النموذج الصيني: من دولة فقيرة إلى دولة عظمى
موقع الصين بعيون عربية ـ
عباس منذر*:
علم الثقافة الصينية نظام ثقافي صيني محلي، وهو مصطلح يختلف عن العلوم والمعارف الأجنبية، فعلى سبيل المثال، الإختلاف بين الطب الصيني والطب الغربي، أو الإختلاف بين الرسم الصيني والرسم الزيتي، إذ يُعتبر علم الثقافة الصينية مفهومًا يقابله مفهوم الثقافات الأجنبية.
كما يمكن تصنيف محتويات الثقافة الصينية من حيث الزمان والجودة، فهناك الثقافات القديمة التي تقابلها الثقافات المعاصرة، والثقافات الكلاسيكية التي تقابلها الثقافات الرائجة، ويشير مصطلح علم الثقافة الصينية إلى الثقافة الصينية التقليدية التي نشأت قبل مرحلة حركة الثقافة الجديدة في العصر الحديث، أي الإنجازات الثقافية التي تم تحقيقها في تاريخ الصين القديمة، لذلك فإن علم الثقافة الصينية مفهوم تمييزي وكذلك مفهوم زمني.
وفي الإشارة إلى الثقافة الصينية التقليدية تبرز الكونفوشيوسية كإرث ثقافي أساسي لدى الصينيين، وهي تُنسب إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، الذي يُعتبر من الأعلام الكبار العمالقة في الفلسفة الفكرية في تاريخ البشرية عامة وتاريخ الصين خاصة، حيث صُنّف إسمه من أوائل “مائة شخصية أثرت في مجرى تاريخ البشرية”، إذ أنه وضع منذ أكثر من 2500 سنة اللبنة الأولى لمدرسة فكرية عريقة في تاريخ الصين القديم وهي المدرسة الكونفوشيوسية، فانتشر مذهبه وسادت أفكاره بين العامة والخاصة في ربوع الصين والدول المجاورة في شرقي آسيا وأنحاء العالم.
يدعو كونفوشيوس بتعاليمه بشكل أساسي إلى التسامح والتعاون، الرحمة والأخلاق الراقية، الحفاظ على كيان الأسرة والتعايش، قبول الآخر والعيش في سلام وأمان، وبأن يعود الإنسان إلى فطرته التي ولد بها نقية صافية لم تَشُبْها شائبة، ولم تتلوث بالفساد والزيف.
ففي القرن السادس قبل الميلاد احتدم الصراع بين الولايات الصينيّة، ما أدى إلى تقويض سلطة أمبراطورية “تشو” الحاكمة، الأمر الذي جعل من القيم والمبادئ المبنية على التقاليد الصينية تتداعى شيئًا فشيئًا، ممّا سبّب انحدارًا بالمثُل والأخلاق.
خلال تلك الحقبة التي عُرفت بـ “عصر الممالك المتحاربة” برز كونفوشيوس ليُعيد الروح للمثُل العليا والتقاليد الصينية، فبدأ ينشر فلسفاته وتعاليمه المبنية على ضبط السلوك الذاتي للأفراد وعلى مبدأ “رين” والذي يعني “حب الآخرين”، وأكّد كونفوشيوس أنّه من الممكن تطبيق هذا المبدأ باستخدام القاعدة الذهبية التي تقول “تتمنَّى للآخرين ما تتمناه لنفسك”.
ودعا كونفوشيوس في تعاليمه السياسية إلى اعتماد مبدأ الضبط الذاتي للنفس، وأكّد أنّه على الحاكم أن يُدَرِّب نفسه على هذا المبدأ حتى يبقى متواضعًا وليُعامل أفراده بالعطف، كما أنّه أشار إلى أنّ على الحاكم أن يحفّز الأفراد على اتباع القانون عبر تعليمهم الفضيلة من خلال الاقتداء به مشددًا على أهمية توحيد الطقوس الدينية.
كما ارتكز كونفوشيوس في التعليم على ما سمّاه “الفنون الستة” وهي: الرماية، الخط، ،الحساب، الموسيقى، قيادة العربات، والاتباع الصحيح للطقوس، وبالنسبة لنظريته في التعليم فإنه يرى أن المهمة الأساسية للمعلّم هي أن يعلّم الناس أن يعيشوا بنزاهة واستقامة.
