كيف يواجه الرئيس الأمريكي الجديد التحدي الصيني؟ .. وهل يستطيع إيقاف انطلاقة قطار بكين السريع؟
موقع الصين بعيون عربية ـ
محمود سعد دياب:
«العلاقات الصينية الأمريكية ليست لعبة محصلتها صفر.. لكن تبقى الصين منافسًا قويًا» .. هذا ليس كلامي ولكنه كلام الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن قبل انتخابه رئيسًا نوفمبر الجاري، وبعدما كان النصر حليفه في الانتخابات ثارت التساؤلات حول كيفية تعامله مع التنين الصيني، خصوصًا وأن سلفه الرئيس ترامب وصل لأقصى درجات الضغط على الغريم التجاري التقليدي في آخر 10 سنوات، بسلوك أحادي ينافي مبادئ وقيم العولمة التي اتفق عليها المجتمع الدولي في نظام بريتون وودز بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وهو النظام الذي نظم التعاملات التجارية والنقدية في العالم كله خلال سبعين عامًا ونيف.
يرى الخبراء الصينيون أن بايدن الذي يتمتع بخبرة سياسية واسعة أكثر عقلانية من ترامب، لذلك ستشهد العلاقات الثنائية انفراجة على المدى القصير من باب المثل القائل بأن “التعامل مع عدو عاقل أفضل من التعامل مع تاجر مجنون متقلب المزاج يغرد على تويتر كل فترة مهاجمًا ومنتقدًا”، معتبرين أنه إذا كان ترامب يمثل لهم سكين حاد الشفرة فإن بايدن خنجر حاد أقل برودة.
وهي إشارة توضح رؤية بكين لمستقبل الصراع مع واشنطن، ذلك الصراع الذي سيشتد بالتأكيد بعد الزلزال العنيف الذي ضربت به الأولى هيمنة الثانية التجارية التي حافظت عليها على مدار السبعين عامًا الماضية كأحد مكتسبات الحرب العالمية الثانية، ذلك الزلزال المتمثل في توقيع أكبر اتفاقية تجارية في التاريخ بدون واشنطن، وهي اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية الشاملة مع 14 دولة منها أربع دول من أهم حلفاء واشنطن في المنطقة وهي اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاندا..
فكيف يواجه الرئيس الأمريكي الجديد التمدد الصيني المتزايد؟.. وما هي الأدوات التي يستطيع الاعتماد عليها للملمة ما تبقى من حلفاء بلاده؟.. وما هي قصة تلك الضربة الموجعة؟.. عن ذلك كان هذا المقال لبيتي الأول في الصين موقع “الصين بعيون عربية”..
مخطئ من يظن أن الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن سينهي الصراعات التي خاضها الرئيس الحالي دونالد ترامب لصالح دولة أخرى غير بلاده، فإذا كان الأخير قد ألحق أضرارًا بالصين الغريم التجاري التقليدي للولايات المتحدة في آخر 10 سنوات، فإن الأول لن يستطيع العودة عن الخطوات التي اتخذها سلفه على مستوى علاقات واشنطن الخارجية وتحديدًا الصراع التجاري مع الصين.
بل يخطئ الذي يظن أن ترامب قد ألحق بالصين أضرارًا جسيمة، فقد تسبب بقصد أو بدون قصد في تمدد التنين الصيني على مدار فترة حكمه لملء الفراغات التي تركتها واشنطن على مستوى العالم عامةً وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ على وجه الخصوص، ذلك التمدد الذي أثمر عن توقيع اتفاقية تجارية هي الأضخم في التاريخ بين الصين و14 دولة من دول تجمع الآسيان والمحيط الهادئ، لكي تضرب في مقتل المساعي الأمريكية لاستمرار هيمنتها التجارية.
الضربة الصينية الأخيرة موجعة لأن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة التي قادتها الصين تستحوذ على 30 % من حجم الاقتصاد العالمي وتضم أكبر تكتل بشري بواقع 2.2 مليار شخص بناتج محلي إجمالي يقترب من 26 تريليون دولار، وهو ما يشكل ثلث الناتج العالمي، وثلث التجارة الدولية.
بداية النهاية
بداية تسارع الأحداث كان في شهر يناير عام 2017، وتحديدًا بعد ثلاثة أيام من تولي الرئيس ترامب مهام منصبه، حيث قرر انسحاب بلاده من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ التي وقعها سلفه باراك أوباما، مع 12 دولة من حلفاء واشنطن بدول جنوب وشرق آسيا وأوروبا، تلك الاتفاقية التي كانت تشكل حوالي 40% من الاقتصاد العالمي، واعتبرها مراقبون ضربة قوضت مفاوضات بكين مع دول الآسيان جنوب وشرق القارة الصفراء لتوقيع اتفاقية تجارية تضمن السيادة للمنتجات الصينية، بما يعني زيادة توغل نفوذ بكين الاقتصادي والسياسي اللاحق بمنطقة استراتيجية مهمة وهي بحر الصين الجنوبي التي كانت مسرحًا للنزاع منذ ما يزيد عن عقدين، خصوصًا وأن تلك الاتفاقية التي قادتها واشنطن كانت مع خمس من أهم دول الجوار للصين وهي اليابان وماليزيا وسنغافورة وبروناي وفيتنام.
