كيف حول الشمول المالي والابتكار المجتمع الصيني من الفقر إلى الثراء؟
بوابة الأهرام المصرية ـ
محمود سعد دياب:
لا يستطيع معظم المواطنين في الصين تذكر آخر مرة حملوا فيها محفظة نقود، لأنهم ببساطة يستخدمون الهاتف المحمول لدفع كل شيء من البقالة وفواتير المطاعم إلى فواتير الخدمات العامة والمواصلات العامة، ويعتبر ذلك أحد أهم ثمار جهود التنمية و الشمول المالي الذي خاضته الحكومة على مدار سنوات منذ إطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح على يد الزعيم الراحل دنج شياو بينج عام 1979.
كان دنج شياو بينج أول من طرح مخطط مجتمع الـ«شياوكانج»، عام 1984 في إطار مخطط واسع لتطوير الاقتصاد والانفتاح على العالم مع تشجيع رؤوس الأموال الأجنبية، و«شياوكانج» بالصينية يعني مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وهو المصطلح الذي يعني تحويل النظام الاشتراكي الشمولي في الاقتصاد إلى نظام اقتصادي اشتراكي ذي خصائص صينية، واستمد الزعيم الصيني سالف الذكر ذلك المصطلح من اثنين من أهم كتب الكلاسيكيات الصينية القديمة، وهما كتابا الأغاني والشعائر، حيث أشارا قبل 2000 سنة إلى جهود الإمبراطور في تحقيق الرفاهية لشعبه وتحقيق نهضة اقتصادية قائمة على الإنتاج الزراعي من إصلاح الترع والمجاري المائية وتنظيم جريان المياه بإنشاء السدود وخلافه، لذلك فقد كان مصطلح «شياوكانج» وصف لحالة اجتماعية معينة سادت الأمة الصينية في ذلك الوقت.
الذكرى المئوية
مؤخرًا، أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني عن خطتها الخمسية للتطوير والتنمية المستدامة، في ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلال السنوات الخمس المقبلة، وخطة أخرى طويلة الأمد تستمر حتى 2035، وهي خطط تأتي من الأهمية بحيث تحرص عليها الحكومة والحزب من واقع استعداداتهما للاحتفال العام المقبل بمرور 100 سنة على إنشاء الحزب الشيوعي عام 1921 على يد الزعيم ماوتسي تونج ورفاقه.
تعديل توجهات ماو
ونجحت الصين في تطوير أدائها وتعديل مفهومها في التطوير والتنمية، فعندما أدرك الصينيون فشل ما اعتمده الزعيم ماو في خططه الخمسية المستعارة من النموذج السوفيتي، عدلوا من توجهاتهم باعتماد اقتصاد السوق الحر وتخفيف سيطرة الدولة شيئًا فشيئًا على الشركات، واليوم، أصبحت الأمور مختلفة 180 درجة، حيث أصبحت 84% من الشركات في الصين مملوكة للقطاع الخاص و80% من الوظائف الصينية القطاع الخاص هو من وفرها، وهو ما تسميه الحكومة الصينية اقتصاد السوق الاشتراكي، حيث يقال إن السوق هو أهم لاعب في تخصيص الموارد.
تصحيح الإخفاقات
لذا في الوقت الحاضر، تركز الخطط الخمسية بشكل أكبر على تحديد المجالات ذات الأولوية التي تقدم اتجاها إلى أين نذهب؟، بدلا من مسار مفصل حول كيفية الوصول إلى هناك، وبشكل أكثر تحديدا، تستخدم الحكومة اللوائح والمبادئ التوجيهية الواردة في الخطة الخمسية لتوفير الحافز لأنشطة السوق في الوقت الحاضر، ويشمل ذلك توفير الإطار القانوني والاجتماعي مثل إصدار السياسات النقدية والمالية، وتوفير السلع والخدمات العامة مثل بناء سكك حديدية عالية السرعة وتصحيح إخفاقات السوق مثل التلوث.