عكست تعاليم كونفوشيوس قانون تطور المجتمع الذي يتمثل في أن تطور المجتمع والدولة يمر بثلاث مراحل، تبدأ من تقوية الدولة ثم إثراء الشعب ثم إزدهار الثقافة، وهنا قوة الدولة تعني الاستقرار السياسي الذي يُطمئن الشعب، وإثراء الشعب يعني التنمية الاقتصادية وتحقيق رخائه، وازدهار الثقافة يعني تحضر المجتمع، وهذا ما يشكل الخطوط العريضة لمذهب كونفوشيوس الفكري أو ما يُعرف بالكونفوشيوسية.
تؤكّد الكونفوشيوسية على الشعور بالمسؤولية والعمل الجماعي، وتشجّع على التنشئة التربوية الجيّدة للأطفال من حبّ الوالدين وحب الطبيعة والسماء والوطن وإصلاح الفرد والمجتمع، كما تتضمّن جزءاً أساسياً ومهمّاً من التقاليد الحضارية الصينية العريقة، وهي “تلخيص لتجارب الماضي ورؤية للمستقبل”، فاهتمّت الكونفوشيوسية بالأخلاق بشكل كبير جداً.
أما في السياسة وعلاقة المواطنين مع السلطة، تدعو الكونفوشيوسية إلى التزام أهل الفكر بانتقاد السياسات الرديئة، وتُلزم الحكومات ببذل ما يلزم من جهد لتوفير الرخاء المادي للناس المحرومين، كما تدعو الحكومات إلى تبنّي وجهة نظر هي أقرب إلى العقلية الدولية والاعتماد على القوة الأخلاقية، بدلاً من القوة العسكرية لتطبيق الأهداف السياسية، كما تشدّد الكونفوشيوسية على المساواة في فرص التعليم والاعتماد على الجدارة والكفاءة في اختيار أعضاء الحكومة، فضلاً عن توزيع المناصب القيادية على أكثر أفراد المجتمع فضيلة وأعظمهم تأهيلاً، إضافة إلى دعوة كبار معلّمي الكونفوشيوسية إلى التسامح مع الحياة الدينية والحفاظ على الأديان والتقاليد المتعدّدة في الصين.
لذلك يمكن القول بأن الكنفوشيوسية ليست ديانة مُنظّمة بالمعنى الحصري، كما هي المسيحية أو اليهودية أو الإسلام أو البوذية، إذ أن مفهوم الدين قادم من خارج الصين، كما أنها ليست ديناً أو منهجاً سماويّاً روحياً لأنها لا تتحدّث عن إله أو عن عالم روحاني، وإنّما عن الحياة الخاصة وعن السلوك الاجتماعي والسياسي.
نجد لكونفوشيوس التأثير الواضح في الصّين وفي تاريخها حتى قيل عنه إنه هو والسّماء صنوان، وأصبح الأدباء والحكماء بعد موته يستمسكون بفلسفته استمساكًا واضحًا، كما انتشرت الكونفوشيوسية في الصّين بشكل قوي إلى حد أنه من كان يريد أن يصل للسّلطة عليه أن يتعلم مبادئها، فنشأت المدارس العديدة لتعليم الكونفوشيوسية.
وفي التاريخ الحديث للصين، أثرت الكونفوشيوسية على سياسة الإصلاح والإنفتاح بشكل كبير، خصوصًا في عهد الرئيس الصيني دينغ شياو بينغ الذي سُمّي بـ”مهندس الإصلاح الصيني” عام 1978، والذي استمد في عمله الكثير من قيم ومبادئ الكونفوشيوسية، وهو القائل “إن السلوك والفكر الصينيين لم ينفصلا في أي مرحلة من مراحل التاريخ عن الكونفوشيوسية، حتى خلال الثورة الثقافية الكبرى تمكن الشعب الصيني من المحافظة على الكونفوشيوسية التي كانت كامنة في نفوس الصينيين”، وقد انعكست الكونفوشيوسية كثيرا وأثرت في إعادة بناء الصين، ونبذ الروح الانتقامية بعد الثورة الثقافية، والتركيز على مساحات الاتفاق، خاصة مع بدء سياسة الإصلاح والانفتاح، التي قصرت المسافة كثيرا بين الصين والعالم، وجعلت الصين أكثر قربًا من المجتمع الدولي، ومبادئ السياسة الخارجية الصينية في الوقت الحالي مستمدة من تعاليم كونفوشيوس التي تقوم على الدعوة لمجتمع ذي مصير مشترك للبشرية، والتوافق والتعاون رغم الاختلاف.
