حوار ساخن يهيمن على العلاقات التجارية الأمريكية – الصينية
صحيفة الاقتصادية السعودية:
يولد الحريق الاقتصادي الهائل في أوروبا أكثر من مجرد ذهول مرعب لدى صناع السياسة في العالم؛ فالضعف الذي يشع من منطقة اليورو قد يؤجج التوترات القائمة في أماكن أخرى. في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن الإدارة والكونجرس يراقبان المنطقة بمشاعر متزايدة من القلق، لا يزال الاستياء المتزايد من تصرفات الصين بشأن العملة والتجارة أحد المشاغل الرئيسة لهما.
إذا تعثر الاقتصاد الأمريكي وظلت مستويات البطالة مرتفعة أثناء توجه الولايات المتحدة نحو عام الانتخابات، سينفد صبر الكونجرس وتزيد المخاوف من اندلاع حرب تجارية دولية شاملة.
لا تزال هناك بؤر توتر محتملة عدة؛ فعلى الرغم من أن بكين فكت ربط اليوان بالدولار في حزيران (يونيو) 2010، إلا أنها لم ترفع قيمة العملة إلا بمقدار ضئيل هذا العام. وعلى الرغم من أن إدخال بعض الإصلاح على سياسة ”الابتكار الأصلي” التي تتبعها، والتي تهدف إلى إيجاد صناعات ذات قيمة مضافة عالية، إلا أن الصين أبقت على مجموعة من التدخلات المحلية، بما في ذلك الإعانات وضوابط الشراء والنقل القسري للتكنولوجيا من قبل الشركات الأجنبية.
مع ذلك، يقول المسؤولون الأمريكيون إنهم يحققون بعض التقدم باتباع نهج دقيق ومرن، حيث ينتهزون الفرص حين تظهر ويحاولون العمل مع الإصلاحيين الصينيين بدلا من السعي للمواجهة إلى ما لا نهاية.
ويقول أحد كبار المسؤولين في الإدارة: ”نحن نتبع نهجا مزدوجا – حيث إننا نحاول أن نجلب الصين إلى النظام الدولي ونحملها على تحمل مسؤولية؛ كونها إحدى الدول في المجموعة الصغيرة المسؤولة عن إنجاح النظام الدولي. وفي الوقت نفسه، الضغط عليهم بشدة حين يتخذون إجراءات تتعارض مع القواعد”.
على الرغم من أن الإدارة الأمريكية تحاول توسيع جبهة انخراطها مع بكين، إلا أن العملة لا تزال هي الموضوع الذي يغضب الكونجرس. وقد انخفض فائض الحساب التجاري للصين، الذي يقول المشرعون الأمريكيون إنه يعكس إلى حد كبير تقدير اليوان بأقل من قيمته، من أكثر من 10 في المائة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي للصين عام 2007 إلى مستوى مرجح يبلغ نحو 4 في المائة هذا العام. مع ذلك، يقول الكثيرون في الكونجرس: إن التلاعب بالعملة لدعم الشركات المصدرة في الصين يبقي على الاختلالات العالمية.
من المرجح أن تسمح الصين هذا العام لعملتها بالارتفاع بأقل من 5 في المائة، وهو أمر من شأنه مع ذلك أن يجعل اليوان مقدرا بأقل من قيمته كثيرا بمعظم التقديرات، على الرغم من أن بكين ترفض مثل هذه الحسابات. ويقول معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وهو معهد للأبحاث والدراسات في واشنطن: إن اليوان لا يزال أدنى بنسبة 24 في المائة من قيمته العادلة مقابل الدولار. وقد أدى تراجع الضغوط التضخمية وعلامات النمو المتباطئ إلى تقليل حافز الصين للسماح لعملتها بالارتفاع بشكل أسرع لتهدئة الاقتصاد المحلي. تستخدم الولايات المتحدة مزيجا من الدبلوماسية الثنائية ومتعددة الأطراف في محاولة لإقناع بكين بأن مصلحتها تكمن في السماح لعملتها بالارتفاع؛ وتسعى واشنطن إلى تجميع مجموعة دعم بين مجموعة العشرين للاقتصادات الرائدة.
منح التسييس في واشنطن الإدارة أداة تفاوض أخرى، على الرغم من أنها قد تكون خطيرة: التهديد بفرض تعريفات على العملة. في تشرين الأول (أكتوبر) أقر مجلس الشيوخ مشروع قانون يلزم الولايات المتحدة باستخدام حسابات تبين مقدار انخفاض قيمة العملة عن قيمتها الحقيقية، عند تقييم المدى الذي تُعتبَر عنده أسعار الواردات ذات قيمة غير عادلة، لأغراض فرض تدابير طارئة تسمى تعرفات ”مكافحة الإغراق” و”الرسوم الجمركية المضادة”. ويقول جميع المرشحين الجمهوريين المحتملين للترشيح الرئاسي تقريبا إنهم يؤيدون مشروع القانون.
