هذا ليس صحيحا، إذ أن هذه هي الطريقة التي يصبح بها العالم أكثر كفاءة من خلال العولمة، وإذا لم تذهب هذه الوظائف إلى الصين، لكانت قد ذهبت إلى مكان آخر بتكاليف إنتاجية مخفضة بسبب نظام السوق، كما أنه إذا أوقفت جميع الواردات الصينية فلن تعود هذه الوظائف إلى الولايات المتحدة، إذ كانت ستتوجه إلى بلدان أخرى بسعر أعلى وبجودة أقل، حيث تتميز المنتجات الصينية بكونها الأرخص والأجود بشهادة الأسواق العالمية.
تبدو إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عازمة دون هوادة على استعادة الشركات والاستثمارات وسلاسل الإمدادات الصناعية إلى جعبتها، وتشدد قبضتها على الواردات والصادرات التكنولوجية التي تعتبرها جزءاً من الأمن القومي الأمريكي، وقد ظهر هذا جلياً من خلال منع عملاق التكنولوجيا الصينية “هواوي” من شراء المكونات والرقائق الأمريكية، ومن المرجح أن يمتد “فك الارتباط” التكنولوجي إلى الأفراد، إذ لا يزال الباحثون الصينيون يكافحون من أجل الحصول على وظائف في مواقع أكاديمية بالولايات المتحدة.
يجادل الأمريكيون بأن الصين، هي من بدأت عملية فك الارتباط منذ عقد من الزمن، عندما بدأت بمنع شركات التكنولوجيا الأمريكية مثل “فيسبوك” و”جوجل” من الوصول إلى الأسواق الاستهلاكية الصينية، لكن المؤكد هو أن تلك الخطوات الأمريكية دفعت الصين دفعاً صوب المضي قدماً في طريق الاعتماد على الذات، فبدأت شركات التكنولوجيا الصينية في تأمين الرقائق والمكونات من أسواقها المحلية، في الوقت الذي تبدو فيه عملية فك الارتباط مؤثرة بشكل جذري على إيرادات وأرباح الشركات، حيث تعد الصين ثاني أكبر سوق لعملاق التكنولوجيا الأمريكي “أبل”، بينما ستضطر “هواوي”، إلى تطوير تطبيقاتها ونظام التشغيل الخاص بها في هواتفها المحمولة، عوضاً عن نظام أندرويد التابع لشركة “جوجل” الأمريكية.
تبدو عملية فصل الارتباط قراراً سياسياً بامتياز، وليس قرارا للشركات التي تعد المتضرر الأول، وقد أصبح الآن لدى الولايات المتحدة إجراء صارم لفحص الاستثمارات الأجنبية، وعن طريق هذا الإجراء أجبرت واشنطن مالكين صينيين في آذار (مارس) على التخلي عن أحد التطبيقات بسبب مخاطر أمنية تخشى أن تسمح للصينيين بابتزاز الأمريكيين، وفقاً للسلطات الأمريكية التي تتخوف من التجسس ومن تخريب محتمل عبر زرع برمجيات خبيثة في واردات التكنولوجيا، الأمر الذي يهدد البنية التحتية الحيوية.
وأمام هذا الإلحاح الأمريكي المتزايد، شعرت الدول الأوروبية بقلق متزايد إزاء الاستثمارات الصينية، وبدأت في إعادة النظر بدور “هواوي” في البنية التحتية المحلية، وتنتوي إجراء تدقيق غير مسبوق لعمليات شراء وإدارة الموانئ الأوروبية من جانب الصين مثل ميناء بيرايوس في اليونان، بل إن استنساخ النموذج الأمريكي الصارم في فحص الاستثمارات الصينية سيدخل حيز التنفيذ في العام الجاري، والذي سيضع الأساس لنهج مشترك للاستثمارات الأجنبية الحساسة التي لها آثار على عموم القارة العجوز.
في خضم تأميم سياسات التجارة والاستثمار، تناضل منظمة التجارة العالمية، التي احتفلت للتو بمرور ربع قرن على تأسيسها، من أجل الحفاظ على كيانها وأهميتها، في مواجهة متاعب غير مسبوقة، حيث يتم عمداً عرقلة جهازها القضائي “هيئة تسوية المنازعات” بمعرفة واشنطن التي لا زالت ترفض تعيين قضاة جدد في محكمة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة، الأمر الذي يضع التجارة العالمية متعددة الأطراف على المحك بفعل الحمائية المتشددة التي يحمل لوائها “رجل الرسوم المشددة” الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
* كاتب مصري متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية