الصين تودع عام “الثور” وتستقبل عام “النمر”
الصين اليوم-
أحمد سلّام*:
تُعد الأعياد والمناسبات التقليدية والوطنية أحد المكونات المهمة لثقافات الدول، ولذا نجد شعوب العالم تحرص على الاحتفال بأعيادها ومناسباتها التقليدية والوطنية المختلفة، فالدول العربية على سبيل المثال تحتفل بأعياد المسلمين وأعياد الأقباط وفي هذه المناسبات تُقام السرادقات وتُزين الشوارع بالإضاءات، وتُمارس العديد من العادات والتقاليد التي تتميز بها هذه الأعياد. والحال كذلك في جمهورية الصين الشعبية، والتي تتميز بارتباط العديد من أعيادها بالأساطير والحكايات الشعبية والرموز التي أثّرت في حياة الشعب الصيني منذ بداية التاريخ. لذلك، فالأعياد الصينية تحمل تاريخا عريقا، وتتميز أيضا بمضمون ثري، علاوة على كونها جزءا مهما من الثقافة الصينية، ويأتي على رأس هذه الأعياد عيد الربيع.
يحتفل الصينيون في الأول من فبراير هذا العام، 2022، بأهم الأعياد الصينية، عيد الربيع أو رأس السنة القمرية الصينية، حيث تودع الصين عام “الثور” وتستقبل عام “النمر”، والذي يتميز بأنه عام الفرص والازدهار والمكاسب المالية (حسب المهتمين بالأبراج الصينية). ويُعدّ عيد الربيع أهم الاحتفالات التقليدية الصينية، كما يعرف أيضا بعيد لمّ شمل الأسرة، حيث تجتمع العائلات والأصدقاء وتُزين جميع الأراضي الصينية باللون الأحمر والفوانيس والإضاءات.
المفاجأة والانبهار
في بداية عام 2010، وهو العام الأول لي خلال فترة إقامتي برفقة أسرتي بالصين، والتي استمرت أربع سنوات وهي مدة إلحاقي للعمل كمستشار إعلامي بسفارة مصر لدى الصين، تصادف وجودي مع عيد الربيع الصيني في الرابع عشر من فبراير/ شباط عام 2010، وحسب تسلسل الأبراج الصينية، فقد كان هذا العام هو عام “النمر” (يصادف هذا العام 2022 نفس الحيوان وهو النمر) ووفقا للثقافة الصينية، فالنمر حيوان له قوة ساحرة ويرى المهتمون بالأبراج الصينية أن من يولد تابعا لهذا البرج يتمتع بالعديد من الصفات الشخصية، مثل القوة والقدرة على القيادة والتحلي بالشجاعة والحكمة والثراء.
وقد تفاجأت أسرتي في اليوم الأول لاحتفال الشعب الصيني بعيد الربيع بالأصوات الضخمة والضوضاء الناجمة عن استخدام كميات هائلة من المفرقعات والألعاب النارية، ونظرا لأنني قد شاهدت وعشت هذه الاحتفالات خلال عام 2000 أثناء فترة دراستي بجامعة بكين، فقد قمت بتهدئة روع أفراد أسرتي، وأخبرتهم أن هذه عادات الصينيين في الاحتفال بعيد الربيع، حيث تودع الصين عاما وتستقبل عاما جديدا.
قصة الأبراج الصينية
تتكون الأبراج لدى الصينيين من اثني عشر برجا تُحتسَب بالعام، ولهذا تسمى أعوام الأبراج الصينية، وترجع احتفالات عيد الربيع إلى عام 2600 قبل الميلاد. ويعتمد التقويم القمري الصيني السنوي على دورات القمر، وتستغرق الدورة الكاملة ستين عاما وتتكون من خمس دورات مدة كل دورة اثنا عشر عاما، ويطلق على كل عام من هذه الأعوام الاثني عشر اسم حيوان ويبدأ أول الأعوام بعام “الفأر” ثم يأتي بعده في الترتيب أعوام “الثور، النمر، الأرنب، التنين، الثعبان، الحصان، الخروف، القرد، الديك، الكلب والخنزير”. وتروي الأساطير الصينية أن أسماء هذه الحيوانات مشتقة من أسطورة “بوذا” حيث طلب، حسب الرواية، من كل الحيوانات الحضور لتوديعه قبل أن يغادر الأرض، ولم يحضر إليه غير اثني عشر حيوانا مخلصا لتوديعه، وقد سُمى كل عام باسم كل واحد من هذه الحيوانات حسب ترتيب وصولها كمكافأة لها على حضورها وتسابقها لتوديعه، ومن هنا جاء اعتقاد الصينيين بأن الحيوان الذي يحكم العام التي يولد فيه الشخص له تأثير عميق على شخصيته، (وهناك العديد من الروايات والأساطير لأعياد الربيع أو العام القمري الصيني).