إضافة لإرث الكونفوشيوسية الثقافي، وضعت الإشتراكية أثرها على الحياة الصينية، فحين يتحدث بعض الباحثين الصينيين عن تجربة الصين التنموية، يقومون بمقارنتها مع أنظمة سياسية إجتماعية مختلفة تماماً عن النظام المعتمد فيها اليوم، أنظمة سادت فيما مضى، وكانت من أحد أهم الأسباب التي دفعت الصين نحو التخلف والتأخر عن ركب الحضارة والتقدم، على الرغم من أن الصين تمتلك واحدة من أعرق حضارات التاريخ، وهذا ما نشر الجهل والفقر والتخلف فيها وجعلها مطمعًا للقوى الإستعمارية، لذلك، كان لا بد من ثورة على واقع تم فرضه على شعب جَرَّب عدة أشكال من الأنظمة السياسية والإجتماعية، باءت جميعها بالفشل، فكانت الإشتراكية هي النظام الأنسب الذي توافق مع ظروف وخصائص دولة كالصين.
برأي الكثير من الكتاب فإن الإشتراكية ليست نظامًا محدّداً، بل هي مفهوم، ولا يوجد دليل عملي على تأسيس النظام الإشتراكي أو طبيعة مؤسساته أو شكل السوق الذي سينتج عنه، ويعتبرون أن حتى كارل ماركس نفسه لم يشرح خصائص هذا النظام أو كيفيّة الانتقال إليه، لذلك تتميز كل دولة طبقت أو تطبق الإشتراكية بخصائص تطبيقية للإشتراكية تختلف عن غيرها من الدول، ولطالما ترافق مصطلح الإشتراكية بإسم الدولة التي يتم الحديث عن تجربتها، كالاشتراكية السوفييتية، الإشتراكية الفرنسية، الإشتراكية الألمانية، فيصبح من الطبيعي الحديث عن الإشتراكية الصينية، أو بوصف أدق “الإشتراكية ذات الخصائص الصينية”، وهو المصطلح المتعارف عليه في كثير من المقالات والأبحاث لوصف الإشتراكية المطبقة داخل جمهورية الصين الشعبية.
لا يوجد تعريف علني محدد لـ”الإشتراكية ذات الخصائص الصينية”، ولكن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني الحاكم تصفها في إحدى جلساتها بأنها “نظام علمي طوّره الحزب والشعب من خلال ممارسات واستكشافات طويلة الأمد”، ووضعت له عددًا من الأسس التي أصبحت معروفة ومتوفرة في الأبحاث والكتب الحديثة.
وقد تطوّرت “الإشتراكية ذات الخصائص الصينية” خلال العقود الأربعة الماضية لتتضمن خمسة عناصر رئيسية هي: البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء الثقافي، البناء الاجتماعي للاشتراكية وبناء الحضارة الإيكولوجية (التي تتعلق بوحدة البشرية)، وفي العام 2018، تم إدراج أفكار الرئيس “شي جين بينغ” في هذه النظرية التي توزعت على أربعة عشر بنداً تتمحور حول الحزب الحاكم وخدمة الشعب والإصلاح ضمن رؤية جديدة وغيرها من المواضيع.
