رحلتي إلى شينجيانغ.. بين ألف مسجد ومسجد، على خطى طريق الحرير القديم
موقع الصين بعيون عربية ـ
رشيد ازريقو*:
يقع إقليم شينجيانغ ذو الغالبية المسلمة في شمال غربي الصين، ويعد من أكبر المقاطعات الصينية حيث تصل مساحتها لأكثر من 1.66 مليون كيلومتر مربع، وتغطي سدس المساحة الكلية للصين. وتحدها ثماني دول بحدود برية تبلغ 5600 كيلومتر.
من بكين الى أورومتشي عاصمة الإقليم حوالي 4 ساعات على متن الطائرة.
ومن زار أورومتشي، أكيد سينتهي به المطاف في ساحة، وسوق كبير يعرف باسم “البزار” وفور وصولك إلى هذا المكان، ستشد انتباهك مئذنة شاهقة بزخرفة متقنة وألوان متناسقة، تعكس البيئة المحيطة بها. أما البازار فهو ليس مكانا عاديا للتسوق والبيع والشراء فحسب، بل هو فضاء عام مفتوح يتيح الفرصة لجميع الأقليات المسلمة وغيرها، للتواصل والتعارف فيما بينهم، مما يشكل نسيجا اجتماعيا مترابطا ومندمجا، تنصهر فيه كل فئات المجتمع.
مدينة أورومتشي هي بمثابة متحف عام كبير في الهواء الطلق، يتيح لزائره فرصة مجانية لأخذ لمحة مختصرة عن مدى غنى وتنوع إقليم شينجيانغ.
غير بعيد عن ساحة البزار يوجد أكبر مسجد في المدينة.. بُني في عام 1897. وفي عام 1909، استثمرت مؤسسة “ده خه يانغ” للتمويل مشروع إعادة الإعمار في هذه المنطقة، وتم التعاقد بشكل خاص مع مهندسين معماريين لإجراء عمليات التصميم للمباني. وكان عدد رجال الأعمال الأجانب الذين أسسوا مختلف البنوك في هذه المنطقة هو الأكبر على مر التاريخ، وقد أطلق عليها اسم ” منطقة يانغ هانغ” ، في حين حمل المسجد الموجود في هذه المنطقة اسم يانغ هانغ أيضا.
وشهد المسجد أربع عمليات تجديد، وآخر مرة كانت على يد والد الإمام الحالي للمسجد “السيد محترم شريف”، وذلك تحت إشراف الجمعية الإسلامية بالمدينة. زخرفة المسجد وكأنها عصارة لتلاقي الحضارات والثقافات المختلفة.
وفي الحي المجاور للمسجد الأشغال على قدم وساق لبناء مسجد جديد، يتكون من ثلاث طوابق.. لن يمر وقت طويل وسيرحب أهل المنطقة بهذا المسجد، مما سيوفر بيئة مريحة للمصلين، ويقلص عبء التنقل إلى مكان آخر لأداء الشعائر الدينية.
رغم ضيق الوقت، قمت بزيارة خاطفة للمدرسة الإسلامية بالمدينة المختصة في تدريس وتكوين الأئمة، فور وصولي إلى المدرسة انبهرت بشساعة المكان وكأنني دخلت إلى مدينة نموذجية، حيث تزيد مساحة المدرسة عن 100ألف متر مربع. وبلغ حجم استثمارات الحكومة المحلية في هذا المكان حوالي 300 مليون يوان صيني.
هناك قول شائع في الصين: ” من لم يصل إلى شينجيانغ لن يعرف مدى شساعة الصين، ومن لم يزر “ييلي” لن يعرف مدى جمال وروعة شينجيانغ”.
فعندما تتجول في أزقة وشوارع المدينة القديمة، مرورا بالنهر الكبير وتشاهد الجبال المغطاة بالثلوج، وكأنها تحرس المكان، ستلمس رومانسية هذه المنطقة عندما تستمتع بغروب الشمس مع أهالي وعشاق هذا المكان.
غالبية الأزقة والمباني العتيقة يطغى عليها اللون الأزرق، وكأنها نسخة طبق الأصل لمدينة شفشاون المغربية، أما بدخولك لأحد المنازل الإيغورية فستجدها على شكل قصر صغير.. بألوان وديكور محلي عريق.
وبوجودك بين هذه الأحياء الإيغورية العتيقة.. سيقودك أحد الأزقة إلى مسجد شانسي الكبير، حيث يقصده المصلون من جميع الأقليات المسلمة المختلفة.
المسجد عامر بالزخارف والنقوش والحفر على الرخام والخشب. حيث تشترك المساجد هنا بتصميمات معمارية متشابهة، مثل التصميم الرباعي والهياكل الفخمة والمصنوعة من الطوب والخشب، وتميزت المباني بأسلوب صيني تقليدي مميز، إذ أنها مستوحاة من مسجد زقاق “آن هوا قواي” في شيآن بمنطقة شنشي. وفي الوقت نفسه ، تحتفظ مساجد شنشي، بالقباب والأقواس ومختلف مظاهر الأسلوب الإسلامي بطابعها الفني الرائع والفريد.
