بعيداً عن الكورونا ووهان الصينية مهد الأكروبات السودانية وقصة 500 يوم في السودان مع مترجم الفرقة سليم ليو يوان (2 – 2)
موقع الصين بعيون عربية ـ
مقال توثيقي : أسامة مختار/ إذاعة الصين الدولية:
هذا هو الجزء الثاني من مقال حول شراكة السودان والصين في توطين فن الإكروبات الصينية في السودان، كنت قد تناولت في الجزء الأول الملامح الرئيسة للمبادرة السودانية لتأسيس أول فرقة في السودان. وهنا أود سرد المزيد من تفاصيل حول أداء وشهرة الفرقة ثم أختم بمرئيات مقترحة لتطوير الفكرة و مستقبلها في عموم القارة الإفريقية.
الذهاب الى الصين لقضاء شهر العسل
في أوائل ثمانينات القرن الماضي كانت أعمار الدفعة الاولي من طلاب الأكروبات قد بلغت أكثر من 20 سنة.وكانوا يَحِنون جدا إلى الأيام الماضية التي قضوها في الصين ويشدهم الشوق إلى معلميهم الصينيين في بداية تدريب الأكروبات. يواصل العم سليم حديثه قائلاً: ” وكان هؤلاء الأعضاء الكبار يتحلقون حول المدربين الصينيين أثناء وقت الراحة في قاعة التدرب سائلين عن المستجدات و التطورات في الصين وأحوال معلميهم الأصليين ويتذكرون الحياة الجميلة التي لايُمكنُ أن ينسوها وعاشوها عند طفولتهم في مدينة ووهان الصينية.”
المدربون الصينيون و طلاب الأكروبات السودانيون يلعبون معا الشطرنج الصيني
وسألتُه عن حياتهم واجتماعياتهم في السودان وكيف كانوا يقضون أوقاتهم بعد ساعات العمل ؟ فأثنى سليم على الشعب السودان وكرمه واستقباله للضيوف ببِشاشة وقال : أثناء وجود بعثتنا التدريبية في السودان لمدة سنة ونصف تزوج العديدُ من أعضاء الدفعة الأولى. وقد دُعينا لحضور حفلات زفاف عدة مرات. ويضحك ويقول: لدينا مدرب قام بدور المأذون ذات مرة .
وأضاف في ذلك الوقت عادة كانت تُقام حفلات الزفاف في أفنية المنازل والحضور بعضهم كبار و آخرون صغيرو السن . و يدخل العروس والعريس ببطء في الفناء مع نغمات الموسيقى و زغاريد النساء ، ويجلسان في وسط الفناء علي الأريكة ، وأمامهما مساحة شاغرة، في وسطها سجادة كبيرة مطرزة بالزهور يرقص عليها العروس والعريس والضيوف. وعندما تبدأ الموسيقي ترقص العروس والعريس قبل غيرهما. ثم يشترك الرجال والنساء الحاضرون بعدهما في الرقص على أنغام الموسيقى وتؤدي العروس أولا “رقصة الرقبة ” التي تحظي بشعبية واسعة لدى الناس في شمال ووسط السودان. وكانت الشابات يرقصنها في العهود القديمة من أجل العثور علي شريك الحياة المستقبلي . أما الآن فيرقصنها حرية فقط لإضافة جو من الدفء والبهجة إلى حفلة الزفاف. وأصبحت “رقصه الرقبة” في ذلك الوقت رقصة لازمة في حفلات الزفاف يجب أن تجيدها العروس قبل الزواج وبعد فاصل من الرقص من خلال “رقصة الرقبة”، تُبَثُ من مُكبِر الصوت موسيقى “الديسكو” فيهيج و يَموج الشباب والشابات ويرقصون بكل حماسة ونشاط. وبهذه الطريقة، يؤدون نوعين من الرقص تقليدي وأفرنجي بالتناوب وهكذا يستمرون في الغناء والرقص طوال الليل حتى الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي.