أسباب ترامب
أسباب انسحاب ترامب من تلك الاتفاقية المهمة بررها خبراء ومتابعون، بأنها نفس أسباب انسحابه من الاتفاقيات أخرى مثل باريس للمناخ والحد من التسلح النووي والحد من انتشار الأسلحة الصاروخية ومؤخرًا اتفاقية السماوات المفتوحة مع روسيا وكندا وتركيا ودول أوروبا مجتمعة، والتي تتلخص في الشعار الذي رفعه خلال حملته الانتخابية «أمريكا أولا»، بما يعني إعادة الهيمنة الاقتصادية لواشنطن وإعادة الصناعات التي هربت إلى الصين خلال عقود تحت وطأة الضرائب وارتفاع سعر العمالة، وباختصار كان يريد أن يغلق العملاق الأمريكي الباب على نفسه حتى يستطيع إعادة تنظيم صفوفه والتخلص من المشاكل الاقتصادية مثل البطالة وغيرها، ثم العودة للانفتاح على العالم مرة أخرى بشكل جديد أكثر قوة كما عهده خلال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية لكي يستكمل القيام بدور الشرطي الأول في العالم.
حرب كلامية
وكان ذلك سبب الإجراءات الحمائية التي فرضها على البضائع الصينية واصطدامه بشكل متكرر ببكين وقادتها في حرب كلامية شعواء، لكن الصين كانت تعمل في صمت متجاهلة ذلك وخاضت مفاوضات ماراثونية أثمرت عن نجاحها في إقناع 4 من أهم حلفاء واشنطن بالتوقيع على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، وهي اليابان التي ترتبط مع الصين بعداء تاريخي، وكوريا الجنوبية وأستراليا رغم الملاسنات الأخيرة والحرب السياسية، ونيوزيلندا، بالإضافة لدول الآسيان بروناي وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام ولاوس وكمبوديا وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايلاند ومعظمها مرتبط بشراكة بشكل أو بآخر مع واشنطن، وهو ما يعتبر المرة الأولى التي تنضم فيها الصين لاتفاق متعدد الأطراف خصوصًا وأن مبادرة الحزام والطريق بضخامة حجمها أبرمت من خلالها بكين اتفاقيات ثنائية من الدول الأعضاء ومنها الواقعة على طول طريق الحرير القديم.
خطط بايدن
يشكك الخبراء والمراقبون كما أسلفنا سابقًا، في نية الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن بالتراجع عن القرارات التي اتخذها سلفه، خصوصًا وأنه لم يؤكد أو ينفي إمكانية عودة واشنطن لاتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ وقال بأن ذلك أمر سيتم دراسته، فيما أكد أن أمريكا تشكل 25% من الاقتصاد العالمي، وإذا استطاعت إبرام اتفاق تجاري جديد مع حلفائها فإن النسبة قد تصل لـ50%، وتهرب من سؤال صحفي حول الانضمام لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الصينية، مبديًا تحفظه وهو يقول: “لم أصبح الرئيس بعد”.
لكن وفقًا للخبراء يفهم من سياق تصريحاته ومواقفه السابقة أنه متحفظ على الصين وسلوكها التجاري ووجود عدة اتهامات لها في جعبته أهمها التجسس وسرقة التكنولوجيا، فضلا عن ملف حقوق الإنسان، ما يدلل على أنه سيسير على نفس نهج سابقيه بالحديث عن حقوق الأقليات الدينية والعرقية بالصين مثل الأويغور والتبتيون وأهل هونج كونج وحكومة تايوان، وسيسعى لتعزيز التواجد العسكري الأمريكي لتضييق الخناق حول بكين بالقواعد الأمريكية الموجودة ببحر الصين الجنوبي وفي كوريا الجنوبية واليابان، والسير عكس توجه ترامب بالانسحاب العسكري التدريجي من العالم لتعزيز انتشار التواجد الأمريكي وإجراء مناورات عسكرية تستفز الصين مثلما كان الحال في عهد من سبقوا ترامب.
ولعل نشر الجيش الأمريكي قاذفات من طراز «بي 52» في الشرق الأوسط مؤخرًا، يدلل على أن قيادة الجيش في البنتاجون تسير على فكر الرئيس الجديد، وتلغي تحركاتها السابقة في عهد ترامب، وإذا نظرنا لقرار الأخير الغريب بإقالة وزير الدفاع مارك إسبر سنعرف أن توترًا يسود العلاقو بين الجالس على المكتب البيضاوي في واشنطن وقيادة الجيش في ولاية فرجينيا حيث مقر البنتاجون.
من ناحية أخرى، كشف باحثان في تقرير لمعهد «بروكنجز» الأمريكي، عن أنه على واشنطن أن تكيف سياساتها مع الحقائق المتغيرة في شرق آسيا، والاعتراف بالدور المتزايد للصين، ونضوج تكامل تجمع الآسيان، وتضاؤل التأثير الاقتصادي النسبي لأمريكا.