يبدو أن البيت الأبيض يحاول استخدام مشروع القانون كتهديد، حيث يقول إنه يؤيد أهدافه في حين يعرب عن مخاوف مبهمة بشأن شرعيته بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية. وهذا الموقف الذي يركز على التفاصيل الدقيقة يزعج الزعامة الجمهورية في مجلس النواب؛ حيث تقول: إن المقترح قد يؤدي إلى حرب تجارية شاملة، وتقاوم ضغوط الديمقراطيين لإخضاع تشريع مماثل للتصويت في مجلس النواب.
يتفق بعض الخبراء على أن مثل هذه التهديدات قد تأتي بنتائج عكسية. ويقول نيك لاردي من معهد بيترسون: إن المواجهة المباشرة من شأنها فقط أن تضعف موقف جهات معينة في النظام الصيني- مثل البنك المركزي – تدعو في محافلها الخاصة إلى المزيد من مرونة العملة. وهو يقول: ”يمكن أن تقول إدارات ووكالات أخرى للبنك المركزي: أنتم تخضعون للمصالح الغربية”.
ويعتقد أن الأسلوب الآخر للإدارة – أي تنظيم تحالف من الدول المتعاطفة – أكثر فائدة على الأرجح، حيث يستغل عدم استعداد الصين لكي تبدو منعزلة. لدى واشنطن الكثير من الحلفاء الطبيعيين في مجموعة العشرين. فالبرازيل على وجه الخصوص مستاءة للغاية بشأن اليوان.
إلا أن الأحداث في أماكن أخرى من الاقتصاد العالمي تتآمر لإضعاف الحملة؛ فتزايد تجنب المخاطر من قبل المستثمرين أدى في الآونة الأخيرة إلى عكس تدفقات رأس المال إلى الصين وإضعاف اليوان. وفي أوروبا، لا يزال بعض المسؤولين يأملون أن تساعد الصين جهود إنقاذ منطقة اليورو وبالتالي ليس لديهم حافز كبير للمواجهة.
إن موضوع العملات كان دائما موضوعاَ مثيرا للجدل والخلاف. فليس هناك الكثير من القوانين التي تحكم أسعار الصرف العالمية. على العكس من ذلك، فإن للتجارة في السلع والخدمات – والقضايا المرتبطة بها مثل الشراء والاستثمار الأجنبي وحقوق الملكية الفكرية والقوانين المحلية – سبلا عدة يمكن استكشافها دون إشعال فتيل الانفجار الدبلوماسي. وصحيح أن نسيج القانون التجاري فيه ثغرات كبيرة، إلا أن قواعد منظمة التجارة العالمية، التي انضمت الصين إليها قبل عشر سنوات تقريبا، لها بالفعل بعض التأثير المقيد.
وتشير الإدارة الأمريكية إلى مجموعة من الإجراءات التي اتخذتها. وتشمل تلك الإجراءات دعوى قضائية من منظمة التجارية العالمية ضد استخدام الصين لمكافحة الإغراق والرسم الجمركي المضاد للضرائب على الواردات على شركات التصدير الأمريكية، والشروع في تحقيق واسع النطاق من قبل الإدارة في دعم بكين لصناعة الطاقة المتجددة فيها. وفي هذه الحالة، ألغت الصين لأغراض وقائية استباقية برنامجا لدعم صناعة توليد الطاقة باستخدام الرياح.
ويقول تيم ريف، المحامي العام في مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة: ”حالما يتم إثارة احتمالية الدعوى القضائية، كان هناك حتى الآن سجل بنسبة 50 في المائة تقريبا لاتخاذ الصين إجراءات تهدف إلى الوفاء بالالتزامات قبل أن تدخل فعليا في عملية تسوية النزاعات”.
وقد رفعت واشنطن كذلك دعاوى بهدف إقامة سوابق مفيدة. ففي الآونة الأخيرة، رفعت دعوى ضد رسوم مكافحة الإغراق والرسوم الجمركية المضادة التي فرضتها الصين على شركات تصدير الدجاج الأمريكية. صحيح أن الدواجن ليست هي أعلى الصادرات من حيث القيمة المضافة، ولكن بما أن الدعوى لها دلالات أوسع نطاقا، قد يتبين أنها مفيدة. ويقول ريف: ”تستخدم الصين مكافحة الإغراق والرسوم المضادة كإجراء انتقامي. وأحد أسباب رفع الدعوى هو منع استخدامها كوسيلة انتقامية”.
لا تخلو العملية القانونية من المشكلات. وأحدها هو التغطية المحدودة لقواعد منظمة التجارة العالمية. فالصين مثلا وضعت معظم أجزاء سوق التوريد الضخمة إلى المؤسسات الحكومية فيها خارج نطاق الشركات الأجنبية. ولم تف بعد بوعدها بالانضمام إلى اتفاقية المشتريات الحكومية لمنظمة التجارة العالمية، وهو اتفاق قائم بحد ذاته ومنفصل عن القواعد المعتادة للهيئة. وقد وعدت بكين بإجراء محاولة جديدة بحلول نهاية هذا العام للانضمام إلى الاتفاقية، إلا أن الشركات الأمريكية تشكك بالتزامها.
