جهود الصين لمكافحة الفقر: رؤية موضوعية
مجلة الصين اليوم ـ
حسين اسماعيل:
الحديث عن مكافحة الفقر في الصين يكون غالبا مكتظا بالأرقام والبيانات والجداول والرسوم البيانية. هو موضوع تختلط فيه السياسة بالاقتصاد بالعلوم الطبيعية بالدراسات الاجتماعية والتحليلات الإحصائية، وأتصور أن كثيرا من الصينيين، ناهيك عن الأجانب، لا يستطيعون تقديم شرح مبسط لمسيرة الصين في مكافحة الفقر في العصر الحديث. يمكن التحدث بسهولة عن النتائج، والتي تتلخص في كلمات قليلة.. الصين تخلصت من الفقر! بيد أنه حتى هذه الخلاصة تظل محل جدل ونقاش، باعتبار أن الفقر مسألة نسبية بشكل عام، فهناك العديد من الطرق لتعريف الفقر، بما في ذلك الفقر المدقع والفقر النسبي والفقر الذاتي والفقر الغذائي والفقر غير الغذائي وفقر القدرات، إلخ.
المقاربة الموضوعية لجهود الصين في مكافحة الفقر تتضمن جملة من الحقائق، أبرزها:
أولا، أن الفقر ظل لصيقا بالصين على مدى عقود قبل تأسيس الصين الجديدة، إذ مكن التأريخ لمسيرة الصينيين على درب مكافحة الفقر في العصر الحديث بإنشاء جمهورية الصين الشعبية سنة 1949، فقد جعلت القيادة الصينية على الدوام مكافحة الفقر وتحسين مستوى معيشة الشعب مهمة محورية ومستمرة لأعمالها. خلال الفترة من سنة ألف وتسعمائة وتسع وأربعين (تأسيس الصين الجديدة) حتى سنة ألف وتسعمائة وثمان وسبعين (انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح)، شهدت الصين المرحلة الأولى لمكافحة الفقر في مناطقها الريفية من خلال إصلاح نظام الأرض الزراعية وتحسين المنشآت التحتية وتطوير التعليم والصحة وتعميم التقنيات الزراعية وإقامة منظومة الضمان الاجتماعي، فانخفض عدد سكان الريف الذين يعيشون تحت الحد الدنى للغذاء الكافي واللباس الدافئ بنسبة 50%. وامتدت المرحلة الثانية لمكافحة الفقر من سنة ألف وتسعمائة وثمان وسبعين حتى نهاية سنة ألفين واثنتي عشر، وتم خلالها الدمج بين مساعدة الفقراء من خلال التنمية ومن خلال الإستراتيجيات الوطنية، فشهدت تلك الفترة صدور وتنفيذ ((الخطة الوطنية لانتشال 70 مليون فرد من الفقر خلال سبع سنوات)) و((منهاج مساعدة الفقراء من خلال التنمية في المناطق الريفية)) حيث تم تحديد سياسة مساعدة الفقراء من خلال التنمية، وتحديد المحافظات الفقيرة والمناطق المتجمعة للفقر المدقع، وإقامة منظومة تحمل المسؤولية عن أعمال مساعدة الفقراء على أربعة مستويات من الحكومة المركزية إلى حكومات المحافظات. المرحلة الثالثة هي العصر الجديد لمساعدة الفقراء وتخليصهم من الفقر بشكل دقيق وهادف منذ انعقاد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني في نهاية عام 2012 حتى الآن. فقد اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، بقيادة الرئيس شي جين بينغ، أعمال القضاء على الفقر مهمة أساسية وهدفا رمزيا لإنجاز بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل، وفي نوفمبر سنة 2013، طرح الرئيس شي جين بينغ لأول مرة برنامج المساعدة المستهدِفة للفقراء بدقة.
ثانيا، أن تحليل الفقر في الصين لا ينبغي أن يتجاهل الوضع السكاني للبلاد، فالنمو السكاني شكل ضغطا هائلا على جهود التنمية في الصين. في الفترة من خمسينات القرن العشرين حتى أواخر السبعينات، تضاعف عدد سكان الصين خلال ثلاثين عاما فقط من خمسمائة مليون نسمة إلى مليار نسمة. هذا الحجم السكاني الهائل كان كفيلا بالتهام أي ثمار للتنمية وكان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تتحسن معيشة الصينيين العاديين، فما بالك بالفقراء منهم.