الخطط السابقة
بشهادة المؤسسات المالية العالمية، حققت الخطط الخمسية الماضية منذ اعتماد سياسة الإصلاح والانفتاح نجاحًا، فقبل 5 سنوات، كان “البحث عن محركات جديدة للاقتصاد الصيني” هدفا رئيسيًا وضعته الحكومة، والآن وبدعم من سلسلة من السياسات، وصل الاقتصاد الرقمي الصيني إلى 36 تريليون يوان، ما يمثل 36% من إجمالي الناتج المحلي، ما رفع حجم الناتج المحلي الإجمالي إلى 15 تريليون دولار سنويًا، ووفقًا لتقرير ماكنزي، تجاوز حجم معاملات التجارة الإليكترونية في الصين مجموع حجم معاملات التجارة الإلكترونية في فرنسا وألمانيا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
الدوران المزدوج
يعتبر مصطلح «الدوران المزدوج» العنوان الأبرز للخطة الخمسية الرابعة عشرة في الفترة من 2021 حتى 2025، وهو ما قد يفسره البعض هذا على أنه يعني أن الحكومة الصينية تغلق أبوابها أمام العالم الخارجي، لكن الخطة لا تقول ذلك، فقد أشارت إلى أن السياسات المختلفة يجب أن تساعد في إطلاق إمكانات السوق المحلية بالكامل، وتشجيع الشركات على توفير سلع وخدمات عالية الجودة، من أجل تحفيز الطلب المحلي بشكل أكبر، في الوقت نفسه، وعدت الحكومة الصينية أيضا بتوفير مزيد من الفرص للمستثمرين العالميين للتعاون مع الصين وتشجيع الشركات الصينية على زيادة التجارة مع الدول الأجنبية، أملا أن تعزز هذه الجولة من الإجراءات الانفتاح على نطاق أوسع ومجالات أكثر ومستوى أعمق.
الابتكار
ورد ذكر مصطلح «الابتكار» 47 مرة في مسودة اقتراح الخطة الخمسية الجديدة، ما يؤكد أن الخطة الجديدة تضع الابتكار في جوهر الخطط المستقبلية للبلاد، وتقول بكين إنها ستسعى جاهدة لتحقيق اختراقات كبيرة في التقنيات الأساسية في المجالات الرئيسية مما يجعل الصين رائدة عالميا في مجال الابتكار، ويتوقع الكثيرون أنه سيكون هناك المزيد من الدفعات السياسية لزيادة الإنفاق في السنوات القادمة في القطاعات الناشئة مثل التكنولوجيا الحيوية وأشباه الموصلات ومركبات الطاقة الجديدة.
النمو الأخضر
مع زيادة الانبعاثات الكربونية التي تهدد العالم بمخاطر جسيمة، قللت الحكومة الصينية في خطتها الجديدة الإشارة إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي، مقابل ذكر مصطلح «النمو الأخضر» 19 مرة كهدف رئيسي ثالث خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يوضح أن الحكومة الصين ية ستواصل تشجيع مسئولي الحكومة على التوقف عن استخدام الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر أداء رئيسي والتركيز بدلا من ذلك على نموذج التنمية الاقتصادية المستدامة المنخفضة الكربون، والتوسع في استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة كمصدر للطاقة.
الانتصار على الفقر
مع نهاية خطة التنمية الخمسية الماضية نجحت الصين في أن يتجاوز حجم ناتجها المحلي الإجمالي السنوي 100 تريليون يوان “15 تريليون دولار”، كما انتصرت في المعركة ضد الفقر، بانتشال 55.75 مليون من سكان الريف من تحت خط الفقر، كي تكون بذلك حققت الهدف المحدد من الأمم المتحدة بتخفيف حدة الفقر قبل 10 سنوات من الموعد المحدد في أجندة التنمية المستدامة لعام 2030، ما جعل كريستين بيير الخبيرة في معهد شيلر الفرنسي، تقول إن الإنجازات الملحوظة التي حققتها الصين ، وخاصة في مجالات تخفيف حدة الفقر والتعاون في مبادرة الحزام والطريق، أظهرت كفاءة تخطيط السياسة في الصين .