ويشير البعض إلى أن عيد الربيع مرتبط بقدوم الربيع، حيث إن الصين القديمة كانت مجتمعا زراعيا، وقد قام الصينيون عبر آلاف السنين باستخدام التقويم التقليدي بهدف إرشاد المزارعين إلى المواقيت المناسبة لزراعة المحاصيل وحصادها، وكان عيد الربيع محددا بأول يوم لموسم الربيع، ثم أصبح في بداية الشهر الأول من التقويم القمري التقليدي.
الاحتفالات والاستعدادات تبدأ مبكرا
تبدأ المظاهر الاحتفالية بوضوح قبل شهر من الموعد الرسمي لرأس السنة الجديدة (عيد الربيع)، حيث تحرص ربات البيوت على استقبال السنة الجديدة والقيام بكل ما يمكن القيام به من أجل إسعاد الأسرة والحصول على البركة والسعادة والخير بالعام الجديد، ومن أهم ما يقمن به ويحرصن عليه هو تنظيف البيوت وترتيب قطع الأثاث وتلميعها ونشر الزهور الطبيعية ذات الألوان الجميلة، خاصة اللون الأحمر وإطلاق البخور وتجهيز الأطعمة والحلوى التقليدية، كما يتم لصق شعارات حمراء خاصة بعيد الربيع على باب المنزل وهي رسوم صينية تقليدية، وعادة تكون لـ”إله الباب”، الذي يُعتقد وفقا للثقافة الصينية التقليدية أنه يطرد الأشباح والأرواح الشريرة بالإضافة إلى تزيين المنازل برسوم خاصة بالعام الجديد من الأزهار ونباتات الخضرة والإضاءات الملونة. وفي إطار الاستعدادات لقدوم عيد الربيع، تتزين الشوارع والحارات والحدائق والمحلات والمطاعم بالألوان الحمراء، إذ يتم وضع لافتات القماش الأحمر والفوانيس الصينية التقليدية والرسوم ذات اللون الأحمر والتي تكتب عليها كلمات صينية متكررة تعبر عن السعادة والفرح والبركة والتفاؤل بالخير والأموال الكثيرة.
أهم مظاهر الاحتفالات
تتميز احتفالات عيد الربيع في الصين بالعديد من المظاهر، ولعل من أهمها إطلاق الألعاب النارية طيلة الليل والنهار لدرجة يكاد يستحيل معها الخلود إلى النوم جرّاء الصوت المرتفع للألعاب النارية ولمواجهة تلك المسألة، قامت الحكومة الصينية مؤخرا باتخاذ العديد من الإجراءات لتقليل البذخ والمحافظة على البيئة من هذه المفرقعات.
وتبدأ الاحتفالات بعيد الربيع في الصين قبل أكثر من شهر من العيد، خاصة وأن هذه المناسبة ينتظرها الصينيون من العام إلى العام، لما لها من فرح بلقاء الأهل والأصدقاء مع تناول أطيب الأطعمة الصينية التقليدية التي تميز هذا العيد، مثل طعام يطلق عليه “جياوتسه”، وهو عبارة عن كرات من العجين محشوة باللحم والخضروات، وهناك أيضا الكثير من المأكولات الصينية التقليدية المرتبطة بعيد الربيع، والتي تختلف من مقاطعة لأخرى في هذه الأمة المتعددة القوميات والمترامية الأطراف، ويبقى طعام “جياوتسه” القاسم المشترك لأطباق عيد السنة القمرية الجديدة. وهناك أيضا أطباق صينية تقليدية، ومنها طبق يسمى “البركات الخمس”، وهي: بركة طول العمر والثروة والحكمة والاستقامة والسلام، كما يتزعم الأطباق الاحتفالية أيضاً طبق السمك وحساء السمك والذي يتفاءل به الصينيون.