ثالثا، أن طفرة التنمية الاقتصادية في الصين مع السيطرة على النمو السكاني كانا عاملين رئيسيين في جهود الصين لمكافحة الفقر، فمنذ عام 1978، دخلت الصين فترة جديدة من الإصلاح والانفتاح، فحقق الاقتصاد الوطني نموا بمعدلات عالية، وتعززت التنمية الريفية والتصنيع والتحول الحضري. وقد رافق ذلك، تطبيق صارم لسياسة تنظيم الأسرة مع التركيز على جودة الإنجاب وتحسين التعليم والخدمات الصحية، فتحول تنظيم الأسرة لغالبية الصينيين من إجبار إلى اختيار ذاتي، من أجل تحسين مستوى المعيشة.
رابعا، أن الفقر في الصين كان مُركّزا بشكل رئيسي في المناطق الريفية والمناطق الحدودية ومناطق الأقليات القومية، ولكن ذلك لا يعني أن المدن الصينية كانت خالية تماما من الفقر. حتى العاصمة بكين كانت، كحال العديد من الحواضر الكبرى في الدول النامية، إلى وقت غير بعيد، محاطة بحزام من الفقراء يضم العديد من العمال- الفلاحين المهاجرين الذين يعملون فيها ويتخذون من أطرافها مأوى لهم يفتقرون فيه إلى الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية ومنشآت ترفيهية، إلخ.
خامسا، أن مكافحة الفقر، وكما أسلفنا، ظلت دائما هدفا سعت إليه القيادة الصينية في مختلف المراحل التاريخية، غير أن المجموعة القيادية الحالية للصين وفي القلب منها الرئيس شي جين بينغ، اتخذت خطوات وبذلت جهودا غير مسبوقة في هذا المجال. ولعل ذلك في جانب منه له علاقة بتجربة الرئيس شي الخاصة مع الفقر. وقد قال الرئيس شي في أحد خطاباته: “على مدى أكثر من أربعين عاما، عملت في الإدارات على مستويات المحافظة والمدينة والمقاطعة والحكومة المركزية، وكانت أعمال مساعدة الفقراء من المحتويات الهامة لأعمالي دائما، وأكثر ما أنفقت فيه أوقاتي. ذهبت إلى معظم المناطق الأكثر فقرا في الصين، بما في ذلك شنشي وقانسو ونينغشيا وقويتشو ويوننان وقوانغشي والتبت وشينجيانغ.”
بعد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، انتهجت الصين إستراتيجية مكافحة الفقر بالتدابير المستهدفة التي تعني تقديم المساعدة إلى الأسرة أو الشخص الفقير مباشرة، بعد تسجيل الفقراء وتحليل أسباب فقرهم، ثم تقديم المساعدة لهم من أجل زيادة دخولهم وضمان حصولهم على المأكل والملبس والمسكن الآمن والتعليم الإلزامي والرعاية الأساسية. وبالنسبة للمناطق النائية والمناطق ذات البيئة الهشة والكوارث الطبيعية المتكررة، يتم نقل سكانها إلى مناطق أكثر ملاءمة.
سادسا، أنه وفقا لإحصاءات البنك الدولي، انخفض عدد سكان العالم الذين يعيشون تحت خط الفقر على مدار الأربعين سنة الماضية بأكثر من ثمانمائة وخمسين مليون فرد. والحقيقة أن الدولة صاحبة الفضل الأكبر في تحقيق هذه النتيجة هي الصين، التي كانت أول دولة نامية تحقق الهدف الإنمائي للألفية للأمم المتحدة للحد من الفقر.