– وما علم سليم أن حفلات الأعراس طيلة ثلاثة عقود مضت كانت تنتهي عند الحادية عشرة ليلا وقد فارقتْ ليالي الأعراس فناءات البيوت إلى قاعات وصالات الأندية و الفنادق المغلقة- وذكر أن بعض كبار أعضاء فرقة الأكروبات السودانية قالوا لهم: “بعد الزواج سنذهب الى الصين لقضاء شهر العسل حيث نزور أساتذتنا ونتجول مرة أخرى عند بحيرة الشرق بمدينة ووهان (مهد الاكروبات السودانية) ونزور سور الصين العظيم والمدينة المحرمة ببكين وقويلين ذات المناظر الجميلة بمنطقة قوانغشي ”
صادف 12 إبريل /نيسان 1981 الذكرى السنوية السابعة لتأسيس فرقة الأكروبات السودانية. وبهذه المناسبة نظمت وزارة الثقافة والإعلام السودانية مساء ذلك اليوم حفلا بهيجا تكريما لبعثة المدربين الصينيين .
وحضر الرئيس نميري والسيدة حرمه الى مسرح قاعة الصداقة برفقة وزير الثقافة والإعلام الدكتور اسماعيل الحاج موسى. وفى المقاعد الخاصة بالضيوف الكبار جلس الرئيس نميري والسيدة حرمه والسيد الوزير والسفير الصيني في السودان السيد سون هان يي في صف واحد يُشاهدون الفِقرات الجماعية التي تمرن عليها أعضاء الفرقة الكبار والصغار خلال سنة مضت.
وبدأ العرض وظهرتْ على الستار الخلفي لخشبة المسرح لافتة كبيرة كتب عليها شعار باللغتين العربية والصينية يقول “عاشت الصداقة السودانية الصينية”.وشكلت الفتيات باستخدام الشرائط الحريرية نجمة خماسية، وأدى الفتيان وراءها حركات الدورة الهوائية والطيران الأمامى. وأدت الفتاة الصغيرة لُبنى البالغة 12 عاما من عمرها حينذاك فقرة《وضع الكوب على الرأس》، وامتاز أداؤها بالحركة الناعمة والأساس المتين والاسترخاء، مما ترك انطباعا عميقا لدى المشاهدين كما قدمت فرقة الأكروبات فقرات《توقيف الدراجة》و《حمل العمود》و《التشكيل الفنى بالكراسى》و《العجلة العمودية》وغيرها، الأمر الذى اجتذب رشقات نارية من التصفيق الحار. وعندما رأي المشاهدون فقرة العجلات الجماعية》
و فقرة 《الألعاب السحرية》وغيرهما من الفقرات المثيرة المدهشة صفقوا تصفيقا حارا كالرعد ورددوا هتافات مطولة .
وفى منتصف العرض أعلن المذيع عن بدء مراسم التكريم. وصعد الرئيس نميري على خشبة المسرح وابتسامة عريضة تعلو وجهه. وشد على أيدينا بقوة نحن المكرمين الستة قائلا :”مبروك”- والحديث للأستاذ سليم – ثم علقَ نوطَ الجدارة من الطبقة الأولى على صدر كل واحد منا ومنحنا شهادة النوط الموقعة باسمه والصادرة من قصر الرئاسة. ووسط التصفيقات ونغمات الموسيقى وقفنا أمام رجال الدولة السودانيين وجمهور المسرح وكاميرات المصورين رافعين الشهادات تعبيرا عن شكرنا لحكومة السودان وشعبها على مثل هذا الفخر العظيم بالنسبة إلينا وعن عزمنا على نقل هذه المودة الى شعب الصين ورجالها المشتغلين بالأكروبات. وبعد هبوطنا من فوق الخشبة صافحنا وعانقنا رجال الحكومة السودانية وقادة فرقة الأكروبات السودانية بمشاركة الإخوان السودانيين إيانا الفرح وجنى ثمار الصداقة.
كان الرئيس نميري شخصية قوية وعملية وجدول أعماله ملئ بالمهام الرئاسية طوال يومه، كما يقول العم سليم ، وكان من المقرر أن يشاهد الشوط الأولَ من العرض ولكنه واصل مشاهدة العرض بعد مراسم التكريم حتى النهاية.
سار الباص على شاطئ نهر النيل الى مسكن بعثة المدربين الصينيين، وكانت قلوبنا نحن المدربين تفور وتثور اثناء رؤية نوط الجدارة الذهبي على الصدور واستلام شهادة النوط في الأيدي. وقد عقدنا العزم على إتمام مهمة التدريب في غضون شهر واحد قبل مغادرة السودان وعلى تسليم رد مرض إلى الحكومة السودانية.