ليس هناك أفضل من مسجد “عيد كاه” ليبدأ الزائر جولته في مدينة كاشغر. حيث يقع المسجد في قلب المدينة، ومن أبرز ما يلفت نظرك هو قبته المركزية ذات الزخارف والرسومات الرمزية القديمة.
ويعد من أحد شهود العيان على تاريخ وثقافة الإقليم بما يحمله من ألوان ونقوش على جدرانه.
ويردد أهل المدينة: “من وصل كاشغار ولم يزر الجامع الكبير فكأنه لم يزر شيئا”.
فقط اسأل عن ميدان أو ساحة “أتيغار” وحينها ستصل إلى القلب النابض لمدينة كاشغر أو ما يعرف بمكة الشرق الصغير. ويعد هذا المسجد أحد الفنون المعمارية التقليدية لقومية الإيغور. بنقوشه وزخارفه وهندسته تلمس أن من مروا من هنا، أنهم تركوا بعضاً من وجدانهم في هذا المكان، وتتنفس روحا طيبة لزمن مضى تكاد تشعر بمن صلى أو جلس أو تحدث في هذا المكان الذي يحمل قيمة روحية وتاريخية كبيرة، ربما لهذا السبب تم إدراجه في قائمة التراث الثقافي الوطنية الصينية عام 2001.
هندسة وتصميم المسجد لا تختلف عن شكل مباني المدينة القديمة لكاشغر. باحتساء القهوة في أزقة المدينة والتجول في دروبها الضيقة، سيسافر بك الزمن بين ألوان المنازل الصحراوية.. وانتقالك من زقاق إلى آخر ستشعر وكأنك تنتقل بين صفحات ألف ليلة وليلة.
منازل بنوافذ كثيرة وشرفات عديدة لمدينة منفتحة على الطبيعة والعالم، حجر وطين وخشب، تفاصيل معمارية تشير إلى الدقة والإتقان والأناقة.. مما يدل على ارتباط أهل شينجيانغ بتقاليدهم العريقة وهويتهم الإيغورية الإسلامية.
من مدينة كاشغر إلى منطقة باتشو، حوالي 3 ساعات بالسيارة، وعلى طول الطريق بيئة شبه صحراوية والكثير من الأحراش، وجبال شاهقة ملونة بألوان طبيعية مختلفة وكأن قوس قزح حط هناك ولم يغادر.
منطقة باتشو ليس كبيرة لكنها تنافس بقوة مدينة كاشغر في التطور والتنمية. لم أفوت الفرصة وزرت مسجد باتشو، زخرفته لا تختلف كثيرا عن باقي المساجد في إقليم شينجيانغ.
قابلت إمام المسجد، إمام شاب وطموح ومجتهد، درس اللغة العربية في المدرسة الإسلامية بأورومتشي، وذهب مع وفد شينجيانغ لأداء مناسك الحج عام 2015، وفي العام التالي شارك في المسابقة الدولية للقرآن الكريم في إندونيسيا.
تحدث لي كثيرا عن المسابقة، وذكر أنه تلقى دعما قويا من قبل المدرسة الإسلامية بأورومتشي ولجنة الشؤون الدينية بالإقليم، ولازال يتابع دراسته في بكين حتى الأن، رغم عمله كإمام مسجد.
وأنت في منطقة باتشو ستقابلك مزارع القطن الشاسعة، حيث تعتبر شينجيانغ منطقة رئيسية في الصين لإنتاج القطن، وتبلغ المساحة الزراعية حوالي 2.51 مليون هيكتار.
رحلتي في شينجيانغ كانت ستستمر طويلا، لكن بسبب تسجيل بعض حالات بدون أعراض بمرض فيروس كورونا، في نواحي مدينة كاشغر، اقترحت علي السلطات الصحية بالمدينة أن أخضع للحجر الصحي، وذلك من أجل سلامتي وسلامة الجميع.
وخلاصة القول، هذه هي شينجيانغ، حيث خلق الناس حالة من الاستقرار الاجتماعي والوحدة الوطنية والوئام الديني بحكمتهم وثقتهم. باعتبارها المنطقة الأساسية للحزام الاقتصادي لطريق الحرير القديم والجديد. ويبلغ عدد المساجد في إقليم شينجيانغ أكثر من 23900 مسجد، أي ما يعادل مسجد واحد لكل 400 مسلم تقريبا.
وفي كل العصور التاريخية التي مرت على الصين، ظلت قيم التسامح والانسجام بين الأديان السماوية المختلفة ومتجذرة وأصيلة.
*إعلامي مغربي مقيم في الصين