سابعا، أن كل مواطن صيني في أي بقعة من أرض الصين، وكل أجنبي زار الصين أو أقام فيها خلال السنوات الأربعين الماضية لديه سرديته الخاصة حول الفقر في هذا البلد. أتذكر أنني في أيامي الأولى بالصين كانت بكين هي الصين بالنسبة لي، ولكن بعد شهور قليلة تجلت أمام عيني صورة أخرى للصين، صورة الريف والفلاحين والتضاريس الوعرة. في أول رحلة لي خارج العاصمة الصينية في بداية تسعينات القرن الماضي كنت وجها لوجه مع الفقر في قويتشو، وهي مقاطعة بجنوب غربي الصين يسكنها كثير من أبناء الأقليات القومية. في كايلي وآنشون وبايجي وتشيشيوي وغيرها من مدن ومحافظات قويتشو، رأيت الجبال تحاصر السكان وتحشرهم في مساحات ضيقة مسطحة صالحة للزراعة وبيوت أشبه بالكهوف. لكي أصل إلى قرية فوق الجبل تم وضعي على نقالة حملها رجال على أكتافهم. وفي الطريق خلال الزيارة، انفجر إطار السيارة أكثر من مرة بسبب الحصى والصخور المفتتة فوق الدروب الجبلية. كنت أنا وأعضاء الوفد الزائر من الأجانب مثل كائنات فضائية هبطت على أبناء تلك المنطقة، فلا هم يعرفون أسماء الدول التي أتينا منها ولا حتى أسماء قادة دولتهم. كانوا منعزلين تماما فلا طرق تربطهم بالعالم من حولهم ولا كهرباء ولا هاتف، ناهيك عن أجهزة التلفزيون والمذياع. لم يكن المشهد مختلفا عندما ذهبت إلى قويوان بجنوبي منطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي حيث رأيت الأطفال حفاة لا يكاد يستر أجسادهم شيء، وإلى مقاطعة قانسو المجاورة لها وإلى مدن كاشغر وييتشنغ وساتشه وتسيبو وغيرها في جنوبي شينجيانغ، وإلى مقاطعة يوننان وبخاصة الجزء الشمالي الغربي منها حيث يقيم أبناء قومية دولونغ في منطقة تكاد تكون معزولة عن العالم. الأرض القاحلة والظروف الطبيعية القاسية فرضت الفقر والجوع والتخلف على أهل تلك المناطق الذين ينتمي كثير منهم إلى الأقليات القومية. ذات مرة في بداية الألفية الجديدة وأثناء زيارة عمل إلى منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم، أقلعت الطائرة من مطار الحاضرة أورومتشي متجهة إلى كاشغر، وبعد ثمانين دقيقة أعلنت المضيفة أننا سنصل بعد عشر دقائق، لكنها عادت لتعلن مرة أخرى أننا سنعود أدراجنا من حيث أتينا لوجود عاصفة رملية تمنع هبوط الطائرة. رسالة واضحة بسوء الظروف الطبيعية في هذا المكان. كان الناس يصارعون الفقر والفقر يصرعهم. هنا أدركت أن التحدي الأكبر لهذا البلد هو تحرير أهله، وبخاصة في مناطق الأقليات القومية، من ربقة الفقر.
في تلك الفترة وقبلها جربت الصين، كما أسلفت، سياسات مختلفة لمكافحة الفقر، ومنها تقديم الدعم المادي والنقدي المباشر للفقراء وتحسين البنية التحتية للمناطق الفقيرة. وفي سنة ألف وتسعمائة وست وتسعين، أقيمت علاقات تنسيق وتعاون بين مناطق شرقي الصين المتقدمة ومناطق غربي البلاد المتخلفة آنذاك، ثم انتهجت البلاد سياسة إعادة توطين سكان المناطق الفقيرة ذات الظروف الصعبة. في زياراتي التالية لتلك المناطق، رأيت في كل مرة وجها جديدا لها، طرقا شُقت وأعمدة كهرباء نصبت وورشا ومصانع، وحقولا خضراء ومدارس ومكتبات ومتنزهات، ولكن التغيير لم يكن بنفس السرعة التي تشهدها مناطق الصين المتقدمة.
ترك الفقر بصمة واضحة لا تمحى في ذاكرة كل من ذهب إلى المناطق ذات الظروف الصعبة أو عاش فيها في ذلك الوقت. وقد عمل الرئيس شي جين بينغ لفترة في مقتبل حياته كفلاح في قرية صغيرة بشمالي مقاطعة شنشي، وقد قال عن تلك الفترة: “تركت حالة الفقر في الريف الصيني ذكريات لا تُنسى في قلبي. كنت أعمل مع أبناء القرية بجد لتصبح معيشتنا أفضل قليلا، لكن تحقيق هذا الهدف كان أصعب من الصعود إلى السماء في تلك السنوات.”
لقد صعدت الصين إلى السماء بالفعل وباتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم الذي تطلعت إليه أجيال من أبناء هذه الأمة. تخلصت قويتشو وشينجيانغ وقانسو ويوننان وغيرها من وصمة الفقر، ولم يتخلف أحد من الصينيين عن مسيرة الخروج من الفقر. اليوم أكاد لا أصدق أن تلك الجنان من أرض الصين هي ذات البقاع التي زرتها قبل سنوات.
مسيرة الصين في مكافحة الفقر قصة نجاح ملهمة وتجربة جديرة بأن تتعلم منها دول كثيرة.