الأكروبات شهرة في السودان و سمعة في أفريقيا وآسيا
وفي بداية ثمانينات القرن العشرين الماضي، ما إن انتشر خبر عرض فرقة الأكروبات السودانية حتى اصطف الناس في طوابير طويلة أمام مسرح قاعة الصداقة الواقعة على شط نهر النيل، يتسابقون في شراء التذاكر لمشاهدة الأكروبات. وكانت قاعة المسرح في كل عرض غاصة بالمشاهدين حتى في معظم الأحيان كان بعضهم يجلسون في المقاعد الاضافية أو يقفون جانبا. وعندما يرى المشاهدون الحركات الرائعة المثيرة يتجاوبون بالتصفيق والضحك والهتاف و أصوات الاعجاب حتى زغاريد النساء.
وفى الخرطوم و أم في درمان سواء كنا في الشوارع أو في المسارح دائما ما كان الأصدقاء السودانيون يحيوننا تحية حماسية قائلين: “الصين كويسة”. وحينما عرفوا أننا مدربو الأكروبات يقبلون علينا و يصافحونا ويسألوننا ومعهم أبناؤهم: “هل ستدربون دفعة جديدة من طلاب الأكروبات ؟ تفضلوا بأخذهم الى الصين لتعلم الأكروبات.” و بعض الأطفال كانوا يسألوننا مباشرة : ” هل أصلح لممارسة الأكروبات ؟ من فضلكم الحقوني بالدراسة .”
و على الصعيد الدولي، تتمتعُ فرقة الأكروبات السودانية بسمعة متزايدة ، وتمتاز بعُلو المُستوى الفني وكمال التكوين حيث يأتي ترتيبها في طليعة الدول العربية ودول شمال افريقيا على مر السنين، واستصحبها الرئيس النميري في زياراته ،على سبيل المثال لأوغندا وكينيا والكويت والإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول وتلقت ترحيبا حارا وتقديرا عاليا وكان الرئيس نميري يزور مقر الفرقة بين وقت وآخر ويشهد تدريباتهم ويمازحهم كما روى عدد من أعضاء الفرقة.
ويواصل صديقنا سليم حديثه الشيق قائلاً:” حدثني رجل سوداني عجوز أشيب كان يسكن قرب مقر إقامتنا وذكر لي أن مصدر سروره أن ألعاب الأكروبات الصينية قد مهدت طريق الحرير الجديد بين الصين والسودان وحتى العالم العربي وأفريقيا .”
وعقب زفرة حَرى وآهةٍ عميقة من العم سليم خرجت كلماتُه عفوية :”ما أسرعَ ما يَمُرُ الوقت. لقد غادرتُ السودان منذ أكثر من أربعين سنة. ولكن أيامنا هناك ما زالت ماثلة فى ذهني، وضحكات الأصدقاء السودانيين ما برح يترددُ صداها في أذني، والحركات الأكروباتية الرائعة لأعضاء فرقة الأكروبات السودانية لا تزال تتراءى أمام عيني بين حين وآخر وإني شديد الحنين الى إخواني السودانيين”.
“خلال حوالى نصف قرن، أى من عام 1974 إلى عام 2018، تطورت فرقة الأكروبات السودانية من الصفر الى الوجود، من فرقة صغيرة الى كبيرة . في البداية لم يكن هناك ممثل أوممثلة للأكروبات، فأرسلت الصين مدربيها الى السودان لاختيار الطلاب والطالبات وايفادهم إلى الصين لتلقي التدريبات كما ساعدت الفرقة في الأزياء والدعائم وتصميم الفقرات الأكروباتية المتنوّعة. وبالاعتماد على العزيمة القوية والإيمان والجهود الذاتية وبفضل تدريب المدربين الصينيين نمتْ فرقة الأكروبات السودانية حتى أصبحت فرقة ألعاب أكروباتية مهنية نشطة محبوبة ومعروفة في السودان والدول الأفريقية، وذات شهرة وسمعة في السودان حتى في أفريقيا وآسيا أتمنى أن تعود أقوى كما كانت، يقول سليم ليو.. ”
مرئيات المستقبل: ثم ماذا بعد مضى نصف قرن على تكوين هذه الفرقة؟
قبل حوالي أربع سنوات التقيتُ بمدير فرقة الالكروبات حينها الأستاذ مضوي عمر و معه وفد من قدامى أعضاء فرقة الأكروبات السودانية عبر رحلة جوية قادمة من الخرطوم إلى ووهان حيث مازالت هناك دفعات تأتي إليها ولكنها متقطعة وقليلة العدد وليست بنفس بريق السبعينيات ولا اهتمام الثمانينات، ارتسمت على محيّا مضوي أمنيات العودة إلى ذاك الزمن الزاهر وتحدث ومن معه حديث الذكريات واللهفة والشوق إلى ذلك الماضي الجميل متمنين عودته ، ومن جانبه قال الأستاذ سليم في حديثه الإذاعي هنا في بكين: ” أتمنى لزهرة الفن الأكروباتي السوداني التي زرعَها ورباها الشعبان السوداني والصيني أن تظل متفتحة مدى الدهر”.