علاوة على ذلك، فقد تم بالفعل قطف الثمار الناضجة. وقد تم رفع الدعاوى السهلة نسبيا بالفعل؛ وعلى الأرجح أن رفع دعاوى في المستقبل سيكون أصعب، خاصة بسبب عدم وجود معلومات حول الإعانات الصينية والممارسات التنظيمية. وقد اشتكت واشنطن أخيرا إلى منظمة التجارة العالمية من أن بكين لم توفر المعلومات المطلوبة حول الإعانات التي تقدمها، ولكن مواردها في هذا المجال محدودة.
وتقول مجموعات الأعمال: إن الشركات الأمريكية مترددة في أغلب الأحيان في تزويد الحكومة الأمريكية بالمعلومات اللازمة لرفع الدعاوى، بسبب قلقها من الانتقام الرسمي ضد عملياتها في الصين. فطلب التحقيق في مصادر الطاقة المتجددة جاء من اتحاد عمال الصلب الأمريكي وليس من إحدى الشركات. وفي دعوى تم رفعها حديثا متعلقة بمكافحة الإغراق والرسوم المضادة ضد الواردات من الخلايا الشمسية الصينية رفعتها شركات الطاقة المتجددة الأمريكية، مارس ستة من المشتكين السبعة حقهم في إبقاء هوياتهم سرا.
تتعرض واشنطن للضغوط لتبني موقف أكثر تشددا بشأن هذه القضية. ويقول بيل راينش، الذي يترأس لجنة مراجعة العلاقات الأمنية والاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، التي ترفع تقارير سنوية إلى الكونجرس: ”توفير المعلومات إلى الممثل التجاري للولايات المتحدة هو عملية مكلفة، سواء من حيث الموارد التي تنطوي على ذلك أو احتمالية الأعمال الانتقامية”. وهو يعتقد أن على الإدارة الأمريكية، التي ترفع عادة فقط الدعوى التي ترى أن فوزها فيها مرجحا، رفع المزيد من الدعاوى التي لا تتوقع نتائجها لإبقاء الضغوط على بكين. وهو يقول إنه يمكن للولايات المتحدة رفع دعاوى ”إلغاء أو تعطيل”، على أساس أن شركاء الصين التجاريين لم يحصلوا على الفوائد التي توقعوها من دخولها إلى منظمة التجارة العالمية.
والأسلوب الأخير لأمريكا للتعامل مع الصين هو إقامة صفقات تجارية مع مجموعات من الدول، على أمل أن تشعر الصين بأنها مجبرة على الانضمام. وفي الآونة الأخيرة، وافقت الولايات المتحدة على ميثاق المخطط التفصيلي للشراكة عبر المحيط الهادئ، وهو تجمع من تسع دول – بما في ذلك فيتنام، التي فيها تدخل واسع للدولة على غرار الصين – بهدف التوصل إلى صفقة بحلول نهاية العام. وتستكشف واشنطن أيضا فكرة إنشاء المزيد من الاتفاقيات متعددة الأطراف في منظمة التجارة العالمية على طول خطوط اتفاقية المشتريات الحكومية.
ويقول دان برايس من شركة روك جريك جلوبال أدفايزرز ومسؤول كبير سابق في البيت الأبيض للاقتصاد الدولي: ”على الصين أن تفهم أنها مدعوة للانضمام إلى التطورات المستقبلية، مثل الاتفاقيات متعددة الأطراف في منظمة التجارة العالمية، أو الشراكة عبر الأطلسي. إلا أن هذه ستمضي قدما سواء قررت الصين المشاركة أم لا”. مع ذلك، تشكل الدول في الشراكة عبر الأطلسي مجتمعة 6 في المائة فقط تقريبا من التجارة الأمريكية؛ لذا من غير المرجح أن تشعر الصين بأنها مجبرة على الانضمام وإلا ستخسر جميع أسواقها التصديرية للشركات الأمريكية في أي وقت قريب. ولم يقل أحد: إن إقناع أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم بتغيير استراتيجيتها سيكون أمرا سهلا. وتقول الإدارة الأمريكية: إن الصين ستتحرك حين تتقبل أن التجارة الدولية ليست لعبة صفرية، وأن اقتصادها الناضج سيستفيد من مجموعة أوسع من القواعد التجارية. وتحقيق هذا سيستغرق وقتا ولكن مع النفوذ التفاوضي لأمريكا، تبدو تلك هي الاستراتيجية الأكثر واقعية.
ويقول أحد المسؤولين الأمريكيين: ”علينا أن نتمكن من إقناع الصين أن من مصلحتها اتخاذ إجراء معين. علينا أن نجد حججا وسبلا للضغط عليها من أجل اغتنام اللحظة”.