أزمة تفاعل الإعلام اللبناني مع الصين: بين الخلفيات الخارجية والخلافات الداخلية
موقع الملف الإستراتيجي-
محمود ريا:
يعتبر الإعلام في لبنان متطوراً بالمقارنة مع ما هو الحال في المنطقة المحيطة، وحتى على مستوى العالم العربي ككل.
وبالفعل، فمعظم كوادر الإعلام في مختلف المحطّات الإعلامية العربية ـ الدولية هم من لبنان، سواء على مستوى العمل الميداني والخبرات التنفيذية أو على مستوى قيادة العمل الإعلامي وإدارة المؤسسات الضخمة.
وانطلاقاً من لبنان، برزت مؤسسات إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية، حجزت مكانها المتقدم على خريطة الإعلام العربي، ولعبت دوراً مهماً في نقل هذا الإعلام إلى مستوى العالمية.
كل هذا صحيح، وهو مستند إلى وقائع يعرفها اللبنانيون ويعترف بها العرب من المحيط إلى الخليج، ولكن هذا لا ينفي أيضاً ضرورة الاعتراف بضعف أساسي يعاني منه الإعلام اللبناني وهو كونه إعلاما “منفتحاً” إلى أبعد الحدود، بل إنّه لا حدّ لانفتاحه، حيث أنّ الكثير من مفرداته باتت خارج القوانين الناظمة لهذا القطاع المهم، وأصبحت تتحرّك بحريّة مطلقة دون مراعاة القواعد الأساسية التي يجب أن تحكم العمل الإعلامي في أي بلد في العالم.
ومن أهم هذه المفردات “المخترقة” مسألة الحرّية، فهي في الإعلام تجاوزت كل ما هو مألوف، وأصبح الكثير من الإعلاميين يعملون على هواهم دون أي ضوابط وانطلاقاً من مصالحهم الشخصية، وربما من ارتباطاتهم الخارجية.
وهذا الأمر ليس جديداً وإنّما نشأ مع نشوء لبنان نفسه، وكلنا نتذكّر ما قاله الرئيس الراحل شارل حلو عندما استقبل رؤساء تحرير الصحف اللبنانية، حيث بادرهم بالترحيب: “أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان”.
ما نفهمه من هذه العبارة أنّ الإعلام اللبناني، بمعظمه، مرتبط بمنظومات إعلامية وسياسية خارجية، ويتلقّى “الوحي” الإعلامي من هذه المنظومات. ولا يخفى على أحد أن التيار الغالب في الإعلام اللبناني هو تيّار ذو هوى غربي، ويستمدّ أفكاره وتغذيته الإخبارية وموادّه التحليلية، وحتى آراء كتّابه، من هذه المنظومات، حتى لو كان ذلك يتعارض في بعض الأحيان مع المصلحة الوطنية.
بناءً على هذه الفرضية، لا يعود مستغرباً أن يتعامل الكثير من المنصّات الإعلامية ـ بمختلف أنواعها ـ مع القضايا العالمية انطلاقاً من النظرة الغربية للأحداث، وهذا ما خبرناه في التغطيات الإعلامية للكثير من الأحداث التي شهدها العالم على مدى العقود الماضية.
وليست الصين استثناءً في هذا المجال، حيث انحاز الإعلام اللبناني ـ بمجمله ـ إلى الرؤية الغربية، ولا سيما الأمركية منها، في التعاطي مع القضايا التي تهم الصين. ففي مسائل مثل تايوان وشينجيانغ والتيبت وحقوق الإنسان نرى الإعلام اللبناني يردّد المصطلحات الغربية دون أي تعديل أو تبرير، فنجد في معظم الإعلام اللبناني أن تايوان دولة، وأن المسلمين الإيغور في شينجيانغ تنتهك حقوقهم، وأن التيبت يجب أن “تحرّر”، دون الاطّلاع على حقيقة الأمور أو التدقيق بالأحداث الواقعة، أو مراجعة القوانين الدولية الحاكمة في هذه المواضيع.
ويتماشى الإعلام اللبناني في هذه التغطية المنحازة للأحداث في الصين مع التيار السائد في الإعلام العربي المدوّل، والذي نما في الفترة الأخيرة، انطلاقاً من فضاء إعلامي مرتبط بدوره بالمنظومة الإعلامية الغربية.
من هنا يمكن القول إنّ العامل الأساسي المؤثّر في نظرة الإعلام اللبناني إلى القضايا التي تهم الصين هو عامل بنيوي، ولا يرتبط بتطوّرات تفصيلية شهدها لبنان في الفترة الأخيرة. ولا يمكن هنا نفي تأثير الخلافات السياسية اللبنانية في تصعيد لهجة الاتّهام التي تسود التيار الغالب في الإعلام اللبناني تجاه الصين، ولا سيما مع الدعوة إلى الاتّجاه شرقاً لمحاولة إنقاذ الاقتصاد اللبناني، فقد أثارت هذه الدعوة حفيظة الكثيرين من ذوي الأفكار الغربية فانطلقوا في عملية تشويه أكثر حدّة لصورة الصين في المنطقة. إلاّ أنّ هذا الاتجاه لم ينطلق من فراغ، وإنّما استند إلى إرثٍ من محاباة العداء الغربي للصين، والذي بدأ يتضخّم بشكل كبير في الفترة الأخيرة نظراً للخشية الأميركية من صعود الصين، والتي تترجم بشكل حملة إعلامية مسعورة في مختلف الاتجاهات.
هل هذا التّوجه السائد في الإعلام اللبناني ضدّ الصين قدر لا يمكن معاندته؟
بالطبع لا، فهناك الكثير من التحولات الإيجابية التي شهدتها صورة الصين في الإعلام اللبناني في الفترة الأخيرة. وهذا التحول نابع من الكثير من المعطيات المتعلّقة بقدرة الصين على تقديم معلومات ومعطيات حقيقية تقنع الإعلامي اللبناني، ومن وجود وسائل إعلامية لبنانية وعربية قرّرت التخلّص من قيد التبعية لمنظومة الإعلام الغربي، فضلاً عن انتشار الإعلام الجديد المتفلّت من سيطرة الكارتيلات الإعلامية الكبرى الخاضعة بشكل عام للنفوذ الغربي.
إلاّ أنّ هذه التحوّلات الإيجابية ليست نهاية المطاف، وإنّما هي بداية مسار طويل يحتاج إلى الكثير من الجهد والعناية لتحقيق الانقلاب المنشود في صورة الصين في المنطقة العربية. ويحتاج هذا الأمر إلى دراسات معمّقة وخطوات عملية وتعاون مستمر بين الصين والقوى المؤمنة بأهمية دورها التنموي والسلمي في المنطقة والعالم، بعيداً عن التشويش الغربي الذي يفبرك المعطيات السلبية مستهدفاً الصين ونهضتها وتعاونها الإيجابي والمثمر مع كل دول العالم لبناء مجتمع المصير المشترك للبشرية على قواعد السلام والوئام والتنمية المشتركة والشاملة.
والحديث عن هذه الخطط المفيدة في توضيح صورة الصين يحتاج إلى العديد من المقالات والندوات التي ستكون محط الاهتمام في المرحلة المقبلة.