الصين، الولايات المتحدة والقيادة الأخلاقية
صحيفة العرب اليوم الأردنية ـ
د.” محمد خير” عيادات:
ليس نمطاً أو عادة يومية أن تقوم صحيفة ( نيويورك تايمز ) الأمريكية بترجمة مقالات من اللغة الصينية, وذلك لإعادة نشرها باللغة الإنجليزية; غير أنّ هناك استثناءات, وهذه المقالة التي كتبها الأكاديمي الصيني (يان تسوتونغ) من معهد الدراسات الدولية في جامعة (تسنغ وا) هي واحد من هذه الاستثناءات المهمة, والسؤال الذي طرحه هو نفسه عنوان المقالة ( كيف يمكن للصين هزيمة الولايات المتحدة?), والإجابة التي اعطاها لهذا السؤال: نعم; أي انه بإمكان الصين هزيمة الولايات المتحدة, ولكن الهزيمة ليست هزيمة عسكرية, ومن يريد ذلك حتى لو كان ذلك ممكناً, الحديث أن الصين تتولى القيادة الأخلاقية العالمية, واحد الافتراضات الأساسية التي بنى عليها وجهة نظره ان المفتاح للنفوذ الدولي هو القوة السياسية, وأن الصفة الأهم للقوة السياسية هي وجود قيادة سياسية مستنيرة أخلاقياً, ويضيف (يان تسوتونغ) قائلاً: إن القادة الذين يتصرفون بناءً على معايير أخلاقية, عندما يكون ذلك ممكناً, هم أولئك القادة الذين سيفوزون بالسباق على القيادة على المدى البعيد.
السؤال الضمني الأهم الذي طرحه الكاتب الصيني هو من يملك الآن تلك القيادة الأخلاقية? وجوابه انه لا أحد ! الولايات المتحدة كما يراها الكاتب هي قوة عسكرية مهيمنة, وقوة اقتصادية هائلة, لها أصدقاء وحلفاء اكثر من ذلك مما للصين, ولكنها ليست قوة أخلاقية, ولا تتمتع بالقيادة الأخلاقية العالمية; لكن هل تملك الصين تلك القوة الأخلاقية? ان جواب الكاتب هو ايضاً ان الصين كما هي الآن, لا تملك تلك القوة أو الجاذبية الأخلاقية. والمقالة تعبر عن قراءة واقعية, وموضوعية ومتواضعة لوضع الصين العالمي, وهذا بحدّ ذاته مؤشر ايجابي مهم, يتجنب الخداع الذاتي, كما أنه يعبر عن رفض المساواة بين الدعاية الإعلامية, والقناعات العقائدية المغلقة, والتهنئة الذاتية, وبين حقائق الأمور كما هي عليه.
ان على الصين ان تعمل الكثير حتى تتحول أو تصل إلى تلك القيادة الأخلاقية, ان ما يمنع الأمم كما يمنع الأفراد من تحقيق إمكاناتها المادية والمعنوية هو ان تحتفل بالانتصار في وقت مبكر, ان الشعور بالتفوق والرضا عن النفس هو نهاية الطريق في التعلم أو حتى الإدراك, والسؤال بالتأكيد يبقى وهو إلى أي مدى هذا الإدراك والوعي الذي يعبر عنه كاتبنا يشاركه فيه الأفراد العاديون الصينيون وكذلك القيادة الصينية, لكن هذا التحفظ يجب ان لا يقلل من أهمية هذا الإدراك والوعي الذي عبر عنه الكاتب.
إن ملامح المشروع الذي طرحه الكاتب يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: الأول أن القيادة الأخلاقية هي صفة مشتركة للفلسفة الصينية القديمة وأهمها تعاليم الفيلسوف الصيني الشيهر كونغوشيوس, الذي أكد ان الانتصار هو حليف القيادة الإنسانية في مواجهة الهيمنة والتعسف. والثاني في هذا المشروع هو حتى تكون أنموذجاً للآخرين ومركز جاذبية أخلاقية يجب على الفرد والدولة التي تطمح لهذا الدور ان تبدأ بنفسها. ولهذا فإن الأفراد والشعوب المنافقة لا يمكن ان تكون مصدر الهام أخلاقي.
و”هذا يعني أن تقوم الصين بإعادة تحديد أولوياتها, وذلك بالتحول من التركيز على النمو الاقتصادي إلى تأسيس مجتمع حر منسجم, تزول فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء, هناك حاجة لاستبدال عبادة النقود بالأخلاق التقليدية, واقتلاع الفساد السياسي لصالح حسٍ وعدالة اجتماعية”, أما العنصر الثالث والأخير في هذا المشروع الأخلاقي فهو على الصين ان تتحمل مسؤولية حماية الدول والشعوب الأضعف ودعمها في العالم.
غير أنه ما زال أمام الصين طريق طويل حتى تحول هذا المشروع الأخلاقي إلى أنموذج عملي, كما ان هناك تحديات عملية ونظرية قد تحول دون هذا الطموح , ان الحاجة إلى أنموذج أخلاقي إنساني هي حاجة لا تحتاج إلى تأكيد, لكن الخوف والتخوف هو ان تصبح هذه النماذج الأخلاقية تغليفاً لطموحات الدولة القومية الصينية وأولوياتها, ان الولايات المتحدة تملك أنموذجاً اخلاقياً إنسانياً يقوم على مركزية الحرية والديمقراطية, ولكنه أنموذج وللأسف تراجع أمام طموحات الدولة القومية الأمريكية والمصالح الوطنية الأمريكية. إن تراجع الثقة بالأنموذج الأمريكي يعود بشكل اساسي الى هذا التناقض, ولذلك فإن الصين في سعيها ان تصبح قطب جذب أخلاقيا, يجب ان تكون واعية على ان الأنموذج الأخلاقي الذي يمتلك مصداقية للجذب هو ذلك الأنموذج الذي يعد البعد الإنساني مرجعاً وطموحاً. إن الشعوب الفقيرة والضعيفة ربما لا تملك وسائل القوة, لكنها لا تفتقر إلى الإدراك والوعي , وكذلك شعور عارم بالكرامة.