الصين وفلسطين.. التزام على حدّ القضية
موقع الصين بعيون عربية-
محمد أ. الحسيني*:
مرّت الصين بمخاضات عسيرة قبل أن تصبح، وخلال أربعين عاماً فقط، ثاني قوة اقتصادية في العالم، بفضل الثبات على السياسات الإصلاحية الثورية للزعيم ماو تسي تونغ، وتمسّك الشباب بانتمائهم للحزب الشيوعي الصيني على الرغم من التحدّيات المباشرة لاجتياح العولمة، والاستهداف المباشر من قبل الغرب في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها.
ويعدّ التجديد الدائم ميزة جوهرية في نهج الحزب الشيوعي الصيني، ولا سيّما تحت قيادة الأمين العام للجنة المركزية للحزب شي جين بينغ، وهي تشكّل مقدّمة دافعة لتحقيق إنجازات “تصمد أمام اختبار الزمن ويستحقها الشعب”، كما يمثّل “التراث الثوري للحزب مصدر القوة الروحية للشيوعيين الصينيين في العصر الجديد” بحسب ما أكّده بينغ عشية بدء الاحتفالات بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني.
برزت “الصين الشعبية” كقوة عظمى اتخذت منهجاً سياسياً قام على دعم حركات التحرر ومعاداة الرأسماليين ومحاربة أرباب الاحتكار ورفض اضطهاد الشعوب، ومثّل العالم العربي معبراً للدولة الفتية، باتجاه الإنفتاح على منطقة الشرق الأوسط تحت عنوان القضية الفلسطينية، باعتبارها جوهر الصراع العربي – الإسرائيلي، فضلاً عن جوانب أخرى استراتيجية تتصل بجوانب اقتصادية تأخذ المصالح الصينية بعين الاعتبار، وهو ما أمّن للصين بوابة للانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات الخارجية.
منذ العام 1948 اهتمت الصين بفلسطين وأيّدت القضية الفلسطينية في مراحل عدّة، فكانت أوّل دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير عام 1965، وأمّدتها بالسلاح لدعم الكفاح المسلّح، وافتتحت مكتباً للمنظمة في بكين مع منحه امتيازات من قبل وزارة الخارجية، واستقبلت ياسر عرفات في أول زيارة فلسطينية غير رسمية على رأس وفد من حركة فتح، بدعوة من الحزب الشيوعي الصيني، ووقفت إلى جانب الفلسطينيين في مراحل عدّة بدءاً من حرب يونيو/ حزيران عام 1967 مروراً بأحداث يوليو/ تموز الأسود عام 1970 ثم حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1973 فالإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وحربي الخليج الأولى والثانية، ثم مؤتمري مدريد عام 1991 وصولاً إلى الحقبة التي مهّدت الطريق أمام توقيع اتفاق “أوسلو” عام 1993.. وانتقل موقف الصين المؤيّد للحق العربي إلى أروقة الأمم المتحدة عندما عارض مندوبها الدائم لدى الهيئة الدولية قرار وقف إطلاق النار، كما عارض القرار 242 لأنه لم يستنكر العدوان الإسرائيلي، وكذلك القرار 338، لأن الصين كانت ترفض الدخول في مباحثات بالنيابة عن الشعب الفلسطيني، وعن منظمته الشرعية.
ولكن هذه السياسة شهدت تحوّلات متدحرجة تبعاً لتحوّل الموقف العربي والإسلامي من القضية الفلسطينية، فضلاً عن تحوّل الموقف الرسمي الفلسطيني نفسه على مستوى الحلول والمعالجات، يضاف إلى ذلك أن الصين وانطلاقاً من عام 1978، في عهد دينغ شياو بينغ، انتهجت سياسة براغماتية تحت عنوان “الإصلاح والانفتاح”، لمواجهة العزلة الدولية التي فرضها عليها الغرب، فقد اعترفت بالدولة الفلسطينية التي أعلنتها منظمة التحرير عام 1988 في الجزائر، وفي المقابل دشّنت عام 1992 طريق العلاقات الصينية – الإسرائيلية، فتمكّنت بذلك من الجمع بين الثبات على الإنحياز لحقوق الشعب الفلسطيني، وبين إقامة علاقات وثيقة مع إسرائيل، ممّا أتاح لها الفرصة لشراء تكنولوجيا عسكرية غربية متطورة، كانت حصلت عليها إسرائيل من الولايات المتحدة ودول أخرى، ولكنها لم تفلح في تحقيق هدفها بلعب دور الوسيط السياسي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
وتعود تحولاّت الموقف الصيني، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية المتّصلة بمنطقة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، إلى عدة أسباب أهمها:
- تغيّر الموقف العربي نفسه من الصراع بعد عدة حروب متواصلة، انتهت باتفاقية كامب دايفيد عام 1979 بين مصر وإسرائيل.
- إقرار العرب بمبدأ السلام كوسيلة لتسوية القضية الفلسطينية وفقاً لمقررات قمة فاس عام 1982.
- مشاركة العرب في مؤتمر مدريد للسلام عام 1990، وما تبعه من اتفاقات مع الفلسطينيين والأردن.
- التعاطي مع القضية الفلسطينية كما يريد أصحاب الشأن، وتفضيل التعامل مع النظام العربي الرسمي وليس مع حركات التحرّر، بمعنى الدخول إلى المنطقة من الأبواب لا من النوافذ.
التغيّرات الجيوسياسية المتلاحقة في الشرق الأوسط، وكذلك مواقف الأنظمة العربية على صعيد التعاطي مع القضية الفلسطينية، والدخول العريض لإسرائيل في مسار التطبيع مع الدول العربية ولا سيما دول الخليج، دفعت صانعي السياسة الخارجية الصينية إلى انتهاج سياسة جديدة تركّزت على اعتماد الخيار السياسي والدبلوماسي للحلّ والتخلّي عن الخيارات العسكرية، فلم تعد الأولوية للأيديولوجيا وإنّما للمصالح بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من أن إسرائيل اكتسبت أهمية خاصّة بالنسبة للصين، إلا أنّ ذلك لم يدفعها لانتهاج سياسة معادية للعرب والفلسطينيين.
ولم تأخذ هذه التبدّلات بالصين إلى الطرف الآخر من الموقف، فلا تزال بكين ثابتة في مواصلة الدعم الصيني الرسمي والحزب الشيوعي الصيني للقضية الفلسطينية، كما صرّح سنونغ تاو مسؤول دائرة العلاقات الخارجية ومسؤول دائرة غرب آسيا وشمال إفريقيا بالحزب في مارس/ آذار الفائت، ويتجلّى هذا الدعم بالتأكيد على الحقوق الوطنية العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.
*كاتب وباحث من لبنان