وفي عيد الربيع تتجمع الأسر في الصباح، ويقوم الكبار بتقديم الهدايا والأموال للصغار، وتُقدّم النقود في مظروف أحمر تقليدي “هونغباو”. أما الآن ومع التقدم التكنولوجي يتم إرسال النقود من خلال تطبيق “ويتشات”، وهو أحد وسائل التواصل الاجتماعي بالصين، وخلال اليوم يتناول أفراد الأسرة الأطعمة اللذيذة والمشروبات والفواكه والحلوى، ويقضي أفراد الأسرة معظم اليوم مجتمعين وهم يتجاذبون أطراف الحديث ويلعبون الألعاب المُسليّة أو يستمعون للأغاني التقليدية. كذلك يُعد الذهاب إلى بعض الأماكن والحدائق العامة والمعابد التي تُقام فيها مهرجانات كبيرة، من المظاهر المرتبطة بالاحتفال بعيد الربيع لدى الصينيين.
وسائل الإعلام الصينية واحتفالات عيد الربيع
تقيم محطة تليفزيون الصين المركزية حفلة رأس السنة الجديدة في عشية العيد، وتبدأ عادة في تمام الساعة الثامنة مساء، وتستمر حتى منتصف الليل وبدء العام الجديد، وتكون الحفلة ضخمة جدا من حيث التنوع والإبهار، إذ تتضمن مجموعة من العروض الفنية وعروض الرقص التقليدي، بالإضافة لعروض الغناء والتمثيل وأيضاً بث بعض الأخبار والمشاركات من جميع المناطق داخل الصين، ويصل عدد متابعيها إلى ما يقرب من مليار ومائتي مليون مشاهد.
هل تغيرت مظاهر الاحتفال بعيد الربيع؟
هناك العديد من التغيرات التي طرأت على مظاهر الاحتفال بعيد الربيع الصيني، فقد أصبحت الحكومة الصينية تحظر المفرقعات في العديد من الأماكن بمختلف المدن والمقاطعات، وذلك في إطار المحافظة على البيئة من التلوث والضوضاء. كذلك، أصبحت التطبيقات التكنولوجية والبرامج على الهاتف النقال بديلا عن ذلك من خلال نماذج ثلاثية الأبعاد لصور وأصوات المفرقعات النارية، وهو ما يتم تبادله عبر الهاتف النقال، كتعبير عن المظاهر الاحتفالية بين الأهل والأصدقاء.
وبجانب ما سبق أصبح الأهل والأصدقاء والأزواج يتبادلون المظاريف الحمراء (التي كانت توضع بها الأموال المهداة) من خلال استخدام تطبيقات مثل “ويتشات” عبر الهاتف النقال.
وفي الختام، ومع احتفال الصين بتوديع عام “الثور” واستقبال عام “النمر”، وقدوم عيد الربيع، فإنه يطيب لي تهنئة الشعب الصيني الصديق بهذه المناسبة العزيزة، والتي يحتفظ عقلي وقلبي بذكريات جميلة عنها إبان تواجدي بالصين وهو ما يجعلني أحرص دائما أنا وأسرتي رغم انتهاء فترة عملي بالصين وعودتي إلى مصر، على مشاركة الأصدقاء الصينيين في الاحتفال بها، حيث تقيم السفارة الصينية ومكتبها الثقافي والجالية الصينية بمصر الاحتفالات بعيد الربيع، وعادة ما تتم دعوة الأصدقاء المصريين المهتمين بالصين للاحتفال معا، خاصة في ظل ما تشهده العلاقات المصرية- الصينية من تطور واضح خلال السنوات الماضية، ومن أبرز ملامحه التبادلات الإنسانية والشعبية والثقافية، والتي لم تتوقف لحظة واحدة رغم جائحة كوفيد- 19.
*المستشار الإعلامي الأسبق بسفارة مصر لدى الصين، وخبير في الشؤون الصينية