ويظهر أن هذه الأسس والعناصر والأفكار جعلت من الإشتراكية الصينية مفهوماً فضفاضاً إلى حد كبير، لكنها ضمنت نجاح الحكومة المركزية في التحول بالصين من دولة فقيرة إلى دولة غنية ومتطورة تنافس كبرى دول العالم، وحجز مكان لها ضمن الدول الأكبر والأقوى والمتقدمة في العالم، كما يعتبر العديد من المنظرين الاقتصاديين والسياسيين أن نظام “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” هو الضمان المؤسسي الأساسي لتطور وتقدم الصين.
ولأن الشيوعية هي المرحلة المكملة للإشتراكية، تعتبر جمهورية الصين الشعبية هي القوة العظمى الوحيدة في العالم التي لا يزال يحكمها الحزب الشيوعي في أيامنا الحالية، إذ يحكمها الحزب الشيوعي الصيني الذي سعى إلى تحقيق النظام الاجتماعي الشيوعي، وقيادة وتوحيد أبناء البلاد على اختلاف قومياتهم، كما دعا إلى العديد من حركات الإصلاح والانفتاح، والاعتماد على الذات، وكذلك اهتم بالبناء الاقتصادي بشكل مركزي، انتهاءً ببناء دولة اشتراكية حديثة، قوية، وديمقراطية، كما ترتكز إيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني على الماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظرية دنغ شياو بينغ، ويعتبر الزعيم ماو تسي تونغ مؤسس الجمهورية الشعبية وأول زعيم شيوعي في الصين وعرّاب الحزب الشيوعي منذ تأسيسه، وهو الذي قام بتعديل النظرية الماركسية والممارسة الشيوعية لتلائم الظروف الصينية.
وضع ماو تسي تونغ أسسًا لدولةٍ جديدةٍ عبر التذبذب بين الطبقات دون الإعتماد فقط على الطبقة العاملة مباشرةً، وقام عبر الدولة بمصادرة أملاك الملاكين العقاريين الكبار والرأسماليين، وبالرغم من الطريقة المشوهة التي تم بها ذلك، إلا أن إقامة الاقتصاد المؤمم والمخطط شكل إجراءً تقدميًا وخطوة هائلة إلى الأمام بالنسبة للصين، وقد وصف بعض الكتاب إنجازات الثورة الصينية بأنها طريقة بونابرتية، أي من فوق من دون مشاركة العمال ورقابتهم الديمقراطية، فأقامت البيروقراطية نظاما ديكتاتوريًا كليانيًا أحادي الحزب على شاكلة روسيا الستالينية، وهذه النتيجة كانت متوقعة بشكل كامل بالنظر إلى الطريقة التي أنجزت بها الثورة، وبالنظر إلى وجود نظام ستاليني قوي على حدود الصين.
لقد شكلت الثورة الصينية خطوة عظيمة إلى الأمام، لأن انتصارها منع البلاد من أن تتحول إلى شبه مستعمرة تسيطر عليها الإمبريالية الأميريكية، ومكنت الشعب الصيني من تحقيق تحرره الكامل من نير الهيمنة الأجنبية للمرة الأولى في تاريخه.
على الرغم من الإنجازات الضخمة التي حققتها الثورة الصينية، إلا أن الحزب الشيوعي الصيني لم يحقق جميع أهدافه حتى الآن، وما زال يواجه تحديات داخلية وخارجية كبيرة، منها شينجيانغ والتيبت وتايوان والفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء التي باتت واضحة جدًا، بالإضافة إلى قضية بحر الصين الجنوبي وكوريا الشمالية والحرب الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
يعود سبب تحقيق الحزب الشيوعي الصيني لأهدافه الأساسية عكس باقي التجارب الشيوعية في العالم إلى العقلية الصينية المتأثرة بالفكر الكونفوشيوسي، أي “فليقم الأمير بدوره كأمير، والتابع كتابع، وليقم الأب بدوره كأب، والإبن كإبن”، أي أن يؤدي كل فرد عمله بجدية وإخلاص، وأن يجعل الحاكم نفسه أسوة حسنة لرعيته، عندها لن يجرؤ أحد على الفساد، كذلك ساعد تأثير الفكر الكونفوشيوسي على العقلية الصينية اللينة كثيرا في الحفاظ على الاستقرار السياسي في الصين.
في المقال الثالث… النموذج الصيني على الصعيد العالمي