أقول –في ختام هذا المقال التوثيقي- هكذا بادر السودان ببذر نواةٍ لفن تحبه ليس جماهير الشعب السوداني، بل تعشقُه كثير من شعوب أفريقيا، وأصبحت النواة شتلة رعتها صداقة الشعبين على مدى عقود من الزمان، الى أن أصبحت شجرة وارفة الظلال تغطي سماوات ممتدة من ووهان مهد الأكروبات فتعبر طريق الحرير المرسوم بأيدٍ صينية صديقة متجهة نحو أفريقيا عبر بوّابة السودان. وأود أن يتواصل العطاء في خمسة مسارات وهي : (1) يجب إهتمام الدولة بهذا الفن الراقي وتوفير معينات التدريب في عهد التغيير الذي يشهده السودان (2) ترفيع البروتوكول الثقافي بين البلدين باستصحاب إحدى بنود سياسات (الحزام والطريق ) بما يدعم فرقة الإكروبات باعتبارها تعرف بالهوية السودانية ومدئ تحضر الشعب السوداني، (3) تخصيص ميزانية مفتوحة – رغم ما يعانيه الاقتصاد من تداعيات كورونا- والاستعانة ببيوتات الخبرة لخلق تؤامة ما بين ووهان و الخرطوم لترقية فن الإكروبات وتوسيع دائرة التأثير ليشمل القارة السمراء المتعطّشة لهذا الفن الراقي.(4) تسليط الأضواء الإعلامية على هذه الفرقة لاستمرارية هذه الثقافة النادرة (5) إنشاء معهد أو كلية أو مركز ثقافي يليق بمستوى علاقات الشعبين الممتدة عبر التاريخ لتوطين هذا الفن والاتفاق مع الصين لمدها بالمعدات الفنية لتطوير الفرقة وبالتالي نشر هذا الفن الجميل في ربوع السودان وإفريقيا. هذه بعض اقتراحاتي إضافة لرؤى بعض ممن التقيتُ بهم من أعضاء الفرقة .
ختاماً، الفرصة مواتية لاستئناف رحلة توطين فن الإكروبات في السودان رغم التحديات، وكما يُقال “من رحم المعاناة يتولّد الإبداع” فإن مشوار الميل قد قطع عدة خطوات ولازال أبناء الشعبين يتطلّعان إلى الثريا من الثرى ليرتوي عطش الجماهير المحبّـــة والمتطلّعة لهذا الفن الأصيل وبالتالي تخضرُّ شجرة الصداقة الصينية السودانية.
حاشية:
ومما أحزنني وأبكاني وقبيل الدفع بهذا المقال للنشر وعند اتصالي برقم هاتف العم سليم لمزيد من التأكد من بعض المعلومات، وإخباره بأن يترقب نشره فلم يرد هاتفه إلا بعد محاولات عديدة ليأتيني صوت غير مألوف بالنسبة لي عرفتُ أنه ابنه ليُخبرني بأن والده فارق الحياة قبل أسابيع معدودة.
وأعدكم بالعودة للحديث أكثر عن هذا الراحل المحبوب لدى السودانيين والجالية العربية في بكين فقد كان دائم الابتسامة والرقي هاشا باشا وله إسهامات مقدرة في نشر اللغة العربية وثقافتها حيث يعد من جيل الصينين الرواد المستعربين.