تحفيز الاقتصاد العالمي
وبينما أصاب وباء كورنا حركة التجارة الدولية بأضرار كبيرة، وضرب الركود أسواق عديدة، وضعت الصين خطة واعدة للسنوات الخمس المقبلة وما بعدها لبناء دولة أكثر انفتاحا وحداثة، حيث ستسرع في تبني نمط تنموي جديد حيث يمكن للأسواق المحلية والأجنبية أن تعزز بعضها البعض، مع اعتبار السوق المحلية الدعامة الأساسية، مع تحقيق خطوات جديدة في التنمية الاقتصادية خلال هذه الفترة. وتهدف إلى تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وصحية على أساس تحسن ملحوظ في الجودة والكفاءة.
توقعات الانكماش
وتأتي خطط الصين الطموحة، وسط توقعات سلبية بخصوص مستقبل اقتصاديات العالم، حيث توقع صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي، أن ينكمش الاقتصاد العالمي بصورة حادة، بـ4.4٪ هذا العام، بينما يتوقع أن ينمو الاقتصاد الصين ي بـ1.9٪ لهذا العام، فيما تقول الحكومة الصين ية إن خطتها الخمسية ستساهم بشكل كبير، في دفع التضامن العالمي نحو الانتعاش الذي طال انتظاره، مؤكدة أن معرض الصين الدولي للاستيراد (CIIE) الذي استضافته مدينة شانغهاي منذ أيام، أظهر استعداد الصين لمشاركة فرصها التنموية مع بقية العالم، كمنصة على مستوى الدولة، يظهر تمسك الصين بالعولمة لصالح التبادلات وتعاون المنفعة المزدوجة.
لقد سمح النمو الاقتصادي المطرد والديناميكي للصين بأن تصبح دافعا مستقرا للتنمية الاقتصادية العالمية، ووفقا لبيانات رسمية، احتلت الصين المرتبة الأولى من حيث مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي منذ عام 2006، وساهمت بنحو 30٪ في النمو العالمي سنويا منذ عام 2013.
ومن خلال الاستجابة الفعالة ضد وباء كورونا، تعتبر الصين أول اقتصاد رئيسي يعود إلى النمو منذ صدمة الفيروس، ومن المتوقع أن تظل الاقتصاد الوحيد الذي يحقق نموًا إيجابيًا في عام 2020، والانتعاش الاقتصادي السريع للصين يوفر الثقة والفرص للاقتصاد العالمي ليعود للمسار الصحيح.
تحدي الحمائية
لكن تقف أمام تلك الخطط الطموحة، الإجراءات الأمريكية التي اتخذتها إدارة الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية أحادية على البضائع الصين ية، وهو ما أشار له الرئيس الصين ي شي جين بينج في خطابه بخصوص الخطط التنموية، بأن “تصاعد تفكيك العولمة والأعمال الأحادية و الحمائية من جانب دولة معينة، مع التغيرات في البيئة السياسية والاقتصادية العالمية أدى مؤخرًا لضعف التداول العالمي التقليدي بشكل ملحوظ”، مؤكدًا على ضرورة “بذل الجهود لتجذير تنمية الصين داخل البلاد والاعتماد بدرجة أكبر على السوق المحلية لتحقيق النمو الاقتصادي، والتمسك بتوسيع الطلب المحلي كأساس استراتيجي وتعزيز دورة إيجابية للاقتصاد الوطني ونظام إمداد أكثر توافقًا مع الطلب المحلي”.
وقال إن نمط التنمية الجديد لن يكون بأي حال من الأحوال تداولا محليا مغلقا، مشددا على أنه، على العكس، سيكون تداولا مزدوجا مفتوحا يشمل السوقين المحلية والخارجية، متطرقًا إلى مصطلح مجتمع «شياوكانج» كهدف مستمر في أجندة الحزب والحكومة، وأن تحقيق هذا الهدف سيكون في الموعد المحدد وأنه التزام حزبي راسخ تجاه الشعب