مكاسب الصين
لكن بعيدًا عن خطط بايدن، فالأمر الواضح هنا أن جولات المفاوضات الثلاثين التي خاضتها الصين على مدار 8 سنوات مع تلك الدول و18 اجتماع وزاري، كانت ستذهب سدى لولا السياسات الحمائية وانسحاب ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، حيث قبلت تلك الدول الاتفاقية التي تقودها الصين رغم أنها تلغي 90% من التعريفات الجمركية في التجارة بينها في حين كانت النسبة تصل في الأولى لـ100%، ما يعد نصرا جيواستراتيجيا مهما للصين وليس اقتصاديا فقط، حيث تزيد من اعتماد حلفاء مهمين مثل اليابان وأستراليا على سلاسل التوريد الصينية، ما يمنح بكين نفوذا أكبر عليها يجعلها تخرج من الحظيرة الأمريكية للفناء الصيني وهو أحد أهم مكاسب التنين الصيني.
معاقبة أستراليا
ملامح ذلك النفوذ ظهرت فيما يعاني منه الاقتصاد الأسترالي منذ ستة أشهر من الإجراءات العقابية الصينية بسبب مطالبة كانبرا بفتح تحقيق دولي في أسباب انتشار وباء كورونا واتهام الصين رسميًا بالتسبب فيه، حيث منعت الصين استيراد ست سلع أسترالية مثل الشعير والنحاس والفحم والقمح، وهي إجراءات تنبئ بما قد تستطيع بكين أن تفعله مع حلفاء أمريكا مستقبلًا، خصوصًا دول بحر الصين الجنوبي التي ظلت خلال أخر عقدين تنازعها السيادة على جزر بحر الصين الجنوبي وتعارض بناءها جزر سبراتلي المرجانية، فضلا عن مكسب أخر وهو أن الاتفاقية تضيف 200 مليار دولار سنويًا للاقتصاد العالمي سيكون للصين نصيب الأسد فيها.
أسباب عدم انضمام الهند
مكاسب الصين كانت ستتضاعف لو انضمت الهند للاتفاقية بوصفها ثالث أكبر اقتصاد بالمنطقة بعد الصين واليابان، لكن يبدو أن انسحابها من المفاوضات نهاية عام 2019 ليس نهائيًا خصوصًا وأن طريقة تعامل نيودلهي مع بكين سوف تتغير بالتأكيد بعد قدوم رئيس أمريكي جديد تعهد بالعودة لتفعيل دور واشنطن بمنظمة التجارة العالمية، بما يعني توجها جديدا للحليف الأقوي الذي تعول عليه نيودلهي.
وإذا نظرنا لقرارات حكومة ناريندرا مودي نجدها تتشابه مع قرارات ترامب بخصوص حظر التطبيقات الصينية وعدم منح شركة هواوي وZTE امتياز تطوير شبكة الـ5G، كما كان هذا التصعيد سببًا في التوتر الذي وقع على الحدود المشتركة يونيو الماضي، ولكن المخاوف الهندية الأكبر هي أن يضيع اقتصادها القوي تحت عجلات قطار الصين السريع، خصوصًا وأن حجم العجز في الميزان التجاري بين البلدين يصل لـ 48 مليار دولار لصالح الصين حاليًا، وهو رقم مرشح لأن يتضاعف في حال إذا دخلت الاتفاقية سالفة الذكر وفتحت أسواقها للبضائع الصينية الأرخص، وهو ما لن يزيد في عجز الميزان التجاري فقط ولكنه سيوجه ضربة قوية للصناعة الهندية التي تعتبر مرتفعة في تكاليفها عن نظيرتها الصينية وتحول الهند لمجتمع استهلاكي يستورد احتياجاته من الصين، حيث تستورد نيودلهي منتجات قيمتها 75.5 مليار دولار من بكين، فيما تستورد الأخيرة منتجات هندية قيمتها لا تتعدى 16.6 مليار دولار، وذلك، وفقا لأحدث إحصائيات للأمم المتحدة عن عام 2018.
الاتفاقية الأخيرة من شأنها تحسين التجارة الإقليمية في وقت يكافح فيه الاقتصاد العالمي، لتجاوز تداعيات وباء كورونا التي تسببت بأكبر ركود منذ الكساد الكبير خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث تغطي الاتفاقية كل شيء بدءًا من التجارة والخدمات للاستثمار والتجارة الإلكترونية والاتصالات وحقوق النشر، وستجعل كل عضو بالاتفاقية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب.
كما ينظر للاتفاقية على أنها زلزال ينقل عمليًا قيادة التعددية الاقتصادية والتجارة الحرة، وباختصار العولمة الجديدة إلى الصين وحلفائها، بينما يتزايد نزوع أمريكا إلى الحمائية ورفض المعاهدات والاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف، كما أنها المرة الأولى التي توافق فيها القوى المتنافسة بشرق آسيا مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية على الدخول في اتفاقية تجارة حرة مشتركة، كما تشكل مزيجا من الاقتصاديات المتقدمة والنامية والفقيرة.
الكاتب – محمود سعد دياب .. كاتب صحفي وباحث مصري بجريدة الأهرام متخصص في الشئون الصينية.